إن العمل القلبي الذي هو زيادة واستمرار ونماء لهذا العلم ولهذه المعرفة هو اليقين،
فإذاً نستطيع أن نستنتج نتيجة وهي: أنه ليس كل عالم موقن.
فالذين يعلمون أنه لا إله إلا الله ولا ريب عندهم في ذلك، بل لديهم القدر الذي يخرجهم
من حد الشكوك والريب، هم كثير، لكن المؤمنين منهم بصفات
اليقين التي نريد أن نتحدث عنها، والتي هي المقصود والغرض في هذا الموضوع هم قليل،
فالموقنون قليل، ويقابل ذلك في الأعمال الظاهرة أن المسلمين كثير.
ونعني بالمسلمين الملتزمين بأداء ما افترضه الله تبارك وتعالى من الأركان الظاهرة،
كما جاء في حديث جبريل عليه السلام، فهم يشهدون بأن لا إله إلا الله،
ويصلون، ويصومون، ويحجون ويزكون، إلى آخر ذلك، ولكنهم لم يرتقوا إلى درجة الإيمان،
كما قال الله تبارك وتعالى عن الأعراب
( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )
[الحجرات:14].
وأعلى من ذلك درجة الإحسان، فنحن هنا نتكلم عن اليقين،
باعتباره الإحسان في باب العلميات وفي باب الاعتقادات، كما أن الإحسان الذي فسره حديث
جبريل عليه السلام في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك}
وهذا في العمليات، وإن كان لا انفكاك ولا انفصال بين العلميات وبين العمليات،
لكن اليقين يطلق على ما هو من خصائص عمل القلب بالدرجة الأولى،
وتكون أعمال الجوارح ثمرة له، وتكون مما يصدقه
ويزيده وهو يزيدها، كما سنبين ونوضح إن شاء الله تبارك وتعالى.
فإذاً العلم هو أساس اليقين، وأما ضده ونقيضه فهو الشك والريب،
ولهذا يقول المشركون في إيمانهم بالساعة:
( إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ )
[الجاثية:32]
أي: ليسوا على يقين وإنما هم في ظن، وهذا الظن خالطه الشك بمعنى الريب.
لأن الظن يأتي بمعنى العلم كما في قوله تعالى: ( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) [الكهف:53]
وما أشبه ذلك، لكن المقصود هنا: ما كان فيه شك، فهؤلاء هم
أصحاب الشك في الآخرة: ( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ )
[النمل:66]
أو في شك من الله تبارك وتعالى الذي قال: ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ) [إبراهيم:10]،
تعالى عن ذلك عز وجل في أي أمر من أمور الغيب، فهذا الشك
وهذا الظن ينـزل أصحابه عن درجة اليقين بل عن درجة العلم.