مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي بن كلاب العبدري أحد السابقين إلى الاسلام، يكنى أبا عبدالله ـ قال أبوعمر أسلم قديما والنبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم وكتم اسلامه خوفا من أمه وقومه، فعلمه عثمان بن طلحة ـ وهو من بني عبدالدار كذلك ـ فأعلم أهله فأوثقوه فلم يزل محبوساً، إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة ثم رجع إلى مكة فهاجر إلى المدينة، وشهد بدراً ثم شهد شهد أحدا ومعه اللواء فاستشهد)..!
ان قصة مصعب في الاسلام، هي درس من دروس السماء الغالية لبني البشر، ليتعلموا حياة الرجال مع مبادئهم، واستعلائهم على الدنيا بما فيها من متاع مبهر أخاذ، بل والاكثر من هذا، أن يتقدم الولاء للعقائد قبل وفوق كل علائق وقرابات الدنيا..!
ان مصعب بن عمير نشأ مترفاً منعماً في قبيلة شريفة، كانت تتولى السدانة واللواء، فاجتمع له الشرف والثروة والنفوذ، لأن امه (خناس بنت مالك)، كانت ثرية وتتمتع بقوة فذة في شخصيتها لما هي فيه من مال وثروة وجاه وشرف، فنشأ صاحبنا في هذا الخضم من النعيم، وكان يحب أمه حباً جماً وفي نفس الوقت يرهبها ويخشاها، فغضبها اذا غضبت أليم مخيف، ومن ثم كان يخشى أن تعلم باسلامه، الذي كان مفاجأة لها ولأهله على وجه العموم..!!
ذلك أن مصعباً كان يتمتع بذكاء وفطنة، ساعدته أن يتبين الحق ونوره بمجرد أن وطأت قدماه بساط النور في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ويسأل عن شروط الانضمام والدخول في الدين الجديد، غير أنه خشى غضب امه فكتم إسلامه..!
ولأنه لا يدوم سر في مكة، وما استخفى لابد أن يعلم ويعلن، علمت أمه بما صنع، فقالت: ما هذا الذي أحدثت، اتركه وعد إلى دين آبائك، فوقف أمامها وامام عائلته، يتلو عليهم من نبأ الحق الذي تعلمه، وآيات الصدق الذي نزل على قلبه من فم النبي صلى الله عليه وسلم، بثبات يندر أن يتكرر، من إنسان في مثل موقفه بين الرغبة والرهبة، وربما كان ذلك من أثر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له وهو يضع يده على صدره أول ما طلب أن يسلم!!.
واستقر الرأي من أمه على حبسه في أقصى مكان في بيتها وأحكمت عليه اغلاقه، وظل في محبسه صابراً محتسباً، حتى اذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، لأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه وهرب ليخرج إلى الحبشة مهاجراً!!
والهجرة لم تكن كهجرة اليوم، اذ نرى الدول تستضيف المضطهدين في بلادهم على أرضها وتوفر لهم الامن والاقامة والاعاشة، وتعتبر ذلك من أمورها العليا التي تعلي شأنها وتحفظ هيبتها أن تجير من تريد، وتؤدي إليها من تريد؟!!
إنما هجرة المسلمين إلى الحبشة، كان المهاجر فيها من المسلمين، يترك بلده وأهله ودياره وماله، ويخرج من كل ذلك كالطريد الباحث عن مجرد المأوى، ثم يعتمد في طلبه للاعاشة على سعيه وكده في سبيل لقمة العيش يقيم بها صلبه ويحفظ بها حياته، ومن ثم كان اغلب من هاجر إلى الحبشة من المسلمين فقراء، يعانون شظف العيش في بلد غريب، غير بلدهم وارضهم التي ولدوا عليها ودرجوا على ترابها، واعتزوا بها واعتبروها شرفهم وحرمتهم وكانت محل فخارهم..!
واحتالت قريش فارسلت اليهم من يشيع أن أهل مكة دخلوا في دين محمد وسجدوا معه لربه، ففرح المهاجررون واستبشروا خيراً، ورأوا الا داعي أزن يظلوا في غربتهم ووحشتهم، فعادوا إلى مكة، غير أنهم بكل أسف، ووجهوا برغبة أكيدة من أهل مكة للقضاء عليهم واصلائهم نيران الغضب..!
ولقد حاولت أم مصعب أن تعيد ولدها إلى دينها، فتغدق عليه من ثروتها، ما يصلح به شأنه، ويعود إلى الترف والرفاهية وعز الجاه الذي كان عليه، فيلبس الحرير، ويخلع الثياب المرتعة، ويأكل الفاكهة بدل أوراق الشجر والحامض من الآدام، غير أنها فوجئت به يقول:
(يا أمة، إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)..
فردت عليه رداً عنيفاً يدل على اصرارها على أن يظل مع قومها على ضلالهم: (قسماً بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف عقلي)..!!
وأرادت أن تعيد حبسه، فأقسم إن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على تحقيق ذلك..
فقالت: اذهب لشأنك، لم أعد لك أما.. ولكنها بكت وهي تجده يفارقها باكيا، ويذهب إلى الحبشة مرة أخرى مع أصحابه الذين عادوا مودعاً ما يحلم به كثير من الناس من النعيم إلى الفقر من أسباب الدنيا..!
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم، فقد كان من بين من لقيهم ودعاهم نفر من المدينة، وافوه في الموسم المقبل، في العقبة وهم: أسعد بن زرارة، وذكوان، ابن عبد القيس الزرقي، وعبادة بن الصامت، والعباس بن عباده بن نضلة، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وعوف بن الحارث، وعويم بن ساعدة، ومالك بن النيهان، ومعوذ بن الحارث، ويزيد بن ثعلبة أبوعبدالرحمن البلوي، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل معهم معلما فاختار مصعبا لصحبتهم إلى المدينة، ليكون أول سفير له، يعلم المسلمين مباديء الدين وتعاليم الاسلام، ويقرئهم القرآن الكريم، ويدعو إلى صراط الله العزيز الحميد، ولذلك سموه: «القاريء المقريء»..!
وبحكمته في هديه إلى الله، كان لا يمر يوم على المدينة إلا ويضم الاسلام وافدا جديداً، تتسع به الرقعة، وتقوى به العدة، حتى كان العدد الذي بايع النبي صلى الله عليه وسلم في الموسم الثاني اثنين وسبعين رجلاً وامرأتين، غير من لم يستطع الحضور إلى العقبة..!!
وكان نزل مصعب بالمدينة على أسعد بن زرارة، وكان لفقه وعلمه وحكمته، ـ أي مصعب بن عمير، أول من جمع الجمعة في الاسلام، ويروي في ذلك، أنه كان الهاماً من الله تعالى قبل أن يؤمر المسلمون بصلاة الجمعة، وقبل أن تنزل سورة الجمعة في المدينة، وجاء فيها قول الله تبارك وتعالى: «يا أيها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون. واذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين»..!
ورفع قدرك فى عليين
جزاكِ الله خيرا..