كان أشْعَثَ أغْبَر(1) ضئيل الجسم مَعْرُوق العظم (2) تقتحمه ( 3) عين رائية ثم تَزْوَرّ عنه (4) ازْوِرَاراً .
ولكنه مع ذلك ، قَتَل مائة من المشركين مبارزة وحده ، عَدَا الذين قتلهم في غِمار المعارك مع المحاربين .
إنه الكَمِيُّ الباسل المِقدام الذي كتب الفاروق بشأنه إلى عُمَّالِه في الآفاق : ألا يُولوه على جيش من جيوش المسلمين ، خوفاً من أن يهلكهم بإقدامه.
إنه البراء بن مالك الأنصاري ، أخو أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو رُحْتُ أستقصي لك أخبار بطولات البراء بن مالك ، لطال الكلام و ضاق المقام ، لذا رأيت أن أعرض لك قصة واحدة من قصص بطولاته ، وهي تُنْبِيك (5) عما عداها .
(1) أشعث أغبر : متلبِّد الشعر أغبر الجسم .
(2) معروق العظم : مهزول الجسم ، قليل اللحم .
(3) تقتحمه : تنظر إليه بصعوبة .
(4) تزور عنه : تميل عنه وتنحرف .
(5) تنبيك : تخبرك .
صمد الصِّدِّيق رضوان الله عليه ، لهذه الفتنة المدمرة العمياء ، صمود الجبال الراسيات ، و جهَّز من المهاجرين و الأنصار أحد عشر جيشاً ، و عقد لقادة هذه الجيوش أحد عشر لواءً ، ودفع بهم في أرجاء جزيرة العرب ليعيدوا المرتدين إلي سبيل الهدى والحق ، و ليحملوا المنحرفين على الجادَّة (1) بحد السيف .
و كان أقوى المرتدين بأساً ، و أكثرهم عدداّ (( بنو حنيفة )) أصحاب مسيلمة الكذّاب .
فقد اجتمع لمسيلمة من قومه و حلفائهم أربعون ألفاً من أشداء المحاربين .
و كان أكثر هؤلاء قد اتبعوه عصبية (2) له ، لا إيماناً به ، فقد كان بعضهم يقول :
أشهد أن مسيلمة كذاب ، و محمداً صادق …
لكن كذاب ربيعة (3) أحب إلينا من كذاب مُضَر (4) .
(1) الجادّة : الصراط المستقيم الذي هو الإسلام .
(2) العصبية : شدة ارتباط المرء بعُصْبَته أو جماعته ، ونصرتها في الحق و الباطل .
(3) ربيعة : قبيلة كبيرة من قبائل العرب ينتمي إليها مسيلمة .
(4) مضر : قبيلة رسول الله صلى الله عليه و سلم .
فأرسل له الصديق جيشاً ثانياً بقيادة خالد بن الوليد ، حشد فيه وجوه الصحابة من المهاجرين والأنصار ، و كان في طليعة هؤلاء و هؤلاء البراء بن مالك الأنصاري ، ونفر من كُماة الصحابة .
التقى الجيشان على أرض (( اليمامة )) في (( نجد )) ، فما هو إلا قليل حتى رجحت كفة مسيلمة و أصحابه ، و زُلزلت الأرض تحت أقدام المسلمين ، و طفقوا يتراجعون عن مواقفهم ، حتى اقتحم أصحاب مسيلمة فُسْطاط (1) خالد بن الوليد ، و اقتلعوه من أصوله ، و كادوا يقتلون زوجته لولا أجارها واحد منهم .
عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم (2) ، و أدركوا أنهم إن يُهزموا أمام مسيلمة فلن تقوم للإسلام قائمة بعد اليوم ، و لن يعبد الله وحده لا شريك له في جزيرة العرب .
و هبّ خالد إلى جيشه ، فأعاد تنظيمه ، حيث ميَّز المهاجرين عن الأنصار ، و ميَّز أبناء البوادي عن هؤلاء و هؤلاء .
و جمع أبناء كل أبً تحت راية واحد منهم ، ليُعْرف بلاء كل فريق في المعركة ، و من أين يؤتى (3) المسلمون .
(1) الفسطاط : الخيمة الكبيرة .
(2) الخطر الداهم : الخطر الشديد المفاجئ .
(3) يؤتى المسلون : يصاب المسلمون .
و أبدى المسلمون من خوارق البطولات ما لو جُمِع لكان ملحمة (3) من روائع الملاحم .
فهذا ثابت بن قيس حامل لواء الأنصار يتحنط و يتكفن و يحفر لنفسه حفرة في الأرض ، فينزل فيها إلى نصف ساقيه ، و يبقى ثابتاً في موقفه ، يجالد عن راية قومه حتى خرَّ صريعاً شهيداً .
و هذا زيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، ينادي في المسلمين :
أيها الناس عضوا على أضراسكم ، و اضربوا في عدوكم و امضوا قُدُماً …..
أيها الناس ، و الله لا أتكلم بعد هذه الكلمة أبداً حتى يُهزم مسيلمة أو ألقى الله ، فأُدلي إليه بحجتي ….
ثم كرَّ على القوم فما زال يقاتل حتى قُتل .
و هذا سالم مولى أبي حذيفة يحمل راية المهاجرين؛ فيخشى عليه قومه أن يضعف أو يتزعزع ، فقالوا له :
إنا لنخشى أن نُؤْتى من قِبلك ….
(1) معركة ضروس : معركة شديدة مهلكة .
(2) لم يأبهوا : لم يهتموا ولم يلتفتوا .
(3) الملحمة : عمل شعري كبير ينظم في وصف الحروب و جيوشها وأبطالها .
إن أُتيت من قِبلي فبئس حامل القرآن أكون ……
ثم كرَّ على أعداء الله كرَّة باسلة ، حتى أُصيب .
و لكن بطولات هؤلاء جميعاً تتضاءل أمام بطولات البراء بن مالك رضي الله عنه وعنهم أجمعين .
ذلك أن خالدأ حين رأى وطيس (1) المعركة يحمى و يشتد ، التفت إلى البراء بن مالك و قال :
إليهم يا فتى الأنصار ……..
فالتفت البراء إلى قومه و قال :
يا معشر الأنصار لا يفكرنَّ أحد منكم بالرجوع إلى المدينة ؛ فلا مدينة لكم بعد اليوم …
ثم حمل على المشركين و حملوا معه ، و انبرى يشق الصفوف ، و يُعْمِل السيف في رقاب أعداء الله حتى زُلزلت أقدام مسيلمة و أصحابه ، فلجأوا إلى الحديقة التي عُرفت في التاريخ باسم (( حديقة الموت )) ؛ لكثرة من قُتل فيها في ذلك اليوم .
كانت ((حديقة الموت )) هذه رحبة الأرجاء سامقة الجدران (2) ، فأغلق مسيلمة و الآلاف المؤلفة من جنده عليهم أبوابها ، و تحصنوا بعالي جدرانها ، و جعلوا يُمطرون المسلمين بنبالهم من داخلها فتتساقط عليهم تساقط المطر .
(1) الوطيس : التنّور ، و يُقال حمى الوطيس أي اتقدت نيران الحرب و اشتدت .
(2) سامقة الجدران : عالية الجدران .
يا قوم ضعوني على تُرس ، و ارفعوا الترس على الرماح ، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابها ، فإما أن أستشهد ، وإما أن أفتح لكم الباب .
و في لمح البصر جلس البراء بن مالك على ترس ، فقد كان ضئيل الجسم نحيله ، و رفعته عشرات الرماح فألقته في (( حديقة الموت )) بين الآلاف المؤلفة من جند مسيلمة ، فنزل عليهم نزول الصاعقة ، و مازال يُجالدهم أمام باب الحديقة ، ويُعمل في رقابهم السيف حتى قتل عشرة منهم و فتح الباب ، و به بِضع (1) و ثمانون جِراحة ، من بين رمية بسهم أو ضربة بسيف …..
فتدفق المسلمون على (( حديقة الموت )) ، من حيطانها و أبوابها ، و أعملوا السيوف في رقاب المرتدين اللائذين (2) بجدرانها ، حتى قتلوا منهم قريبا من عشرين ألفاً ووصلوا إلى مسيلمة فأردوه صريعاً .
حُمل البراء بن مالك على رحله ليُداوى فيه ، وأقام خالد بن الوليد شهراً يعالجه من جراحه حتى أذن الله له بالشفاء ، و كتب لجند المسلمين على يديه النصر .
ظلَّ البراء بن مالك يتوق إلى الشهادة التي فاتته يوم (( حديقة الموت )) …..
(1) البِضع : من الثلاثة إلى التسعة .
(2) اللائذين : المحتمين .
فعلق كُلَّاب منها بأنس بن مالك – أخي البراء بن مالك – فما أن رآه حتى وثب على جدار الحصن ، و أمسك بالسلسلة التي تحمل أخاه ، و جعل يُعالج الكلاب ليُخرجه من جسده ؛ فأخذت يده تحترق و تدخِّن ، فلم يأبَهْ لها حتى أنقذ أخاه ، و هبط إلى الأرض بعد أن غدت يده عظاماً ليس عليها لحم .
وفي هذه المعركة دعا البراء بن مالك الأنصاري الله أن يرزقه الشهادة ؛ فأجاب الله دعاءه ، حيث خرَّ صريعاً شهيداً مغتبطاً بلقاء الله .
نضَّر الله وجه البراء بن مالك في الجنة ، و أقر عينه بصحبة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام ، ورضي عنه و أرضاه .
(1) تُستر : أعظم مدينة بخوزستان اليوم .
(2) القلاع الممردة : الحصون الملساء المرتفعة .
(3) تنشب : تغرز و تعلق .