مختصر المقالة:
اضطرابُ السلوك ناتج عن فساد الطويّة، وصلاحُ الأعمال ناتج عن سلامة الطويّة، ومن أسباب فساد السلوك شعور الإنسان بالفوقية على أخيه، والذي يُنتج بدوره التعالي والظُلمَ.
وهكذا أظهر الإسلام حضارته حينما رفع شعار المساواة، الذي لم يكن كلامًا للاستهلاك، لكنه كان ممارسةً تطبيقيةً عملية.
الحمد لله المُنفرِدِ بعزّته وهيمنته في ملكه، الذي لا إله إلا هو.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ عبدٍ مُقِرٍّ له بالوحدانية، مُتذلِّلٍ بين يديه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفه بأسمى أوصافه حينما وصفه بالعبودية{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد نبيّنا وحبيبنا وقُرّة أعيننا.
وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، ومن تبعه ووالاه بإحسان إلى يوم الدين.
أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله، وأحثُّكم على طاعته، وأنهاكم عن معصيته ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
أما بعد:
اضطرابُ السلوك ناتج عن فساد الطويّة، وصلاحُ الأعمال ناتج عن سلامة الطويّة، ورحم الله من قال: "حُسْنُ الأَعْمَالِ نَتَائِجُ حُسْنِ الأَحْوَالِ".
ومهما أردنا أن نعيش حالةً من التغيير في السلوك، والنهضةِ في الأعمال الصالحة عبادةً ومعاملةً، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق لنا ما لم يتحقق للنفوس نقاؤها وصفاؤها وطهارتها وتزكيتها…
ومن أسباب فساد السلوك آفة تنتشر بين الناس، وهي شعور الإنسان بالفوقية على أخيه، والذي يُنتج بدوره التعالي، ويُنتج الظُلمَ واضطرابَ المعاملة، والشعورُ بالتعالي والفوقية على الناس ما هو إلا نتيجة لنسيان الحقيقة، فقد خلق الله سبحانه وتعالى البشر من التراب، ألم يقل ربّنا سبحانه وتعالى وهو يُخاطبنا:
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]؟
وحينما ينسى البشر أصلهم الترابي هذا، وينسَون أنهم أبناء أبٍ واحد، يَنتج التعالي والظلم.
وقد جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي رحمهما الله: (النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ).
وقال سبحانه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}
نعم.. فأصل الناس أب واحد، وهذا الأصل ما هو في الحقيقة إلا نسبة إلى التراب، وحينما ينسى الإنسان هذه النسبة يقع في آفة الفوقية، ويقع في آفة التعالي على الخَلق.
ومن قرأ قوله تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 7-10] فإنه يقرأ معنىً ينفعه ويردّه إلى عبوديته، فقد بيّن سبحانه وتعالى أن السماء مرفوعة: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا} وأن الأرض موضوعة: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا}.
فالسماء مرفوعة، والأرض موضوعة، والنسبة إلى التراب نسبة موضوعة، أما نسبة الروح إلى السماء فإنها نسبة مرفوعة، لكن هل يشعر الإنسان بفوقيته ويتعالى على الخَلق من خلال نسبته إلى السماء، أم أنه يشعر بهذه الفوقية لما يرى في يده من الأموال، أو لما يرى في يده من الجاه والسلطان؟
إنها النسبة الترابية التي تجرّ الإنسان إلى هذه الآفة البشعة، ويتظالم الناس بعدها، ويتعالى بعضهم فوق بعض، وينشأ الاضطراب في السلوك…
نعم.. ربّنا تبارك وتعالى أراد أن يُنبّهنا إلى هذه النسب التي لا تستحقّ شعورًا بالفوقية.
واقرؤوا في سورة الفجر قوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 15-20].
أنتم تغترون بالنسب الترابية المادية، ولو أنكم صححتم المفهومات فإنكم سوف تزحفون من أجل أن تترقى أرواحكم، ولما كان وصف الروح خفيًّا فإنه سبحانه وتعالى حضّ الإنسان على أن يتقرّب بالطاعات إليه لعله يتنوّر، لكنه لا يستطيع في كل الأحوال أن يجزم بأن وصف روحه قد تفوّق على وصف روح غيره.
وهكذا قال سبحانه: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}إذًا: هذا هو الطريق إلى الرفعة، الذي هو التكليف الشرعيّ، والذي به تتنوّر الأرواح، وبه تسمو القلوب وتزكو النفوس.
{كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}
ثم ذكّر الإنسان بعدها بذلك الموقف الذي يقفه بين يديّ ربّه، حينما تنتهي كل هذه الفوارق، فلا يبقى فرق بين غني وفقير، أو مُستأجِرٍ وأجير، فقال:
{كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 21-24] أي: يا ليتني قدّمت لقلبي وروحي، لأن الحياة مفهوم يرتبط بالروح..
قالت عائشة رضي الله عنها للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حين كان مُتوجِّهًا إلى مشاعر الحج: "يا رسول الله، ألا نبني لك في منى بيتًا أو بناءً يكون لك ظلاًّ من الشمس؟".
هل نُهيئ لك يا رسول الله في منى بناءً حجريًّا أو طينيًّا فإذا وصلت إلى منى وجدت أن المكان ينتظرك فلا تبحث عن مكان في وقت الازدحام؟
ماذا أجابها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما يروي الإمام أحمد في مسنده؟
قال: (لا.. إنما هو مُنَاخٌ لَمن سَبَقَ)، فالذي يسبق إلى هذا المكان فهو حقه.
وهكذا تحدّث سيّد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم الذي شرّف الله قدره ورفع مقامه، الذي هو أفضل المخلوقين على وجه الأرض والسماء، وما رضي أن يحيد عن المساواة في أرض هذه الدنيا، وفي دار التكليف.
فرفعُ الدرجات هناك، أما هذه الدار التكليفية فإنها ليست من أجل أن تظهر الفوارق بين الناس، فالتكليف مُنْصَبٌّ أسبعلى الجميع ومُنسحِبٌ عليهم جميعًا، ولا فرق بين أحد منهم في التكليف أبدًا.
قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] وهكذا أظهر الإسلام حضارته حينما رفع شعار المساواة، والذي لم يكن كلامًا للاستهلاك، لكنه كان ممارسةً عملية.
وذكر أبو نُعيم في حليته أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما وصل إلى الشام قالوا له: لو نـزلت عن جملك يا أمير المؤمنين واتخذت حصانًا كما يدخل الفاتحون! سوف تدخل وتُمسك بمفاتيح بيت المقدس، والناس ينتظرونك يا أمير المؤمنين، فلو ركبت حصانًا.. فنظر إليهم وقال: "لا أراكم ههنا" وأشار إلى الأرض، "إنما الأمر من ههنا" وأشار إلى السماء.
إنه لم يكن ينظر إلى الأرض، لكنه كان ينظر إلى السماء، ولم يكن ينظر إلى النّسب الترابية، إنما كان ينظر إلى رضا الله سبحانه وقبوله، فإذا قَبِل الله عبده نال السعادة التي ما بعدها سعادة، وإذا سقط من عين الله فإنه لا قيمة له حتى وإن مَلَك أموال الدنيا كلها..
بهذا الشعور نعود إخوة، وتنتفي الفوارق، ونرجع مُتمثِّلين بحقائق حضارتنا الإسلامية، فلا نتحدّث عن المساواة كلمةً تُقال في الهواء، لكننا عندها نتحدّث عن المساواة ونحن نعيشها ممارسةً تطبيقيةً عمليةً.
عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب من شئت فإنك مُفارِقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
المقالة منقولة للفائدة من موقع البدر الإسلامي وفيه يمكنك قراءة المقالة باللغة الإنكليزية لمن يرغب بذلك