هاذم اللذات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على افضل المرسلين، وعلى آله وصحبهِ أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد…
إذا كانت الحياة تملأ هذا الوجود، والكون يعج دائماً بالأحياء، فإن كل حياة وكل حي إنما مصيره عاجلاً أو آجلاً إلى وفاة محققة وموت مؤكد.
والرسول الكريم محمد r يقول لنا: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات" (أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن). فذكر الموت يوجب التجافي عن دار الغرور ويتقاضى الاستعداد للآخرة، والغفلة عن الموت تدعو إلى الانهماك في شهوات الدنيا.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "تحفة المؤمن الموت" (حديث حسن). وإنما قال هذا لأن الدنيا سجن المؤمن، إذ لا يزال فيها في عناء من مقاساة نفسه ورياضة شهواته ومدافعة شيطانه، فالموت إطلاق له من هذا العذاب، والإطلاق تحفة في حقه.
والموت ظاهرة عجيبة ورهيبة تستحق التأمل والتفكر لاستثارة المعاني والعبر العظيمة الكامنة فيها، وهي تحدث أمامنا لمرات عديدة لا حصر لها، ففي كل يوم يمر من حياتنا لابد أن نرى فيه موتاً يحدث أمامنا لإنسان قريب منا أو بعيد، أو لحيوان أو لنبات أو لورقة شجرة، وإذا أردت أن تعرف وفرة حدوث ظاهرة الموت في حياتنا فاعلم أنه في كل ثانية واحدة تموت (125 مليون) خلية حية من خلايا جسم إنسان واحد وتستبدل مكانها بخلايا حية جديدة!!!
وبعد فهذه جولات تفكرية قصيرة في ظاهرة الموت، نرى فيها بعضاً من الآيات والبينات العظيمة المتجلية فيها.
S الموت آية على الخالق الباقي الواحد الأحد
كما أن الموجودات والمخلوقات في هذا الكون تشهد بوجودها على الخالق جل جلاله، فإنها تشهد بموتها وزوالها وبمجيء أمثالها عقبها على أزليته وسرمديته ووحدانيته جل جلاله كالشمس المتجلية في قطرات ماء النهر الجاري، فإن زوال تلك القطرات مع استمرار تجلي الضياء على أمثالها الآتية عقبها دليل وشاهد على بقاء الشمس في تجلياتها، وأن كل هذا التجلي أثر شمس واحدة، فيظهرون وجودها بوجودهم، وبقاءها ووحدتها بعدمهم وزوالهم.
وهكذا فإن هذه المخلوقات الجميلة الموجودة في هذا الكون تشهد بوجودها وبموتها وتجددها على وجود ذي جمال سرمدي دائم التجلي، وعلى بقائه ووحدته.
بسم الله الرحمن الرحيم
((كل من عليها فان a ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرامa)) (الرحمن: 26-27).
((الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركونa)) (الروم: 40).
S الموت آية على مالك الملك جل جلاله
ظاهرتا الحياة والموت في هذا الوجود الذي نحن جزء منه ظاهرتان عجيبتان، تأتي الحياة إلى الحي دون اختيار منه أو استدعاء، ثم يأتيه الموت دون اختيار منه، ودون أن يستطيع دفعه.
فلا حي في هذا الكون المشهود لنا يملك حياته، أو يستطيع دفع الموت عن نفسه إذا جاء أجله.
ولا حي في هذا الكون اختار نوع حياته، ولا زمانها، ولا مكان ظهورها، ولا الأصل الذي انحدرت منه.
ولاحي يستطيع التصرف في بناء جسده الحي، ولا في خلية واحدة من خلايا جسمه، وصفة واحدة من صفاته.
فكيف جاءت الحياة للأحياء؟ وأي شيء في الوجود يملك حياة هؤلاء الأحياء؟ إذا كانوا هم لا يملكون أنفسهم، ولم تكن لهم الخيرة في وجودهم، ولا في حياتهم، ولا تكون لهم خيرة عند موتهم، فأي شيء في الوجود يملك ذلك فيهم؟
هل لآبائهم وأمهاتهم قدرة على اختيار شيء مما جاءوا مزودين به من صفات؟
إن الجواب يأتينا من كل الآباء والأمهات بالنفي.
فهل تملك الأرض بترابها وصخورها ومعادنها ومائها وهوائها وسائر ما فيها شيئاً من ذلك للأحياء؟
إن الجواب الذي تنطق به طبيعة الأرض وما فيها: إنني مسخرة للأحياء، ولا أملك منهم أو لهم شيئاً.
فهل الشمس أو القمر أو شيء من النجوم والكواكب في هذا الفلك الكبير يملك ذلك أو شيئاً منه؟
إن الجواب الذي تنطق به النجوم والكواكب وفق معارف علماء الفلك: إننا مسخرات في السماء، لا نملك لأنفسنا ولا لغيرنا شيئاً.
عندئذ ينفتح للعاقل السائل طريق هدايته إلى الحقيقة، فيقرر بشكل قاطع: أن مالك الحياة والموت، ومالك ذوات الأحياء، ومالك كل شيء في هذا الكون المشهود هو موجود عظيم، لا تدركه الابصار، إنه مبدع هذا الوجود المشهود لنا وهو مالكه، إنه الخالق القادر العليم الحكيم، بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
وهكذا فإن ظاهرة موت واحدة لإنسان أو حيوان أو نبات أو خلية حية واحدة من المخلوقات الحية آية بينة ودليل ناصع على مالك الملك جل جلاله.
قال تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم:((تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قديرaالذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفورa)) (الملك: 1ـ2).
S الموت آية على زوال الدنيا وفنائها
وهذا دليل ظاهر وواضح، لا يحتاج إلى شرح وأمثلة وتفصيل.
قال سيدنا الحسن البصري: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا.
وقال سيدنا إبراهيم التيمي: شيئان قطعا علي لذة الدنيا، ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل.
وقال مطرف بن عبد الله: إن هذا الموت قد نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه.
فالموت دليل ظاهر على زوال الدنيا وذهابها، وإنها دار فناء لا دار بقاء.
بسم الله الرحمن الرحيم: ((قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملونa)) (الجمعة: 8).
S الموت آية على الآخرة
إن مجيء الحياة إلى الدنيا هو بخلق وبتقدير إلهي، وكذلك ذهابها من الدنيا هو أيضاً بخلق وبتقدير وحكمة وتدبير إلهي.
أنظر إلى موت أبسط الأحياء كالنبات والحيوان مثلاً كيف أن بموتها وتحللها وتفسخها تحافظ على توازن عناصر التربة لتكون صالحة لخلق حياة نباتات جديدة فيها، وأن بذور تلك النباتات الميتة تكون سبباً لبدء حياة جديدة، فهذا الموت إذن مخلوق منتظم كالحياة.
وكذلك فإن ما يحدث في معدة الإنسان من موت لثمرات حية، أو غذاء حيواني، هو في حقيقته بداية ومنشأ لصعود ذلك الغذاء في أجزاء الحياة الإنسانية الراقية، فذلك الموت إذن مخلوق اكثر انتظاماً من حياة تلك الأغذية.
فلئن كان موت النبات ـ وهو في أدنى طبقات الحياة ـ مخلوقاً منتظماً بحكمة، فكيف بالموت الذي يصيب الإنسان وهو في أرقى طبقات الحياة؟ فلا شك أن موته هذا سيثمر حياة دائمة في عالم البرزخ، تماماً كالبذرة الموضوعة تحت التراب والتي تصبح بموت النبات الذي حملها نباتاً رائع الجمال والحكمة في عالم الهواء.
وهكذا فإن الموت دليل واضح وبرهان صادح على حياة الآخرة الباقية.
وأخيراً…
نعود لنذكر أنفسنا وأحبابنا بوصية الرسول الكريم r :
"أكثروا من ذكر هاذم اللذات"
جزاك الله خيرا
حقا إن التذكير بالموت لهو خير واعظ فمن لم يتعظ بالموت ليس له واعظ .
إنه يحيى القلوب ويذكر بالعرض على علام الغيوب .
ويقطع الأمل الطويل فى الدنيا ويجعلنا نتطهر من الذنوب استعداد ليوم الرحيل
اللهم احسن خاتمتنا واكتب لنا عملا ترضاه منا وتقبلنا ياربنا
جزاكم الله خير وبارك الله فيكم
على التعليق والمرور
إن هذا الموت قد نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه.
بارك الله فيكم