وقفة مع الاعتكاف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم
الاعتكاف هو لزوم مسجد بنية مخصوصة لطاعة الله تعالى،
وهو مشروع مستحب مسنون باتفاق أهل العلم.
حكم الاعتكاف وإهمال الناس له
قال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود : لا أعلم أحداً من العلماء إلا قال إنه مسنون. يعني الاعتكاف.
وقد نقل عن الإمام مالك أنه قال: تأملت أمر الاعتكاف وما ورد فيه، وكيف أن المسلمين تركوه،
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتركه، فرأيت أنهم إنما تركوه لمشقة ذلك عليهم -أي أن فيه مشقة- قال مالك :
ولم أعلم عن أحداً من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن .
وما قاله الإمام مالك متعقب؛ فإنه نقل عن جماعات من السلف أنهم كانوا يعتكفون،
ومن ذلك أمهات المؤمنين كما سوف يأتي.
ولذلك قال الزهري رحمه الله: عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف،
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.
سر الاعتكاف
والاعتكاف فيه سر عظيم من أسرار العبادة، وذلك لأن المدار في حياة الإنسان وأعماله على القلب،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:
{ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله}.
وأكثر ما يفسد القلب هي الشواغل والملهيات التي تلهيه عن الإقبال على الله عز وجل؛
كالاشتغال بالطعام والشراب والشهوات، وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة،
وغير ذلك من الأمور الضارة التي تصرف القلب عن الإقبال على الله عز وجل، وتفرقه وتشتته حتى لا يكاد
يلتم ويجتمع على عبادة أو طاعة.
سر الربط بين الصيام والاعتكاف
وشرع الله تعالى الصيام حتى يتخلص القلب ويتخفف من فضول الطعام والشراب والشهوة؛
لأن الإنسان في نهار رمضان يمتنع عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس،
وهذا امتناع معتدل ليس فيه ما في الأديان الأخرى والمذاهب الأرضية الباطلة من الغلو،
كما يفعل بعضهم فيصومون شهراً كاملاً، وبعضهم يجورون على الجسد فيمنعونه الأكل والشراب والنوم والطعام على مدى
أيام وربما شهور، وبعضهم قد يدفنونه في الأرض فيجورون على أجسادهم، فليس هذا في الإسلام
بل فيه حِمية معتدلة، هذا بالنسبة للصيام.
ثم شرع الله تعالى الاعتكاف؛ حتى يتخلص الجسد والقلب من فضول صحبة الناس التي لا خير فيها،
والتي قد تزيد فتصبح مثل ما إذا أصيب الإنسان بالتخمة من كثرة الطعام والشراب
ومن اسراره قلة الكلام لأن الإنسان غالباً ما يعتكف بمفرده، فيقبل على الله تعالى
بالصيام والقيام وقراءة القرآن وما أشبه ذلك.
ومن اسراره ايضا قلة النوم، فإن الإنسان إنما اعتكف ليعبد الله تعالى، ولم يعتكف حتى ينام في المسجد،
فيكون في ذلك من الإقبال واجتماع القلب على الله تعالى ما ليس في غيره.
ولذلك استحب السلف الجمع بين الصيام والاعتكاف، حتى قال ابن القيم رحمه الله:
إن جمهور السلف على أنه لا اعتكاف إلا بصوم.
بل صح هذا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[لا اعتكاف إلا بصوم]]
فرأوا أن الاعتكاف لا يصح إلا بالصيام، وهذا مذهب جماعة من الأئمة؛
وذلك حتى يجمع للإنسان بين الصيام وبين الاعتكاف فيحصل فضائل هذا وفضائل ذاك.
وقال الإمام ابن القيم : إنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف إلا وهو صائم.
إطلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه
النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف؛ ولذلك يجدر بنا أن نطل إطلالة سريعة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه،
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان يلتمس ليلة القدر،
ثم اعتكف العشر الأوسط من رمضان، فلما خرج الناس من معتكفهم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب بهم،
وقال: {إني أريت ليلة القدر في العشر الأواخر، وإني أريت صبيحتها كأني أسجد على ماء وطين،
فمن كان معتكفاً معي فليرجع إلى معتكفه}.
والحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري
فرجع الناس إلى معتكفهم -أي: اعتكفوا عشرة أيام أخرى، وهي العشر الأواخر من رمضان-.
قال أبو سعيد : وما نرى في السماء من قزعة حتى كان تلك الليلة، فجاءت سحابة فأمطرت،
وكان سقف المسجد من جريد النخل، فسال سقف المسجد، قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
سجد على ماء وطين، والتفت إلينا وإن أثر الطين على جبهته وأنفه – عليه الصلاة والسلام-
فتحققت نبوءته صلى الله عليه وسلم بذلك ، وتبين أن تلك الليلة كانت ليلة القدر،
وكانت ليلة إحدى وعشرين، فاعتكف صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان،
ثم حافظ بعد ذلك على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت:
{كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده}.
وفي العام الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف -أيضاً- عشرين يوماً، أي: اعتكف العشر الأوسط مع العشر الأواخر، وذلك لأسباب:
منها -والله تعالى أعلم-: أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين -كما سبق-
فناسب أن يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً حتى يتمكن من معارضة جبريل بالقرآن كله مرتين.
ومنها: أن في ذلك مضاعفة العمل الصالح؛ حينما أحس عليه الصلاة والسلام بقرب أجله ودنو وفاته؛
ولهذا قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم :
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}
[النصر:1-3]
فالله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار في آخر عمره.
وهكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم ، يكثر من أن يقول في ركوعه، وسجوده:
{ سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي} يتأول القرآن عليه الصلاة والسلام،
فاعتكف عشرين يوماً في السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم، لمناسبة قرب وفاته ليضاعف العمل الصالح.
وقد يكون من أسرار مضاعفة اعتكافه: أن يكون ذلك شكراً لله عز وجل على ما أنعم به عليه من هذه الأعمال الصالحة؛
من الجهاد والتعليم، والصيام والقيام وإنـزال القرآن، وغير ذلك من الأعمال التي امتن الله تبارك وتعالى بها عليه.
وقت الاعتكاف
وكان عليه الصلاة والسلام يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الأيام التي يريد أن يعتكفها،
فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواسط -مثلاً- دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي عشر،
وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين.
وذلك لأن العشر الأواخر تبدأ من غروب شمس يوم عشرين، أما ما ثبت عنه في الصحيح:
{ أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم دخل معتكفه}
فإنما المقصود أنه دخل المكان الخاص في المسجد حيث كان يعتكف في غرفة،
كما ورد أنه اعتكف في مكان خاص، -في قبة تركية كما جاء في بعض الروايات-
فكان يدخل هذا المكان الخاص، وإلا فقد كان في المسجد منذ غروب الشمس.
مكان الاعتكاف
أن الاعتكاف جائز في كل مسجد يصلى فيه، ويستحب أن يكون في المسجد الجامع؛
حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة.
فإن اعتكف في مسجد غير جامع فإنه يخرج ليصلي الجمعة ثم يعود؛ وذلك لقول الله عز وجل:
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
[البقرة:187]
فدل ذلك على أن الاعتكاف في كل مسجد جائز، إذا كان مسجداً تصلى فيه الفروض الخمسة،
فإن كان جامعاً فهو أفضل.
من الملاحظات على الاعتكاف
أن بعض الناس يعتبرون الاعتكاف فرصةً للخلوة ببعض أصاحبهم وأحبابهم،
وتبادل أطراف الحديث، وكون مجموعة يعتكفون في مسجد، هذا لا حرج فيه؛
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف، واعتكف معه أزواجه، حتى إن إحدى أمهات المؤمنين
اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مستحاضة؛ حتى كانت ترى الدم وهي في المسجد.
إذاً: فلا حرج أن يعتكف الإنسان مع صاحبه، أو قريبه أو حبيبه أو صديقه؛ لكن الحرج أن يكون الاعتكاف فرصةً للأحاديث،
والسمر، والسهر، والقيل والقال وما أشبه ذلك.
ولهذا قال الإمام ابن القيم بعدما تكلم عن الاعتكاف وما يفعله بعض الناس، وما يتوسعون فيه من الكلام وغيره
قال: فهذا لون، واعتكاف رسول الله e لون آخر، -أي: مختلف تماماً عن اعتكاف هؤلاء-.
وكذلك أن بعض الناس يعتكفون ويتركون أعمالهم وواجباتهم، وبعضهم قد يترك عمله الوظيفي
الذي كلف به وألزم به، ويذهب ليعتكف.
وليس من العدل أن يترك الإنسان واجباً ليفعل السنة، ولذلك يقال لمن اعتكف
وترك عمله الوظيفي، إنه يجب عليه أن يقطع الاعتكاف، ويعود إلى عمله الذي ترك.