وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
سبحان من وسع علمه كل شيء، سبحان من جعل أمر المؤمن كله خير ولن يكون
العبد مؤمناً حتى يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، حلوه ومره.
قال الله تبارك وتعالى:
(.. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِعَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ
سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ..)سبأ47
القضاء: هو بالمد ، ويقصر ، أصله قضاي ؛لإنه من قضيت إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف همزت.
وعلى هذا فالإيمان بالقضاء
والقدر معناه: الإيمان بعلم الله الأزلي، والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه وتعالى..
بإرادته ومشيئته وأنه خالقُ كلِّ شيء..يخلقُ ما يشاء فعّالٌ لما يريد، ما شاءَه كانَ، وما
لم يشأْ لم يكنْ، بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ، يحي ويميت، وهوعلى كل شيء قديرٌ.
يهدي من يشاءُ بفضله، ويضلُّ من يشاء بعدلهِ،لا معقِّبَ لحكمِه، ولا رادَّ لقضائهِ،خلق الخلقَ، وقدَّر أعمالَهم وأرزاقَهم وحياتهَم وموتهَم،
قال تعالى:(.. ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوعَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ..)الأنعام102،
وقال تعالى: (.. وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ
لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُإِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ..) سبأ3،
وعن طَاوُس،أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ،
وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ،وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْلِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ،أَنْتَ إِلَهِي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ..)أخرجه الشيخان .
والدرجة الثانية: الإيمانُ بمشيئةِ الله النافذةِ، وقدرتهِ الشاملةِ،وأنَّ ما شاء اللهُ كانَ،
وما لم يشأْ لم يكنْ،وأنهُ ما في السماواتِ والأرضِ منْ حركةٍ ولا سكونٍ إلا
بمشيئةِ الله سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكِه إلا ما يريدُ.
عن عَبْدِ الْحَمِيدِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، أَنَّ أُمَّهُ حَدَّثَتْهُ وَكَانَتْ تَخْدِمُ بَعْضَ بَنَاتِ النَّبِيِّ ، أَنَّ
ابْنَةَ النَّبِيِّ حَدَّثَتْهَا أَنَّ النَّبِيَّ r كَانَ يُعَلِّمُهَا فَيَقُولُ:
(.. قُولِي حِينَ تُصْبِحِينَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَبِحَمْدِهِ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، كَانَ وَمَا لَمْ
يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّهُ مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ..)أخرجه أبوداود .
ومع ذلك فقدْ أمرَ سبحانه وتعالى ، العباد بطاعتِه وطاعةِ رسلهِ ونهاهُم عن معصيتِهِ، قال تعالى:
(.. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ..)التغابن12
*- غِنَى اللهِ الكاملِ عن العبادِ ؛ حيثُ لا تنفعهُ طاعةُ المطيع كما لا تضرُّه معصية العاصي. وغناهُ تعالى شاملٌ ومطلقٌ، قال تعالى :
(.. يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوالْغَنِيُّ الْحَمِيدُ..) فاطر15.
وهويفيد في طمأنينةِ القلبِ عند المؤمنِ في هذا الباب، وأنَّ الله تعالى ليس بحاجة
إلى العباد حتَّى يجبرَهم أويعذبَهم بغيرِ ذنبٍ يستحقونَ العقابَ عليه قال تعالى:
(.. مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا..) النساء147.
والثقلب حيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد..
وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ. وما ينحرف عن طريق الله بعد ذلك إلا من يريد أن ينحرف.في غير عذر ولا مبرر!
والإيمانُ بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعملَ ويقدِمَ على عظائم الأمور بثباتٍ وعزمٍ ويقينٍ.
2* ومنْ آثارِ الإيمان بالقدَر أن يعرفَ الإنسانُ قدْرَ نفسه،فلا يتكبَّر ولا يبطُر ولايتعالى أبدًا ؛لأنهُ عاجزٌ
عن معرفةِ المقدورِ،ومستقبل ِما هوحادثٌ، ومن ثمّ يقرُّ الإنسان بعجزهِ وحاجتِه إلى ربِّه تعالى دائمًا.
وهذا من أسرارِ خفاءِ المقدور، قال تعالى:
(.. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ..)الحديد23
3* ومنْ آثارِ الإيمان بالقدَرِ أنه يطردُ القلقَ والضجرَ عند فواتِ المراد أوحصولِ مكروه ٍ،لأنَّ ذلك بقضاءِ الله تعالى الذي له ملكُ السموات والأرض،
وهوكائنٌ لا محالةَ، فيصبرُ على ذلك ويحتسبُ الأجرَ، وإلى هذا يشيرُ الله تعالى بقوله:
(.. مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) ..)الحديد .
لَهُ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ، فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي،
قَالَ: (.. لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ،وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ،وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ،وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ..)،
قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ:
(.. ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَ ذَلِكَ..)أخرجه أبوداود
وعَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ :
(..عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ،وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ..)أخرجه مسلم .
*-الإيمانُ بالقدَر يقضي على كثيرٍ من الأمراض التي تعصفُ بالمجتمعات، وتزرعُ الأحقـادَ بين المؤمنين، وذلك مثلُ رذيلةِ الحسَدِ، فالمؤمنُ لا يحسدُ الناس
على ما آتاهم اللهُ من فضله ؛لأنه هوالذي رزقَهم وقدَّر لهم ذلك، وهويعلم أنه حين يحسدُ غيره إنما يعترضُ على المقدورِ،
قال تعالى عن اليهود: (..أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا..)النسا54ء.
وهكذا فالمؤمنُ يسعى لعملِ الخير، ويحبُّ للناس ما يحــبُّ لنفسه، فإنْ وصلَ إلى ما يصبوإليه حمِدَ الله وشكرَهُ على نِعَمِهِ، وإنْ لم يصلْ إلى شيءٍ
من ذلك صبرَ ولم يجزعْ، ولم يحقِدْ على غيرهِ ممنْ نالَ من الفضلِ ما لم ينلْهُ ؛لأن اللهَ هوالذي يقسِم الأرزاق بين العبادِ
ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد، وظروف الحياة، وعلاقات المجتمع.. وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها.
والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور، وجميع البيئات، وجميع المجتمعات هي:
(.. لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا..)
( ليتخذ بعضهم) يعني: ليتخذ الغني (بعضاً) يعني: الفقير (سخرياً)
أويردُّ إحسانهُ بالإساءةِ أوينالُ من عرضهِ بغير حق ٍّتجدهُ يعفوويصفحُ،لأنه يعلم أن ذلك مقدّرٌ، وهذا إنما يحسنُ إذا كان في حقِّ نفسهِ،أمّا في حقِّ الله فلا يجوزُ العفو
ولا التعللُ بالقدَر،لأن القدرَ إنما يحتجُّ به في المصائبِ لا في المعايبِ.،
*- والإيمانُ بالقدَر يغرسُ في نفس المؤمن حقائقَ الإيمان المتعددة، فهودائم ُالاستعانةِ بالله، يعتمد على الله ويتوكلُ عليه مع فعل الأسبابِ،
وهوأيضًا دائمُ الافتقارِ إلى ربه تعالى.. يستمدُّ منه العونَ على الثبات، ويطلبُ منه المزيد، وهوأيضًا كريمٌ يحبُّ الإحسانِ إلى الآخرين، فتجده يعطفُ عليهم.
*- ومن آثارِ الإيمان بالقدَر أنَّ الداعيَ إلى الله يصدعُ بدعوتهِ، ويجهرُ بها أمام الكافرين والظالمين،لا يخافُ في الله لومة لائمٍ، يبيّنُ للناس حقيقةَ الإيمان،
ويوضحُ لهم مقتضياته، ويكشف الباطلَ وزيفهُ ودُعاتهِ
عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (..أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ،أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ..)أبوداود .
*- الإيمانُ بالقدَر طريقُ الخلاصِ من الشركِ،وهومفرقُ الطريقِ بين التوحيدِ والشركِ، فالمؤمنُ بالقدَر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادرٌ عن إلهٍ واحدٍ،
ومعبودٍ واحدٍ، ومن لم يؤمنْ هذا الإيمانَ،فإنه يجعلُ مَنْ دونَ الله آلهةً وأرباباً.
*- وهويفضي إلى الاستقامةِ على منهجٍ سواءٍ في السّراءِ والضرّاءِ،لا تبطرُه النعمةُ، ولا تيئسهُ المصيبةُ، فهويعلمُ أن كلَّ ما أصابهُ من نعمٍ
وحسناتٍ فمنَ اللهِ،لا بذكائهِ وحسنِ تدبيرهِ، وإذا أصابَهُ الضراءُ والبلاءُ علِم أن هذا بتقديرِ اللهِ ابتلاءً منه، فلا يجزعُ ولا ييأسُ، بل يحتسبُ ويصبرُ،
فيسكبُ هذا الإيمان في قلبِ المؤمن الرضا والطمأنينةَ،
*- المؤمنُ بالقدر دائماً على حذر من أن يأتيهُ ما يضلُّه، كما يخشى أن يُختمَ له بخاتمةٍ سيئةٍ، وهذا لا يدفعه إلى التكاسلِ والخمولِ، بل يدفعُه إلى المجاهدةِ
الدائبةِ للاستقامة، والإكثار من الصالحاتِ، ومجانبةِ المعاصي والموبقاتِ،كما يبقى قلبُ العبد معلقاً بخالقِه، يدعوهُ ويرجوهُ ويستعينُه..
له من خير ، أو ما يدهمه من شر ، فيأتي الإيمان بالقدر ليبقي قلب المؤمن معلقاً بخالقه ، راجياً أن يدفع عنه كل سوء ، وأن يعافيه من كل بلاء ،
وأن يعافيه من كل بلاء ، وأن يوفقه لخيري الدنيا والآخرة ، فتتعلق نفسه بربه رغبةً ورهبةً.
· أن الإيمان بالقدر هو سر الله في خلقه.
· الإيمان بالقضاء والقدر يورث في النفس الرضا والطمأنينة.
ويدفع بالفرد للجد والعمل دون النظر للنتائج.
ولينتفع بها في الدارين..
حماك الرحمن ورعاك
وجعل الله عملك في ميزان حسناتك