بين يدي الترجمة:
هذه السلسلة المباركة "من أعلام السلف" المقصود بها تربية جيل الصحوة المباركة على أخلاق العلماء الأعلام، والأئمة الكرام. حيث يصحب القارئ الكريم فى كل ترجمة علماً من هؤلاء الأعلام، يرى زهده وورعه، وأخلاقه ونزاهته، وصبره على دين الله، وبذله لإعزازه، فصارت لهم بذلك اليد البيضاء على الأمة إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، وتاريخ الإسلام غني زاخر بهذه الأمثلة الرائعة، والقمم الشامخة، نسأل الله أن يميتنا على حبهم وأن يحشرنا في جمعهم.
والعلم الذي نرفعه اليوم والإمام الذي نتشرف بترجمته قال عنه الشافعي رحمه الله فقال: رأيت شاباً ببغداد إذا قال حدثنا، قال الناس: صدق. إنه الإمام الذي دخل الكير فخرج ذهباً أحمر وعرضت عليه الدنيا فأباها، والبدعة فنفاها.
قال بعضهم: لولا أحمد بن حنبل لصار الناس كلهم معتزلة. قيل لبشر الحافي: لماذا لم تخرج فتقول كما قال أحمد بن حنبل؟ فقال: أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء. إنه العالم العابد الفقيه الزاهد الصابر في المحنة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وما أحوج الطلاب والعلماء والدعاة إلى معرفة أخباره، فى أزمنة أطلت فيها رءوس الفتن، وكثرت فيها الإحن والمحن، وظهر فيها العلمانيون والمنافقون يريدون أن ينالوا من الإسلام وأهله، فلا يكفي من يرجو الله واليوم الآخر أن يجتهد فى العبادة وطلب العلم النافع حتى يضم إلى ذلك البذل لإعزاز الدين، والجهر بكلمة الحق حتى تعلو راية المسلمين.
فقد تعرض الإمام للفتنة من أربعة من الخلفاء، وهم: المأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل، وقد كانت الأمة قبل ذلك ترتفع فيها راية السنة إلى عهد الخليفة هارون الرشيد رحمه الله، فكان أهل البدع يستخفون ببدعتهم، ولا يجهرون بباطلهم حتى مال المأمون بن هاررن الرشيد إلى مقالة المعتزلة، وحاول أن يجبر العلماء والقضاة على القول بمذهبه الرديء، فأجابه أكثرههم تقية، وقتل من قتل في المحنة، ووقف الإمام أحمد موقفاً لا يستطيعه إلا نبي، وقف كأنه جبل شامخ تكسرت عليه المحن وانهزمت على قدميه الفتن، ولما هلك المأمون تبعه المعتصم فجلد الإمام، وحبسه ثمانية وعشرين شهراً على أن يلين، وكانت له من المنزلة والمكانة في قلوب المسلمين ما إن مال عن الحق زل بزلته عالم لا يحصون كثرة، وهيأ الله عز وجل له أسباب الثبات فقال له بعضهم: ما عليك أن تموت هاهنا فتدخل الجنة. وقال بعضهم: إن عشت عشت حميداً، وإن مت مت شهيداً. فثبت على الحق حتى هلك المعتصم، ومن بعده الواثق، ثم أشرقت عليه خلافة المتوكل، وكان من أهل السنة فرفعت أعلام السنة، ونكست أعلام البدعة، وأهلك الله عز وجل كل من شارك فى المحنة، ولكن الإمام لم يسلم في زمن المتوكل من الفتنة ولكنها فتنة من نوع جديد، إنها فتنة الدنيا فتنة المال والجاه والدخول على السلطان، فقد حاول المتوكل أن يغدق على الإمام الأموال؛ ولكن إمامنا وعالمنا لم ترهبه السياط والتعذيب، ولم يجذبه بريق المال والسلطان فقال: أسلم من هؤلاء ستين سنة ثم ابتلى بهم، فما قبل من ذلك شيئاً، وعاش بقية عمره زاهداً فى الدنيا راغباً في الآخرة، فازداد ارتفاعاً في قلوب الخلق، وكان له أكبر الأثر في علماء عصره ومن بعد عصره، فنشأت مدرسة هي مدرسة الحنابلة مدرسة إمامها أحمد بن حنبل، فلله دره وعلى الله تعالى أجره، ونحن في ذيل الزمان نسمع أخباره فتمتلئ قلوبنا روعة ومحبة له فكيف بمن عاصره، وشاهد علمه، وزهده، وصبره، وليس الخبر كالعيان؟! وقبل أن نضع القلم فى التقديم لهذا العلم، نسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الكلمات من قرأها، وأن يقربنا بها من هؤلاء الأعلام وأن يفتح علينا وعلى المسلمين كما فتح عليهم في الدين، وأن يرزقنا برها، وذخرها يوم العرض على رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله الطيبين وأصحابه الغر الميامين، والحمد لله رب العالمين.
1- اسمه ومولده وصفته:
هو: الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبه بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن قصي بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
وهذا النسب فيه منقبة عظيمة ورتبة جليلة من وجهين:
أحدهما: حيث يلاقي فيه نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزار؛ لأن نزاراً كان له أربعة أولاد منهم مضر ونبينا صلى الله عليه وسلم من ولده، ومنهم ربيعة وإمامنا أبو عبد الله أحمد من ولده.
والوجه الثاني: أنه عربي صحيح النسب.
حملت به أمه بمرو، وقدمت بغداد وهي حامل به فولدته في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائه، وكان أبوه محمد والي سرخس، وكان من أبناء الدعوة العباسية، توفي وله ثلاثون سنة، وكانت وفاته في سنة تسع وسبعين ومائة(1)
صفته رحمه الله:
قال ابن ذريح العكبرى: طلبت أحمد بن حنبل فسلمت عليه وكان شيخنا مخضوباً طوالاً أسمر شديد السمرة.
وعن محمد بن عباس النحوي قال: رأيت أحمد بن حنبل حسن الوجه، ربعة، يخضب بالحناء خضاباً ليس بالقاني، فى لحيته شعرات سود، ورأيت ثيابه غلاظاً بيضاً، ورأيته معتماً وعليه إزار(2)
وقال الميموني: ما أعلم أني رأيت أحداً أنظف ثوباً، ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وبدنه، ولا أنقى ثوباً من أحمد بن حنبل.(3)
2- ابتداء طلبه للعلم ورحلاته رحمه الله:
قال أبو نعيم: قال أبو الفضل: قال أبي: طلبت الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة ومات هشيم وأنا ابن عشرين سنة وأول سماعي ابن هشيم سنة تسع وسبعين وكان ابن المبارك قدم في هذه السنة وهي آخر قدمة قدمها فذهبت إلى مجلسه فقالوا: خرج إلى طرسوس وتوفي سنة إحدى وثمانين(4).
وقال العليمي ما ملخصه:
وكانت لوائح النجابة تظهر منه زمن الصبا، وكان حفظه للعلم من ذلك الزمان غزيراً وعلمه به متوافراً وربما كان يريد البكور في الحديث فتأخذ أمه بثيابه فتقول: حتى يؤذن الناس، أو حتى يصبحوا، وسافر في طلب العلم أسفاراً كثيرة إلى البلاد، الكوفة، والبصرة، والحجاز، ومكة والمدينة، واليمن والشام، والثغور، والسواحل والمغرب والجزائر والفراتين جميعاً وأرض فارس وبلد خراسان والجبال والأطراف وغير ذلك.
ثم رجع إلى بغداد وساد أهل عصره، ونصر الله به دينه وصار أحد الأعلام من أئمة الإسلام.
طلب الحديث وهو ابن ست عشرة سنة، وخرج إلى الكوفة سنة مات هشيم، سنة ثلاث وثمانين ومائة، وهو أول سفر، وخرج إلى البصرة سنة ست وثمانين، وخرج إلى سفيان بن عيينة إلى مكة سنة سبع وثمانين، وقد مات الفضيل بن عياض وهي أول سنة حج فيها، وخرج إلى عبد الرزاق بصنعاء اليمن سنة سبع وتسعين، ورافق يحيى بن معين.
قال يحيى: فلما خرجنا إلى عبد الرزاق إلى اليمن حججنا فبينا أنا بالطواف إذا بعبد الرزاق في الطواف، فسلمت عليه وقلت له: هذا أحمد بن حنبل. فقال: حياه الله، وثبته فإنه بلغني عنه كل جميل.
فقلت لأحمد: قد قرب الله خطانا ووفر علينا النفقة وأراحنا من مسيرة شهر.
فقال: إني نويت ببغداد أن أسمع عنه بصنعاء، والله لا غيرت نيتي فخرجنا إلى صنعاء فنفدت نفقته، فعرض علينا عبد الرزاق دراهم كثيرة، فلم يقبلها، فقال: على وجه القرض، فأبى وعرضنا عليه نفقاتنا فلم يقبل فاطلعنا عليه وإذا هو به يعمل التك(5)ويفطر على ثمنها، واحتاج مرة فأكرى نفسه للجمالين، وحج خمس حجات، ثلاث حجج ماشيًا، واثنتين راكباً، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهماً.
وكان من أصحاب الإمام الشافعي وخواصه، ولم يزل يصاحبه إلى أن ارتحل الشافعي إلى مصر، وكان الشافعي يجله ويثني عليه ثناء حسناً.
قال حرملة: سمعت الشافعي رضي الله عنه(6) يقول: عند قدومه إلى مصر من العراق: ما خلفت بالعراق أحداً يشبه أحمد بن حنبل.(7)
وقال أحمد الدورقى: لما قدم أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق رأيت به شحوباً بمكة، وقد تبين عليه النصب والتعب، فكلمته فقال: هين فيما استفدناه من عبد الرزاق(8).
3- ثناء العلماء عليه رحمه الله:
وهذا بحر لا يدرك قعره، فلو تتبعنا أقوال العلماء فى المدح والثناء لطال الفصل جداً، فنكتفي بإشارات، والله يغفر لنا تقصيرنا في حقه.
روى الخطيب بسنده عن علي بن المديني قال: إنا الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث، أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة(9).
وقال الحسين بن محمد بن حاتم المعروف بعبيد العجل عن مهنا بن يحيى الشامي: ما رأيت أحداً أجمع لكل خير من أحمد بن حنبل، ولقد رأيت سفيان بن عيينة، ووكيع، وعبد الرزاق، وبقية بن الوليد، وضمرة بن ربيعة، وكثيراً من العلماء فما رأيت مثل أحمد بن حنبل، في علمه وفقهه وزهده وورعه(10).
وقال أبو يَعْلَى الموصلي: سمعت أحمد بن إبراهيم الدورقي يقول: من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام(11). وقال أبو جعفر محمد بن بدينا الموصلي: أنشدني ابن أعين في أحمد بن حنبل:
أضحَى ابنُ حنبلَ محنة مأمونةً وبحب أحمدَ يُعرَفُ المتنسك
وإذا رأيت لأحمد متنقصاً فاعلمْ بأن ستوره سَتهتكُ
وروى أبو نعيم بسنده عن سعيد بن الخليل الخزاز: لو كان أحمد بن حنبل فى بني إسرائيل لكان آية(12).
وقال المزني: قال لي الشافعي: رأيت ببغداد شاباً إذا قال: حدثنا، قال الناس كلهم: صدق. قلت: ومن هو؟ قال: أحمد بن حنبل(13). وقال عبد الله بن أحمد: قال أصحاب بشر الحافي له حين ضرب أبي:
لو أنك خرجت فقلت: إني على قول أحمد، فقال: أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء(14).
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: سمعت محمد بن سحتويه سمعت أبا عمير بن النحاس الرملي وذكر أحمد بن حنبل فقال رحمه الله: (عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها)(15).
وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا(16).
وروى الخطيب بسنده عن أحمد بن سعيد الدارمي قال: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل(17).
وروى بسنده أيضًا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث: فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب(18).
وروى أبو نعيم بسنده عن خلف بن سالم قال: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستميلة، فتنحنح أحمد بن حنبل. فقال يزيد: من المتنحنح؟ فقيل له: أحمد بن حنبل فضرب بيده على جبينه وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح(19).
وروى الخطيب بسنده عن محمد بن الحسين الأنماطي قال: كنا في مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب وجماعة من كبار العلماء، فجعلوا يثنون على أحمد بن حنبل ويذكرون فضائله، فقال رجل: لا تكثروا بعض هذا القول. فقال يحيى بن معين: وكثرة الثناء على أحمد بن حنبل يستنكر؟ لو جلسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها(20).
4- زهده رحمه الله:
قال صالح بن أحمد بن حنبل: كان كثيراً ما يأتدم بالخل، وربما رأيته يأكل الكسر فينفض الغبار عنها، ثم يصيرها في قصعة، ويصب عليها الماء، حتى تلين، ثم يأكله بالملح، وما رأيته قط اشترى رُماناً، ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة، إلا أن يشتري بطيخة فيأكلها بالخبز، أو عنبًا أو تمراً، فأما غير ذلك فما رأيته وما اشتراه، وكان ربما اشترينا الشيء، فنستره عنه حتى لا يراه فيوبخنا على ذلك(21).
قال صالح: ودخل يوماً إلى منزلي، وقد غيرنا سقفاً لنا، فدعاني ثم أملى عليَّ حديث الأحنف بن قيس قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن يونس عن الحسن قال: قدم الأحنف بن قيس من سفر وقد غير أسقف بيته حمر وشقاشق وخضروها، فقالوا له: أما ترى إلى سقف بيتك؟ فقال: معذرة إليكم، إني لم أره. لا أدخله حتى تغيروه(22).
وعن موسى بن حماد البربري قال: حمل إلى الحسن بن عبد العزيز ميراثه من مصر مائة ألف دينار فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس ألف دينار، وقال: يا أبا عبد الله هذه من ميراث حلال، فخذها فاستعن بها على عائلتك، قال: لا حاجة لي فيها أنا في كفاية، فردها ولم يقبل منه شيئاً(23).
وقال إسحاق بن هانئ: بكرت يوماً لأعارض أحمد بالزهد فبسطت له حصيراً ومخدة فنظر إلى الحصير والمخدة فقال: ما هذا؟ قلت: لتجلس عليه، فقال: ارفعه الزهد لا يحسن إلا بالزهد، فرفعته وجلس على التراب(24).
وروى أبو نعيم بسنده عن صالح بن أحمد قال: دخلت على أبي فى أيام الواثق -والله يعلم في أي حالة نحن- وقد خرج لصلاة العصر، وقد كان له لبد يجلس عليها قد أتت عليه سنون كثيرة، حتى قد بلي، فإذا تحته كتاب كاغد، وإذا فيه بلغت يا أبا عبد الله، ما أنت فيه من الضيق، وما عليك من الدين، وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضي دينك وتوسع بها على عيالك، وما هي من صدقة ولا زكاة، وإنما هو شيء ورثته من أبي، فقرأت الكتاب، ووضعته فلما دخل قلت: يا أبت ما هذا الكتاب؟ فاحمر وجهه، وقال: رفعته منكَ. ثم قال: تذهب بجوابه، فكتب إلى الرجل: وصل كتابك إليَّ، ونحن في عافية، فأما الدين فإنه لرجل لا يرهقنا، وأما عيالنا فَهُم في نعمة والحمد لله. فذهب بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل فقال: ويحك لو أن أبا عبد الله قبل هذا الشيء ورمى به في شبكة مثًلا في الدجلة كان مأجوراً؛ لأن هذا الرجل لا يعرف له معروف، فلما كان بعد حين ورد كتاب الرجل بمثل ذلك، فرد عليه الجواب بمثل ما رَد، فلما مضت سنة أو أقل أو أكثر ذكرناها فقال: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت(25).
وعن عبد الله بن أحمد بن حفصة قال: نزلنا بمكة داراً وكان فيها شيخ يكنى بأبي بكر بن سماعة وكان من أهل مكة قال: نزل علينا أبو عبد الله في هذه الدار وأنا غلام. فقال: فقالت لي أمي: الزم هذا الرجل فاخدمه فإنه رجل صالح، فكنت أخدمه وكان يخرج يطلب الحديث، فَسُرِق متاعه، وقماشه، فجاء فقالت له أمي: دخل عليك السُّراق فسرقوا قماشك، فقال: ما فعلت بالألواح؟ فقالت له أمي: في الطاق، وما سأل عن شيء غيرها(26). وعن الرمادي قال: سمعت عبد الرزاق وذكر أحمد فدمعت عينه وقال: قدم وبلغني أن نفقته نفدت، فأخذت عشرة دنانير وعرضناها عليه فتبسم وقال: يا أبا بكر لو قبلت شيئاً من الناس قبلت منك، ولم يقبل مني شيئاً(27). ونختم بقول العليمي: أتته الدنيا فأباها، والرياسة فنفاها، وعرضت عليه الأموال وفوضت إليه أحوال، وهو يرد ذلك بتعفف وتعلل، وتقلل، ويقول: قليل الدنيا يجزي وكثيرها لا يجزي ويقول: أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء. ويقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام قلائل(28).
5- ورعه رحمه الله:
قال قتيبة بن سعيد: لولا أحمد لمات الورع(29).
قال العليمي: فمن بعض ورعه أنه كان لأم ولده عبد الله داراً يأخذ منها أحمد درهماً بحق ميراثه، فاحتاجت إلى نفقة تصلح بها فأصلحها ابنه عبد الله، فترك الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه أخذ الدرهم الذي كان يأخذه، وقال: قد أفسده علي، تورع عن أخذ حقه من الأجرة خشية أن يكون ابنه أنفق على الدار مما يصل إليه من الخليفة ونهى ولديه وعمه عن أخذ العطاء من مال الخليفة، فاعتذروا بالحاجة فهجرهم شهر، لأخذ العطاء ووصف له في علته قرعة تشوى ويؤخذ ماؤها، فلما جاءوا بالقرعة قال بعض من حضر: اجعلوها في تنور صالح. فإنهم قد خبزوا. فقال بيده: لا وأبى أن يوجه بها إلى منزل صالح ومثل هذا كثير. وأجرى عليه المتوكل وعلى ولده وأهله أربعة آلاف درهم في كل شهر، فبعث إليه أبو عبد الله إنهم عن كفاية، فبعث إليه المتوكل إنما هذا لولدك مالك ولهذا. فقال أحمد: يا عم ما بقي من أعمارنا؟ كأنك بالأمر وقد نزل بنا، فالله الله، فإن أولادنا إنما يريدون يتأكلون بنا، وإنا هي أيام قلائل، ولو كشف للعبد عما قد حجب عنه لعرف ما هو عليه من خير أو شر، صبر قليل، وثواب طويل إنما هذه فتنة(30). وقال صالح: كان أبي إذا دعا له رجل قال: ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته. الأعمال بخواتيمها. وقال أبي في مرضه: أخرج كتاب عبد الله بن إدريس فقال: اقرأ علي حديث ليث: إن طاوساً كان يكره الأنين في المرض، فما سمعت لأبي أنيناً حتى مات.
وعن أحمد بن محمد التستري قال: ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها فبعث إلى صديق له فاقترض منه دقيقاً فجهزوه بسرعة فقال: كيف ذا؟ قالوا: تنور صالح مسجر فخبزنا فيه فقال: ارفعوا وأمر بسد باب بينه وبين صالح، قال الذهبي: لكونه أخذ جائزة المتوكل(31).
6- آدابه وأخلاقه:
قال الخلال: حدثنا محمد بن الحسين أن أبا بكر المروذي حدثهم عن آداب أبي عبد الله قال: كان أبو عبد الله لا يجهل وإن جهل عليه حلم، واحتمل، ويقول: يكفي الله ولم يكن بالحقود، ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ، يحب في الله ويبغض في الله، وإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران(32).
وعن أبي داود السجستاني قال: لم يكن أحمد بن حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم.
وقال: مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط(33). وعن أبي الحصين بن المنادى قال: سمعت جدي يقول: كان أحمد من خيار الناس وأكرمهم نفسًا، وأحسنهم عشرة وأدباً، كثير الإطراق والغض، معرضاً عن القبيح، واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث، وذكر الصالحين والزهاد، عن وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بشر به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعاً شديداً، وكانوا يكرمونه ويعظمونه، وكان يفعل بيحيى بن معين ما لم يفعله بغيره من التواضع والتبجيل، وكان يحيى أكبر منه بنحو من سبع سنين، وكان إذا دخل من المسجد إلى البيت يضرب برجله قبل أن يدخل الدار، حتى يسمع ضرب نعله لدخوله الدار، وربما تنحنح ليعلم من في الدار بدخوله(34). وروى أبو نعيم بسنده عن العباس بن محمد الدوري قال: حدثني علي بن أبي مرارة -جار لنا- قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فاسأله أن يدعو الله لي: فسرت إليه فدققت عليه الباب وهو في دهليزه فلم يفتح لي. وقال: من هذا؟ فقلت: أنا من أهل ذاك الجانب. سألتني أمي وهي زمنة مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها فسمعت كلامه كلام رجل مغضب فقال: نحن أحوج إلى أن تدعو الله لنا. فوليت منصرفاً، فخرجت امرأة عجوز من داره فقالت: أنت الذي كلمت أبي عبد الله؟ قلت: نعم. قال: قد تركته يدعو الله لها، قال: فجئت من فوري إلى البيت فدققت الباب فخرجت أمي على رجليها تمشي حتى فتحت الباب فقالت: قد وهب الله لي العافية(35). وعن الحسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب، وحسن السمت(36).
وعن أبي بكر المطوعي قال: اختلفت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل اثنتي عشرة سنة وهو يقرأ المسند على أولاده فما كتبت منه حديثاً واحداً، وإنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه وآدابه(37).
7- تمسكه بالسنن:
قال أبو نعيم: وكان الإمام أحمد بن حنبل موضعه من الإمامة موضع الدعامة، لقدوته بالآثار وملازمته للأخيار، لا يرى له عن الآثار معدلاً، ولا يرى للرأي معقلاً، كان في حفظ الآثار الجبل العظيم، وفي العلل والتعليل البحر العميم(38).
وعن عبد الملك الميموني قال: ما رأت عيني أفضل من أحمد بن حنبل، وما رأيت أحداً من المحدثين أشد تعظيماً لحرمات الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا صحت عنه، ولا أشد اتباعاً منه.
وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به، حتى مر بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى أبا طيبة ديناراً فأعطيت الحجام ديناراً، وتسرى واختفى ثلاثاً(39).
وقال عبد الله بن أحمد: ما رأيت أبي حدث من غير كتاب إلا بأقل من مائة حديث وسمعت أبي يقول: قال الشافعي: يا أبا عبد الله! إذا صح عندكم الحديث فأخبروني حتى نرجع إليه، أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً.
قال الذهبي: لم يحتج إلى أن يقول حجازياً، فإنه كان بصيراً بحديث الحجاز، ولا قال مصرياً، فإن غيرهما كان أقعد بحديث مصر منهما(40).
8- محنته رحمه الله:
مضت سنة الله عز وجل في عباده أنه يمتحنهم حتى يظهر بالامتحان صدق الصادقين وكذب الكاذبين، قال الله تعالى: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [العنكبوت:2-3] وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاء؟ فقال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"(41). وقد سئل الإمام الشافعي: هل الأفضل أن يمكن العبد أو يبتلى فقال: لا يمكن حتى يبتلى. وما تعرض له إمامنا وإمام الدنيا أحمد بن حنبل رحمه الله يدل على مكانته في الإيمان، وعلو شأنه عند الملك الديان قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24]. قال بعض السلف: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوسا، فبالصبر واليقين تنال الإمامة فى الدين. وقد أخذ الله عز وجل على أهل العلم الميثاق على أن يبينوا للناس الحق، ولا يكتمونه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر(42). قال العلماء: وإنما كان ذلك أفضل الجهاد؛ لأن الجهاد تعريض للنفس للتلف، وكلمة العدل عند السلطان الجائر يغلب على الظن تلفها.
فالواجب على العلماء والدعاة إلى الله عز وجل الجهر بكلمة الحق غير هائبين ولا وجلين.
قال الذهبي رحمه الله: الصدع بالحق عظيم يحتاج إلى قوة وإخلاص فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام به كاملاً فهو صديق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان فلا قوة إلا بالله(43). وقد تداول الإمام أحمد أربعة خلفاء، بعضهم بالتهديد والوعيد، وبعضهم بالضرب والحبس، وبعضهم بالنفي والتشريد، وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال، ولا يزداد الإمام إلا ثقة وإيماناً ويقيناً، وهذا شأن الإيمان الصادق قال الله تعالى: ((وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) [الأحزاب:22].
فالمؤمنون الصادقون يزدادون بالبلاء إيماناً وتسليماً، والمنافقون يخافون من لا شيء. كما قال تعالى: ((يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)) [المنافقون:4].
قال العليمي ما ملخصه:
لما ولي المأمون أبو جعفر بن هارون الرشيد وكانت ولايته في المحرم وقيل: في رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، صار إليه قوم من المعتزلة وأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وحسنوا له قبيح القول بخلق القرآن، فصار إلى مقالتهم وقدر أنه في آخر عمره خرج من بغداد لغزو بلاد الروم فعن له أن يكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فاستدعى جماعة من العلماء والقضاة وأئمة الحديث ودعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فهددهم فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر الإمام رضي الله عنه على الامتناع واشتد غضبه.
فلما أصر الإمام أحمد على الامتناع حمل على بعير، وسيروه إلى الخليفة.
قال أبو جعفر الأنباري: لما حمل الإمام أحمد بن حنبل إلى المأمون أخبرت فعبرت الفرات فإذا هو جالس فى الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر تَعنيتَ.
فقلت: ليس هذا عناء. وقلت له: يا هذا أنت اليوم رأس الناس، والناس يقتدون بكم، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق كثير من خلق الله تعالى، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، ولا بد من الموت، فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله ما شاء الله.
ثم سار أحمد إلى المأمون فبلغه توعد الخليفة له بالقتل إن لم يجبه إلى القول بخلق القرآن، فتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أن لا يجمع بينه وبينه، فبينا هو في الطريق قبل وصوله إليه إذ جاءهم الصريخ بموت المأمون.
وكان موته في شهر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين، فرد الإمام إلى بغداد وحبس، ثم ولي الخلافة المعتصم -وهو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد.
وقدم من بلاد الروم فدخل بغداد في مستهل شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، فامتحن الإمام أحمد وضرب بين يديه.
وكان من خبر المحنة أن المعتصم لما قصد إحضار الإمام ازدحم الناس على بابه كيوم العيد وبسط بمجلسه بساطاً ونصب كرسياً جلس عليه ثم قال: أحضروا أحمد بن حنبل، فأحضروه، فلما وقف بين يديه سلم عليه فقال له: يا أحمد تكلم ولا تخف فقال الإمام أحمد: والله لقد دخلت عليك وما في قلبي مثقال حبة من الفزع. فقال له المعتصم: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله قديم، غير مخلوق. قال الله تعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) [التوبة:6].
فقال له: عندك حجة غير هذا؟ فقال: نعم، قول الله تعالى: (( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)) [الرحمن:1، 2]. ولم يقل: الرحمن خلق القرآن.
وقوله تعالى: ((يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)) [يس:1-2]، ولم يقل: يس، والقرآن المخلوق. فقال المعتصم: احبسوه، فحبس وتفرق الناس.
فلما كان من الغد جلس المعتصم مجلسه على كرسيه، وقال:
هاتوا أحمد بن حنبل فاجتمع الناس، وسمعت لهم ضجة ببغداد، فلما جيء به، وقف بين يديه والسيوف قد جردت والرماح قد ركزت، والأتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت. فسأله المعتصم عما يقول في القرآن: قال: أقول: غير مخلوق، قال: ومن أين قلت؟ فقال: حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كلام الله الذي استخص به موسى مائة ألف كلمة، وثلاثمائة وثلاث عشرة كلمة، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى". ثم قال: قال الله تعالى: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [السجدة:13].
فإن يكن القول من الله تعالى فإن القرآن كلام الله، وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فناظروا بحضرته فى مدة ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحجج القاطعة، ويقول: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. حتى أقول به، وكلما ناظروه وألزموه القول بخلق القرآن يقول لهم: كيف أقول ما لم يقل؟ وكان من المعتصبين(44) عليه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم، وأحمد بن أبي دؤاد القاضي، وبشر المريسي، وكانوا معتزلة قائلين بخلق القرآن فقال ابن أبى دؤاد وبشر للخليفة: اقتله حتى نستريح منه. هذا كافر مضل فقال: إني عاهدت الله أن لا أقتله بسيفي ولا آمر بقتله بسيف فقالا له: اضربه بالسياط، فقال المعتصم له: وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربنك بالسياط أو تقوله كما أقول، فلم يرهبه ذلك، فقال المعتصم: احضروا الجلادين فأحضروا فقال المعتصم لواحد منهم: بكم سوط تقتله؟ قال: بعشرة، قال: خذه إليك، فأخرج الإمام أحمد من أثوابه وشد في يديه حبلان جديدان، ولما جيء بالسياط "فنظر إليها المعتصم قال: ائتوني بغيرها ثم قال للجلادين: تقدموا. فلما ضرب سوطاً قال: بسم الله، فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال: ((قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)) [التوبة:51]، وجعل الرجل يتقدم إلى الإمام أحمد فيضربه سوطين فيحرضه المعتصم على التشديد في الضرب، فلما ضرب تسعة عشر سوطاً قام إليه المعتصم فقال له: يا أحمد علام تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق. قال أحمد فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه، وقال: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك الخليفة على رأسك قائم. وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دَمُهُ في عنقي، اقتله. وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين إنه صائم وأنت فى الشمس قائم. فقال لي: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله حتى أقول به، ثم رجع الخليفة فجلس. ثم قال للجلاد: تقدم وحَرضه على إيجاعه بالضرب، ثم قام الثانية فجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني. قال الإمام أحمد: فجعلوا يقبلون علي ويقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم. وجعل بعضهم يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ قال: وجعل المعتصم يقول، ويحك أجبني إلى شيء لك منه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، فقلت: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، فرجع المعتصم فجلس وقال للجلادين: تقدموا فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى وهو عند ذلك يحرضهم على التشديد في الضرب ويقول: شدوا قطع الله أيديكم قال: قال الإمام أحمد: فذهب عقلي فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقت عني، فقال رجل ممن حضر: إنا كفيناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية(45) ودسناك، قال: فما شعرت بشيء من ذلك فأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ فقلت: لست أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر فتقدم ابن سماعة فصلى فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك، فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثغب(46) دماً.
وقال بعض المؤرخين: إن المحنة كانت فى سنة تسع عشرة ومائتين ورأيت في موضع أنها كانت فى العشر الأواخر من رمضان سنة عشرين ومائتين، والصواب ما قدمناه عند ابتداء خبر المحنة أن وقوعها في شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين بدليل أن بشراً المريسي هو الذي تولى كبرها، ومات بشر في ذي الحجة في سنة ثماني عشرة، وقد قيل: إن موته كان سنة تسع عشرة كما قاله بعض المؤرخين، والأول أولى؛ لأن المعتصم ولي الخلافة بعد المأمون، ودخل بغداد في غرة رمضان سنة ثماني عشرة كما تقدم، والإمام أحمد في الحبس، وامتحنه عقب دخوله بغداد.
وقد رأيت في موضع آخر أن الإمام أحمد أخرج من السجن في شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، وهذا متجه يعضده ما قدمناه قريبًا أنه مكث في السجن نحو ثمانية وعشرين شهراً؛ لأن ابتداء حبسه في أيام المأمون قبل وفاته، وكانت وفاة المأمون في رجب سنة ثماني عشرة، فمن "ذلك التاريخ إلى رمضان سنة عشرين نحو ثمانية وعشرين شهراً، فيظهر من ذلك صحة القول بأن المحنة في شهر رمضان سنة ثماني عشرة، وإخراجه من السجن في شهر رمضان سنة ثماني وعشرين ومائتين، والله أعلم.
ولما ولي الواثق بعد المعتصم، وهو أبو جعفر هارون بن المعتصم، وكانت ولايته في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين – لم يتعرض للإمام أحمد في شيء إلا أنه بعث إليه يقول: لا تساكني بأرض، وقيل: أمره ألا يخرج من بيته، فصار الإمام أحمد يختفي في الأماكن ثم صار إلى منزله، فاختفى فيه عدة أشهر إلى أن مات الواثق(47).
ولما ولي المتوكل بعد الواثق -وهو أبو الفضل جعفر بن المعتصم وكانت ولايته في ذي الحجة سنة اثنتين ومائتين – خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، ونهى عن الجدال والمناظرة عن الأداء، وعاقب عليه وأمر بإظهار الرواية للحديث، فأظهر الله به السنة، وأمات به البدعة، وكشف عن الخلق تلك الغمة، وأنار به تلك الظلمة، وأطلق من كان اعتقل بسبب القول بخلق القرآن، ورفع المحنة عن الناس، فاستبشر الناس بولايته، وأمر بالقبض على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، ووضعه في تنور إلى أن مات، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وابتلى الله أحمد بن أبي دؤاد بالفالج بعد موت الوزير بسبعة وأربعين يوماً، فولي القضاء مكانه ولده أبو الوليد محمد فلم تكن طريقته مرضية وكثر ذاموه وقل شاكروه، ثم سخط المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد وولده محمد في سنة تسع وثلاثين ومائتين وأخذ جميع ضياع الأب وأمواله من الولد -مائة وعشرين ألف دينار وجواهر بأربعين ألف دينار وسيره إلى بغداد من "سر من رأى"(48) وولي القاضي يحيى بن أكثم قاضي القضاة(49) فإنه كان من أئمة الدين وعلماء السنة ثم مات أحمد بن أبي دؤاد بمرض الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين، ومات ولده محمد قبله بعشرين يوماً، وكان بشر المريسي قد أهلكه الله ومات في ذي الحجة سنة ثماني عشرة. وقيل: تسع عشرة ومائتين.
وعن عمران بن موسى قال: دخلت على أبي العروق الجلاد الذي ضرب أحمد لأنظر إليه، فمكث خمسة وأربعين يوماً ينبح كما ينبح الكلب.
وقد انتقم الله من كل خصومه المبتدعين الذين سعوا في أمره، وخذلهم، ونصره عليهم بحول الله وقوته، وبركة كتابه العزيز، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وشرع المتوكل في الإحسان إلى الإمام أحمد رضي الله عنه وتعظيمه وإكرامه، وكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم أن يبعث إليه بالإمام أحمد فجهزه معظماً مكرماً إلى الخليفة المتوكل على الله – بسُر من رأى- قال عبد الله بن أحمد: وبعث المتوكل إليه يقول: قد أحببت أن أراك وأتبرك بدعائك، فخرجنا من بغداد فأنزلنا داراً والمتوكل يرانا من وراء الستر، وأخبر بعض الخدم أن المتوكل لما كان قاعداً، وراء الستر ودخل الإمام الدار قال لأمه: يا أماه قد أنارت الدار. قال عبد الله: فأمر لأبي بثياب ودراهم وخلعة فبكى وقال: أسلم من هؤلاء منذ ستين سنة، فلما كان آخر العمر ابتليت بهم، ولما جاءوا بالخلعة لم يمسها ولا غيرها، فجعلها على كتفيه فما زال يتحرك حتى رمى بها، وأرسل إليه المتوكل مالاً جزيلاً فأبى أن يقبله، فقيل له: إن رددته وجد عليك في نفسه، ففرقه على مستحقيه، ولم يأخذ منه شيئاً، وكان كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص فلا يأكل منه لقمة.
قال صالح: وأمر المتوكل أن يشترى لنا داراً. فقال: يا صالح لئن أقررت لهم بشراء دار ليكونن القطيعة بيني وبينك، فلم يزل يدفع شراء الدار حتى اندفع ثم عاد إلى بغداد، وكان المتوكل لا يولي أحداً إلا بمشورة الإمام أحمد ومكث الإمام إلى حين وفاته قل أن يأتي يوم إلا ورسالة الخليفة تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره رحمهما الله ورضي عنهما(50).
9- مؤلفاته رحمه الله:
قال الذهبي ما ملخصه: قال ابن الجوزي: كان الإمام لا يرى وضع الكتب وينهى عن كتبة كلامه ومسائله، ولو رأى ذلك لكانت له تصانيف كثيرة، وصنف "المسند" وهو ثلاثون ألف حديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماماً، و"التفسير" وهو مائة وعشرون ألفًا، و"الناسخ والمنسوخ" و"التاريخ" و"حديث شعبة"، و"المقدم والمؤخر في القرآن"، و"جوابات القرآن"، و"المناسك"، و"الكبير والصغير"، وأشياء أخر، قال الذهبي: وكتاب "الإيمان"، وكتاب "الأشربة" ورأيت له ورقة من كتاب "الفرائض"، فتفسيره المذكور شيء لا وجود له، ولو وجد لاجتهد الفضلاء في تحصيله، ثم لو ألف تفسيراً لما كان يكون أزيد من عشرة آلاف أثر، ولاقتضى أن يكون في خمس مجلدات، فهذا تفسير ابن جرير الذي جمع فيه فأوعى لا يبلغ عشرين ألفاً، وما ذكر تفسير أحمد أحد سوى أبي الحسن بن المنادي فقال في "تاريخه": لم يكن أحد أروى في الدنيا عن أبيه من عبد الله بن أحمد؛ لأنه سمع منه "المسند" وهو ثلاثون ألفاً، و"التفسير" وهو مائة وعشرون ألفاً سمع ثلثيه، والباقي وجاده.
قال ابن السماك: حدثنا حنبل قال: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله وقرأ علينا "المسند" ما سمعه غيرنا. وقال: هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من مائة ألف وخمسين ألفاً، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلا فليس بحجة.
قال الذهبي: قلت: في "الصحيحين" أحاديث قليلة ليست في "المسند" لكن قد يقال: لا ترد على قوله فإن المسلمين ما اختلفوا فيها، ثم ما يلزم من هذا القول أن ما وجد فيه أن يكون حجة ففيه جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها ولا يجب الاحتجاج بها، وفيه أحاديث معدودة شبه موضوعة ولكنها قطرة في بحر، وفي غضون المسند زيادات جمة لعبد الله بن أحمد"(51).
قال ابن الجوزي: وله -يعني: أبا عبد الله- من المصنفات كتاب "نفي التشبيه" مجلدة، وكتاب "الإمامة" مجلدة صغيرة وكتاب "الرد على الزنادقة"، ثلاثة أجزاء، وكتاب "الزهد"(52) مجلد كبير، وكتاب "الرسالة" في الصلاة، قال الذهبي: وهو موضوع على الإمام.
قال وكتاب "الصحابة"(53) قال الذهبي: فيه زيادات لعبد الله ابنه ولأبي بكر القطيعي صاحبه.
وقد دون عنه كبار تلامذته مسائل وافرة في عدة مجلدات كالمروذي والأثرم، وحرب وابن هانئ، والكوسج، وأبي طالب. وجمع أبو بكر الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد وفتاويه وكلامه في العلل والرجال والسنة والفروع، حتى حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرة، ورحل إلى النواحي في تحصيله، وكتب عن نحو من مائة نفس من أصحاب الإمام، ثم كتب كثيراً من ذلك عن أصحاب أصحابه، وبعضه عن آخر عن آخر عن الإمام أحمد، ثم أخذ في ترتيب ذلك، وتهذيبه وتبويبه، وحمل كتاب "العلم" وكتاب "العلل" وكتاب "السنة" كل واحد من الثلاثة في ثلاث مجلدات(54).
10- نتف من أقواله ودرر من أشعاره:
سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الفتوة فقال: ترك ما تهوى لما تخشى.
– وقال: كل شيء من الخير تهتم به فبادر به قبل أن يحال بينك وبينه.
– وعن علي بن المديني قال: ودعت الإمام أحمد بن حنبل فقلت له: توصيني بشيء؟ قال: نعم اجعل التقوى زادك، وانصب الآخرة أمامك.
– وكان يقول: عزيز علي أن تذيب الدنيا أكباد رجال وعت صدورهم القرآن.
– وكان يقول: ما قل من الدنيا كان أقل للحساب.
– وعن عبد الصمد بن سليمان بن مطر قال: بت عند أحمد بن حنبل فوضع لي ماء فلما أصبح وجدني لم أستعمله فقال: صاحب الحديث لا يكون له ورد في الليل قال: قلت: أنا مسافر، قال: وإن كنت مسافراً، حج مسروق فما نام إلا ساجداً.
– وعن حنبل بن إسحاق قال: رآني أحمد بن حنبل أكتب خطاً دقيقاً فقال: لا تفعل؛ أحوج ما تكون إليه يخونك.
– وقال: كلِ الطعام مع الإخوان بالسرور، ومع الفقراء بالإيثار، ومع أبناء الدنيا بالمروءة.
– ودخل ثعلب على أحمد بن حنبل ومجلسه غاص، فجلس إلى جانبه وقال: أخاف أن أكون ضيقت عليك، على أنه لا يضيق مجلس بمتحابين، ولا تسع الدنيا متباغضين. قال الإمام أحمد: الصديق لا يحاسب والعدو لا يحتسب له(55).
وعن أحمد بن يحيى قال: كنت أُحبُّ أن أرى أحمد بن حنبل فصرت إليه فلما دخلت عليه قال لي: فيم جئت؟ قلت: في النحو والعربية فأنشد:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
لهونا عن الأعمال حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
إذا مضى القرن الذي أنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب
وعن علي بن خشرم أنه سمع أحمد بن حنبل يقول:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
– وروي من قوله في علي بن المديني لما أجاب إلى القول بخلق القرآن:
يا ابن المديني الذي عرضت له دنيا فجاد بدينه لينالها
ماذا دعاك إلى انتحال مقالة قد كنت تزعم كافراً من قالها
أمر بدا لك رشده فتبعته أم زهرة الدنيا أردت نوالها
ولقد عهدتك مرة متشدداً صعب المقادة للتي تدعى لها
إن المرزأ من يصاب بدينه لا من يرزأ ناقة وفصالها(56)
11- مرضه ووفاته رحمه الله:
قال ابنه عبد الله: سمعت أبي يقول: استكملت سبعاً وسبعين، فحم من ليلته ومات يوم العاشر.
وقال صالح: لما كان في أول يوم من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين حم أبي ليلة الأربعاء، وبات وهو محموم يتنفس نفساً شديداً، وكنت قد عرفت علته، وكنت أمرضه إذا اعتل، فقلت له: يا أبة على ما أفطرت البارحة؟
قال: على ماء باقلاء.
ثم أراد القيام فقال: خذ بيدي فأخذت بيده فلما صار إلى الخلاء ضعفت رجلاه حتى توكأ علي، وكان يختلف إليه غير متطيب كلهم مسلمون، فوصف له متطبب قرعة تشوى ويسقى ماؤها، وهذا يوم الثلاثاء وتوفي يوم الجمعة. فقال: يا صالح: فقلت: لبيك.
قال: لا تشوي في منزلك، ولا في منزل أخيك.
وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبه، وأتى ابن علي بن الجعد فحجبه وكثر الناس، فقال: أي شيء ترى؟
قلت: تأذن لهم، فيدعون لك.
قال: أستخير الله تعالى.
فجعلوا يدخلون عليه أفواجاً حتى تمتلئ الدار، فيسألونه ويدعون له ثم يخرجون، ويدخل فوج آخر، وكثر الناس فامتلأ الشارع، وأغلقنا باب الزقاق، وجاء رجل من جيراننا قد خضب فقال أبي: إني لأرى الرجل يحيي شيئاً من السنة فأفرح به. وجعل يحرك لسانه، ولم يئن إلا في الليلة التي توفي فيها، ولم يزل يصلي قائماً أمسكه فيركع ويسجد وأرفعه في ركوعه.
واجتمعت عليه أوجاع الحصر وغير ذلك، ولم يزل عقله ثابتاً، فلما كان يوم الجمعة لاثني عشرة ليلة خلت من ربيع الأول لساعتين من النهار توفي. وقال المروزي: مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول مرض تسعة أيام، وكان ربما أذن للناس فيدخلون أفواجًا يسلمون عليه ويرد عليهم بيده.
واشتدت علته يوم الخميس ووضأته فقال: خلال(57) الأصابع فلما كانت ليلة الجمعة وثقل قبض صدراً، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع.
وقال حنبل: توفي يوم الجمعة في ربيع الأول.
وقال مطين: في ثاني عشر ربيع الأول.
وكذا قال عبد الله بن أحمد وعباس الدوري.
وقال البخاري: مرض أحمد بن حنبل لليلتين خلتا من ربيع الأول، ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول.
وقال الخلال: ثنا المروزي قال: أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة.
قال الذهبي: وقد روى الإمام أحمد في مسنده: ثنا أبو عامر، ثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر"(58).
وقال صالح: وجه ابن طاهر نائب بغداد بحاجبه مظفر، ومعه غلامين معهما مناديل فيها ثياب وطيب فقالوا: الأمير يقرئك السلام ويقول: قد فعلت ما لوكان أمير المؤمنين حاضره كان يفعل.
فقلت: أقرئ الأمير السلام وقل له: إن أمير المؤمنين قد أعفاه في حياته مما كان يكره ولا أحب أن أتبعه بعد موته بما كان يكره في حياته، فعاد وقال: يكون شعاره فأعدت عليه مثل ذلك.
وقد كان غزلت له جارية ثوباً عشارياً قوم بثمانية وعشرين درهماً ليقطع منه قميصين فقطعنا له لفافتين وأخذ منه فوران لفافة أخرى فأدرجناه في ثلاث لفائف واشترينا له حنوطاً وفرغ من غسله، وكفناه، وحضر نحو مائة من بني هاشم، ونحن وجعلوا يقبلون جبهته حتى رفعناه على السرير. وقال عبد الله بن أحمد: صلى على أبي محمد بن عبد الله بن طاهر، غلبنا على الصلاة عليه وقد كنا صلينا عليه نحن والهاشميون في الدار. وقال عبيد الله بن يحيى بن خاقانا: سمعت المتوكل يقول لمحمد بن عبد الله: طوبى لك يا محمد صليت على أحمد بن حنبل رحمة الله عليه.
وقال أبو بكر الخلال: سمعت عبد الوهاب الوراق يقول: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية والإسلام مثله، حتى بلغنا أن الموضع مسح وحرز على الصحيح فإذا هو نحو من ألف ألف، وحرزنا على القبور نحواً من ستين ألف امرأة.
وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ينادون من أراد الوضوء(59).
([1]1) باختصار من المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد لأبي اليمن مجيد الدين محمد بن عبد الرحمن العليمي (1/7) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
([1]2) تهذيب الكمال للحافظ المزي (1/445)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (11/184)، مؤسسة الرسالة).
([1]3) المنهج الأحمد (1/24).
([1]4) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم الأصبهاني (9/163) مطبعة السعادة
([1]5) كذا ولم يصرح بمعناه
([1]6) الأولى تخصيص الترضي بالصحابة الكرام، والترحم على العلماء.
([1]7) باختصار من المنهج الأحمد (1/7، 8، 9).
([1]8) سير أعلام النبلاء (11، 215).
([1]9) تاريخ بغداد (4/418).
([1]10) أبو نعيم في الحلية (9/165)، والمزي في تهذيب الكمال (1/453- 454)
([1]11) تاريخ بغداد (4/420) وذكره المزي في تهذيب الكمال (1/457).
([1] 12) حلية الأولياء (9/166).
([1]13) سير أعلام النبلاء (11/195)
([1]14) السابق (11/197).
([1]15) السابق (11/198).
([1]16) السابق (11/199).
([1]17) تاريخ بغداد (4/419).
([1]18) السابق: (4/419، 420)
([1]19) حلية الأولياء (9/169).
([1]20) تاريخ بغداد (4/421).
([1]21) سيرة الإمام أحمد لأبي الفضل صالح بن أحمد بن حنبل (41) تحقيق فؤاد عبد المنعم ط. دار الدعوة، وذكره الحليمي في المنهج الأحمد (1/11).
([1]22) السابق (42).
([1]23) المنهج الأحمد (1/11) وذكره أبو نعيم مسنداً (9/175).
([1]24) السابق (11/12) وقوله: "لأعارض أحمد بالزهد" أي: يقرأ عليه كتابه "الزهد،".
([1]25) أبو نعيم في الحلية (9/178).
([1]26) أبو نعيم في الحلية (9/170، 180).
([1]27) سير أعلام النبلاء (11/229).
([1]28) المنهج الأحمد (1/11).
([1]29) أبو نعيم (9/168).
([1]30) باختصار من المنهج الأحمد (1/12، 13)
([1]31) سير أعلام النبلاء (11/214)..
([1]32) سير أعلام النبلاء (11/221).
([1]33) المنهج الأحمد (1/27).
([1]34) السابق (1/27) وذكره الذهبي فى السير (11/318) بنحوه.
([1]35) حلية الأولياء (9/186، 187).
([1]36) المنهج الأحمد (1/26).
([1]37) السابق (1/27).
([1]38) حلية الأولياء (9/221).
([1]39) المنهج الأحمد (1/24)، والحديث رواه مالك في الموطأ (2/974)، الاستئذان، والبخاري (4/380)، البيوع، ومسلم (10/242)، المساقاة، والدارمي (2/372) وأحمد (3/100-174-182) وليس في هذه المواضع أنه أعطاه ديناراً وفي بعضها أنه أعطاه صاعاً من تمر وفي بعضها من شعير، فلعل للحديث روايات أخرى لم أقف عليها.
([1]40) سير أعلام النبلاء (11/213-214).
([1]41) رواه الترمذي (9/243) الزهد وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (4023) وقال الألباني: حسن صحيح.
([1]42) رواه أبو داود (4322) الفتن، والترمذي (9/20) الفتن، وله شاهد عند النسائي (7/161) هو به حسن.
([1]43) سير أعلام النبلاء (11/234).
([1]44) كذا وهو صواب ولعله أصله من: المتعصبين، كما أشار إليه فى الهامش الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد.
([1]45) البارية: الحصير.
([1]46) يثغب أي: يسيل.
([1]47) قال الذهبي: قال إبراهيم نفطويه: حدثني حامد بن العباس عن رجل عن المهتدي: أن الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن (11/316) سير أعلام النبلاء.
([1]48) اسم الموضع الذي به الخليفة.
([1]49) ورد النهي عن التسمي بقاضي القضاة وملك الملوك وشاهٍ شاه.
([1]50) باختصار من المنهج الأحمد (1/31- 41).
([1]51) صنف الحافظ ابن حجر القول المسدد في الذب عن المسند في دفع القول بوجود أحاديث موضوعة بالمسند فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً.
([1]52) وهو مطبوع طبعة غير محققة وتحتاج إلى تحقيق وترتيب والطبعة الموجودة بتحقيق عبد الرحمن بن قاسم؛ ولكنه تحقيق للنص فحسب.
([1]53) وهو مطبوع في مجلدين بتحقيق وصي الله بن محمد عباس وطبع جامعة أم القرى بمكة.
([1]54) باختصار من سير أعلام النبلاء (11/327-331).
([1]55) بتصرف واختصار من المنهج الأحمد (1/19، 20)
([1]56) السابق بتصرف (25).
([1]57) في سير أعلام النبلاء: خلل.
([1]58) رواه أحمد (2/9169) والترمذي (9/295) الجنائز، وقال: هذا حديث غريب. وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل. ربيعة بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعاً من عبد الله بن عمرو، والحديث له طرق ذكرها السخاوي في المقاصد الحسنة وهو بها حسن.
([1]59) باختصار من تاريخ الإسلام للإمام الذهبي جزء حوادث ووفيات (241-250) صفحة (137 -141) بتحقيق د. عبد الرحمن تدمري – دار الكتاب العربي.
منقول
مشكورة اختي على النقل
على المرور وعلى الرد الطيب
بارك الله فيكم