تخطى إلى المحتوى

الاعتكاف سنة ثابتة 2024.

  • بواسطة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، يثيب بمنه وفضله على القليل كثيراً، والصلاة والسلام على من بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن موسم رمضان موسم عظيم لمن أراد النجاة وسعى إلى فكاك رقبته من النار، ففي هذا الشهر تتنوع العبادات، وتتضاعف الحسنات، وتتنزل الرحمات، ومن خصائص هذا الشهر العشر الأواخر منه التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، فعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيره» [رواه مسلم]. وفي الصحيحين عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله». وفي مسند أحمد عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمَّر المئزر» .

ومن الأعمال التي يعملها في العشر الأواخر: الاعتكاف..

والاعتكاف: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل، وهو من السُنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، وعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده» [متفق عليه].

والاعتكاف من السُنن المهجورة التي قلَّ العمل بها وغفل عنها كثير من الناس، قال الإمام الزهري رحمه الله: " عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل ". فبادر أخي المسلم إلى إحياء هذه السنة العظيمة وحث الناس عليها والترغيب فيها. وأبدأ بنفسك فإن الدنيا مراحل قليلة وأيام يسيرة، فتخلص من عوائق الدنيا وزخرفها ولا يفوتك هذا الخير العظيم، واجعل لك أياماً يسيرة تتفرغ فيها من المشاغل والأعمال وتتجه بقلبك وجوارحك إلى الله عز وجل في ذل وخضوع وانكسار ودموع لتلحق بركب المقبولين الفائزين.

أخي المسلم: الاعتكاف يكون في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ومن تخلل اعتكافه جمعة استحب له أن يعتكف في مسجد جُمعةٍ، فإن اعتكف في مسجد جماعة خرج إلى الجمعة ثم رجع إلى معتكفه. واحرص أخي المعتكف على أن يكون اعتكافك في مسجدٍ بعيدٍ عن كثرة الناس والإزعاج، واختر أحد المساجد التي لا تعرف فيها أحداً، و لا يعرفك فيها أحد، فإن هذا أحرى للإخلاص وَأَفْزَغُ لقلبك وذهنك من محادثة الناس وكثرة مجالستهم ومخالطتهم، وإن كنت ممن يعتكف في الحرمين الشريفين فتجنب التضييق على إخوانك المصلين وافسح لهم المجال لأداء الصلوات ولا تكن ممن يرغب أن يُظهر للمصلين اعتكافه حتى يسلموا عليه أو يفسحوا له ! وبعض المعتكفين لا يصلي أحياناً التراويح أو القيام مع المصلين ويشوش عليهم برفع الصوت في أحاديث لا طائل من ورائها.

والاعتكاف مسنون في أي وقت، فللمسلم أن يبتديء الاعتكاف متى شاء وينهيه متى شاء، إلا أن الأفضل أن يعتكف في رمضان خاصة العشر الأواخر منه، فإذا صلى فجر يوم الحادي والعشرين من رمضان دخل المعتكف ويمكث في المسجد حتى خروجه إلى صلاة العيد وهذا وقت انتهائه المستحب.

وهي فرصة عظيمة وساعات قليلة؛ ليستفيد المسلم من هذا الانقطاع والبعد عن الناس، ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده؛ طلباً لفضله وثوابه، وإدراك ليلة القدر.. من قبل أن تطوى الصحف وتوضع الموازين..

أخي المعتكف: احرص على الذكر والقراءة والصلاة والعبادة، وتجنب ما لا يعينك من حديث الدنيا، ولا بأس أن تتحدث بحديث مباح مع أهلك أو غيرهم لمصلحة، لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيتُه أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت لأنقلب ( أي لأنصرف إلى بيتي ) فقام النبي معي… » [متفق عليه].

ويباح لك أن تخرج من المسجد لحاجاتك الضرورية كقضاء الحاجة من بولٍ أو غائط، أو للإتيان بطعام وشراب إن لم يكن هناك من يحضره لك، ومثله التداوي إن إصابك المرض وأنت معتكف، وكذلك إسعاف مريض من أهلك تجب عليك رعايته ولا تجد من يتولى أمره غيرك.

ومن محظورات الاعتكاف: الخروج لأمرٍ ينافي الاعتكاف، كالخروج للبيع والشراء، وجماع أهله، ومباشرتهم، ونحو ذلك.

أخي المعتكف: إن كان معك رفقه، فاختر الرفقة التي تعينك على الطاعة وتشد أزرك وتحرص على الخير واستغلال الأوقات وعمارتها بالعبادة، وتجنب الذين تضيع أوقاتهم في حديث وكلام. وبعض المعتكفين إذا كانوا جماعة يظهر عليهم الجد في أول الأيام، ثم يتراخون ويتكاسلون، وتراهم كثيراً ما تضيع أوقاتهم في أحاديث لا فائدة من ورائها، وقد ينجرُّ الحديث إلى أمور محرمة من غيبة أو غيرها.

أخي المسلم: الاعتكاف سنة، والمحافظة على بيتك وأبنائك من الواجبات، فاحذر أن تضيع الأهم وتفرط في أمر الرعاية، بل اجمع بين الأمرين، واحرص على ابتعادهم عن مواطن الفتن، ولا يكن اعتكافك فيه ضياع لحقوق واجبة. وإن تيسر أن يصحبك أبناؤك في الاعتكاف ؛ فإن في ذلك طريق تربية، وراحة نفسية لك، وأُلفة بينكم، وتعويد لهم على العبادة ؛ وإن صعب الأمر عليهم فلا أقل من ليلة يعتكفون فيها معك، وأجزل لهم العطية وشجعهم على ذلك.

أخي المسلم: مواسم الطاعات محطات يتزود فيها المسافر إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فكن من العقلاء الفطناء الذين لا تفوتهم هذه الفرص وهذه المحطات إلا وقد نالوا من نفحات الرب وجزيل الأجر وعظيم المثوبة.

فاحرص على الاعتكاف بنية صادقة، وابتعد عن المباهاة والرياء، وحب المدح والثناء، وإياك والعجب بأعمالك، واحرص على أن تكون أعمالك خالصة لله عز وجل قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، وفي الحديث المشهور: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.. » [متفق عليه]. ومما يُعينك على ذلك اختيار المسجد الذي لا تعرف فيه أحداً ولا يعرفك أحد، ولا حاجة لك أن تعلن اعتكافك على الملأ في يوم العيد أو بعده!

أقر الله عينك بالعبادة وجعلك من الفائزين المقبولين، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الاعتكاف سنَّة مؤكدة، وهدي نبوي فاضل، التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، كما حدثتنا بذلك عائشة رضي الله عنها، واعتكف أزواجه من بعده، وأصل ذلك في صحيح مسلم وغيره.

كما اعتكف أصحابه معه وبعده، ودرج على ذلك العلماء والعبَّاد والزهَّاد وطلاب الآخرة.

والاعتكاف المسنون هو اعتكاف الروح والجسد إلى جوار الرب الكريم المنان في خلوة مشروعة تتخلص النفس من أوضار المتاع الفاني، واللذة العاجلة، وتبحر الروح في الملكوت الطاهر؛ طالبة القرب من الحبيب مالك الملك ملتمسة لنفحاته المباركات.

الاعتكاف المسنون هو الخلوة الصادقة مع الله تفكراً في آلائه ومننه وفضائله، واعترافاً بربوبيته وإلهيته وعظمته، وإقراراً بكل حقوقه، وثناء عليه بكل جميل ومحمود.

الاعتكاف المسنون قيام وذكر وقراءة قرآن، وإحياء لساعات الليل بكل طيب وصالح من قول وعمل.

لقد أصاب الاعتكاف من بركات الصحوة وأصاب الصحوة من بركات الاعتكاف.

فأحيا الأخيار سنة الاعتكاف بعد أن عطلت ونُسيت دهراً طويلاً.

بيد أن هذا الاعتكاف كاد أن يخرج عن إطاره المشروع، وهدفه السامي لدى البعض، ومن ثم قلَّت منافعه وانحسرت فوائده، فمن ذلك:

1) الرياء والسمعة:
وكلنا يعلم أن الرياء والسمعة مبطلان للعمل، وهو ضرب من الشرك الخفي الذي حذر منه نبينا عليه السلام.
فكثيراً من يجاهر بعضنا باعتكافه بلا مناسبة، وكان حق هذا العمل الصالح الاجتهاد في إخفائه عمن لا يعلم به على الأقل.

2) الإكثار من لغو الحديث:
فقد يجتمع في المعتكف أشخاص كثيرون، وربما بعضهم يعرف بعضاً، فيجلس بعضهم إلى بعض يتجاذبون أطراف الأحاديث والمناقشات وغيرها يقطعون بها الوقت، وفي ذلك حرمان لكل واحد منهم من الخلوة بالنفس والقرب من الرب والتفرُّغ للعبادة، وكلها مقاصد كبرى للاعتكاف.

3) الانشغال بالهاتف الجوال:
وأعجب من الفقرة السابقة، الاتصالات الهاتفية عبر الجوال، حيث يتَّصل المعتكف بكل معارفه وأصدقائه، ويسألهم ويسألونه عن الصغير والكبير والجليل والحقير من الأمور ويتبادلون المزاح، والطُرَف والمُلَح، فأين هؤلاء من قول عائشة -كما في صحيح مسلم- أنها كانت تدخل البيت للحاجة والمريض فيه فلا تسأل عنه إلا وهي مارة إذا كانت معتكفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.