دائماً يكون الإنسان الذي يتمتع بالتواضع محظياً بالمكانة العالية بين الناس وقريباً لقلوبهم من غيره ممن لا يمتلك ذلك. علها صفة محببة للجميع فهي قبل أن تكون كذلك محببة عند الله ورسوله. والتواضع من الفضائل الخلقية التي ترفع من شأن المؤمن عند الله تعالى وتعزز مكانته عند الناس، وهي من الصفات التي أكدها الإسلام وبشر بثوابها، ولكن السؤال الذي يطرح: لمن نتواضع؟ وهل يجوز التواضع في كل الحالات؟
التواضع من سمات المؤمنين فيما بينهم وهو عكس التكبر الممقوت، ومن هنا تأتي المقولة المشهورة «من تواضع لله رفعه» وهذه المقولة تعتبر نظرية علمية عكسية، أي أنها ليست طردية، بمعنى أن كلما زاد تواضع وتذلل الإنسان المؤمن أولاً لربه ومن ثم لإخوته في الدين والانسانية بشرط عدم الإذلال، زاده الله رفعة عنده أولاً ومن ثم عند الناس. وتأتي هذه الرفعة من وجهة نظري في صور، كأن يلقي الله محبته في قلوب الناس ويوسع عليه في رزقه ويجعل له هيبة بين الناس.
وهنا أحببت أن أضيف حديثاً عن التواضع وهو منقول وذلك لتعم الفائدة: عباد الرحمن: قال تعالى: «وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً»، إذ التزم أكثر المفسرين بأن المراد من قوله تعالى «يمشون على الأرض هوناً»، أي حركتهم على الأرض أثناء تنقلاتهم، أم التزمنا بما قاله العلامة الطباطبائي(ره)، من كونه كناية عن منهجيتهم في المعاشرة مع الناس، فإن كليهما يقرران أسلوباً من الآداب والسنن الدينية والاجتماعية، وهو التواضع، وهو من الأخلاق الحسنة التي ينبغي أن يتسم بها الإنسان المؤمن، كما يستفاد من خلال تأكيد الشارع المقدس لذلك، سواء في الآيات القرآنية أم النصوص المعصومة، قال تعالى «ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً». وقال سبحانه «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين»، وجاء ضمن وصايا لقمان الحكيم لولده، قوله: «ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».
وجاء عنه (ص) قوله: «ما تواضع أحد إلا رفعه الله». وقال (ص): «ثلاث لا يزيد الله فيهن إلا خيراً: التواضع لا يزيد الله به إلا ارتفاعاً، وذل النفس لا يزيد به الله إلا عزاً، والتعفف لا يزيد الله به إلا غناً». وما أوصى به أمير المؤمنين (ع) عند وفاته قوله: «عليك بالتواضع، فإنه من أعظم العبادة».
وبالجملة، فإحدى الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها عباد الرحمن، أنهم متواضعون. وهذا يستوجب أن نتحدث شيئاً ما بشأن هذه الصفة، حتى يتضح لنا مدى أهميتها بحيث تعدّ شيئاً مميزاً يمتاز به هؤلاء ما أوجب استحقاقهم لهذه المكانة.
علامات التواضع: لا يخفى أن حقيقة التواضع من الأمور الواضحة التي لا تحتاج بياناً، فإنها تلك الصفة التي يتنازل الإنسان من خلالها عن مكانته الاجتماعية، ويواسي الآخرين الذين ربما كانوا أقل منه مرتبة ومنزلة. ولا ريب أن لهذه الملكة والسجية علامات يمكن من خلاها تمييز ما كان متصفاً بها حقاً وحقيقة، ومن كان يدعي الانتساب إلى ذلك بالادعاء فقط ليس إلا. ضرورة أن هناك من يدعي التواضع لكنهم ليسوا كذلك، بل هم بعيدون كل البعد عن ذلك.
إفشاء السلام: أول العلامات التي يتعرف من خلالها على المتواضعين فعلاً، هي امتلاكهم لصفة إفشاء السلام، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع)، أنه قال: «من التواضع أن تسلم على من لقيت». وعن الإمام أبي محمد العسكري (ع) أنه قال: «من التواضع السلام على كل من تمر به». والمستفاد من هذين النصين أن إفشاء السلام، علامة من علامات التواضع. ومن الواضح أن الداعي لجعل إفشاء السلام علامة من علامات التواضع التي تكشف عنه، يعود إلى علاج شيء من الأمراض الأخلاقية المتفشية في الأوساط الاجتماعية، إذ إن كثيرين، لا يعمدون إلى إلقاء السلام إلا مع الذين يرتبطون بهم بعلاقة، ويكون بينهم وبينهم معرفة، أو يكون بينهم مصلحة، أو لهم عندهم حاجة، فهم لا يبدأون الآخرين بالسلام قربة لله تعالى. أما عباد الرحمن المتواضعون، فإنهم إنما يلقون التحية والسلام رغبة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وسعياً لإحراز رضاه، وهذا يشرح لنا النصوص الكثيرة التي وردت في الدعوة إلى إفشاء السلام، والحث على ذلك. بل ربما قيل بظهور النصين السابقين وإضرابهما من النصوص أيضاً في أن علامة التواضع هي الابتداء بالسلام، فضلاً عن إفشائه، ضرورة أن في ذلك كسراً لثورة النفس واعتقادها الأفضلية، إذ إن كثيرين ينظرون إلى الناس نظرة دونية، تستوجب أن يأتي الآخرون للسلام عليهم، ويبتدئوهم بذلك، لا أن يبدءوا هم الناس بالسلام.
ترك المرء والجدال: ومن علامات التواضع التي تكشف عن وجوده عند الإنسان حقيقة، وأنه غير مدعٍ لوجود هذه الصفة عنده، تركه للجدال والمرء، فعن أبي عبدالله (ع) – في حديث – قال: «التواضع… وأن تترك المراء وإن كنت محقاً».
أقسام التواضع: يمكن تقسيم التواضع إلى قسمين، الأول: وهو التواضع المحمود الذي دعت إليه النصوص الدينية، ويراد منه ترك التطاول على عباد الله سبحانه، والإزراء بهم.
الثاني: التواضع المذموم، وهو ما كان تواضع الإنسان لأجل مصلحة، كالتواضع رغبة في الدنيا، أو التواضع لكون المتواضع له غنياً أو وجيهاً أو ما شابه ذلك. ويمكن عدّ القسم الثاني استثناءات من التواضع، وليس قسماً مستقلاً، بحيث يقال ليس للتواضع إلا قسم واحد، لكن بعض التواضع مستـثنى. وعلى أي حال، ذكر أهل السّير والسلوك عدة مصادق للتواضع المذموم نشير إلى بعض منها:
التواضع للمتكبر: لما كان التواضع يحمل الحب والعاطفة، فلا يصح أن يعطى ذلك للمتكبر، لأن مقابلة المتكبر بذلك تعني تأيـيداً له على تكبره وغروره، ولعل هذا يفسر لنا ما ورد من النصوص من محبوبة التكبر على المتكبر، وكون التكبر عليه عبادة، فعن رسول الله (ص) أنه قال: «إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم، وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم، فإن ذلك لهم مذلة وصغار».
التواضع لأجل الجاه والثروة: قد يحصل أن يتواضع بعض الناس للأغنياء وأهل المال، من أجل غناهم وثروتهم، ومن الواضح أن هذا قد أساء الظن بالله، إذ جعل تواضعه لهؤلاء سبيلاً لاستفادته منهم، وتحصيل العطاء، ولم يتوكل على الله سبحانه في تحصيل رزقه وعطائه. وقد ذم أهل البيت (ع) هذا التواضع، فعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «من أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه».
التواضع للمتجاور بالفسق: إما بتركه الصلاة مثلاً، أو بتركه واجباً من الواجبات الشرعية مجاهراً بذلك، أو بارتكابه لمحرم من المحرمات وكبيرة من الكبائر، مجاهراً بذلك، فإن التواضع لجميع هؤلاء في غير محله، لما ذكرناه قبل قليل في الحديث عن التواضع للمتكبر، إذ أشرنا هناك إلى أن في التواضع نوع تأيـيد للمتواضع له، ولا ريب في أن المجاهر بالفسق، أو المرتكب للحرام متى ما وجد المؤمنين يتواضعون له، أعتقد أن ذلك تأيـيداً له في طغيانه وفسقه، وتشجيعاً له على الاستمرار، فيستمر على ما هو عليه، بل ربما زاد، بخلاف ما لو قوبل بالمقاطعة الاجتماعية ابتداءً من ترك التواضع له، فإنه ربما كان باعثاً له على مراجعة نفسه، ودراسة حاله فيتراجع عما هو عليه من المعصية، ويشهد لما ذكرنا النصوص التي وردت في النهي حتى من السلام عليه.
عدم نشر الفساد:ثم إنه ينبغي أن نشير إلى أن هناك احتمالاً آخر ذكرهم بعضهم في بيان هذه الصفة، وأن المراد منها ليس التواضع، وإنما المراد منها عدم نشر الفساد في المجتمع. ولا يخفى أن هذا المعنى ينسجم مع كلا المعنيـين اللذين ذكرناهما في تفسير الآية، أعني سواء بنينا على ما ذهب إليه جمهور المفسرين، أم بنينا على ما اختاره السيد الطباطبائي (ره).
بل الظاهر أن هذا التفسير لا يتنافى وتفسير الآية الشريفة بالتواضع، ضرورة أن التواضع من أجلى المصادق التي تنسجم مع عدم نشر الفساد، لما عرفت قبل قليل من أن التواضع من الصفات الحسنة، ومكارم الأخلاق .والإنصاف حسن هذا التفسير، وخصوصاً بعدما كان شاملاً لتفسير الآية الشريفة بالتواضع، لكن الذي يمنع من قبوله أنه لا يوجد في البين ما يشهد ويساعد عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور.
منهجية التعامل مع السفهاء والحمقى: ثم تعرضت الآية الشريفة إلى الصفة الثانية من الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمن، وهي كيفية التعامل مع السفهاء والحمقى، ضرورة أنه دائماً ما يـبتلى الرساليون والصرحاء بمجموعة من السفهاء والحمقى، يعمدون إلى الإساءة إليهم، ولهم في ذلك أساليب متعددة، فتارة يكون ذلك من كيل التهم والأباطيل عليهم، وثانية يكون ذلك من خلال إيذائهم في أنفسهم أو أهليهم، أو من يلوذ بهم، وثالثة، يعمدون إلى الإساءة إليهم، برسم صورة سيئة عنهم في الأوساط الاجتماعية، أو السعي إلى تشويه صورتهم، ومحاولة إبرازها بصورة سلبية… وهكذا.
كيف نستوعب اتهامات الآخرين: في الآية الشريفة المنهجية التي ينبغي اتباعها عندما تتوزع الاتهامات من الجهلاء والسفهاء إلى الصالحين والرساليين من أبناء المجتمع، وهي قول سلام. ولا يخفى أن التعبير بكلمة سلام، لا تنحصر في خصوص قول هذه الكلمة، بل الظاهر – والله أعلم – أنها تشير إلى الطريقة المتبعة، فيعمد المؤمن إلى مقابلة الإساءة الواقعة عليه بإحسان، فلا يقابل الإساءة بالإساءة نفسها، لأن ذلك مدعاة إلى تحول المجتمع إلى مجتمع سباب وشتم، ومن ثمّ ينهار وتتداعى أركانه. فالطريقة المثلى على هذا في مقابلة الإساءة هي اتخاذ منهجية السلام المشار إليها في الآية.
ومن جميل ما ينقل في هذه الآية الشريفة ما جرى بين المأمون العباسي وأحد أعمامه، وهو إبراهيم بن شكله، أخو الرشيد، إذ كان مغنياً معروفاً يعيش في بيئة معروفة من الخمر والجواري والمفاسد، فلما بايعوا الإمام الرضا (ع) بولاية العهد، ورفض العباسيون ذلك جاءوا بإبراهيم هذا لكونه عباسياً وبايعوه خليفة. دخل هذا يوماً على المأمون بعدما استرد الخلافة، فقال له: أنتم تقولون أن علياً سيد الفصحاء والبلغاء، فقال المأمون: نعم هو كذلك، فقال إبراهيم: لقد رأيته في المنام فحاولت أن أحاجه، فكلما حاولت ذلك لم يجبني إلا بقوله سلاماً. فقال المأمون: والله لقد أجابك فأبلغ الجواب. قال: كيف؟ قال: أما تقرأ قوله تعالى: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً» فهذا أبلغ جواب، فقد اعتبرك جاهلاً لا تستحق أن يجيـبك. وكذلك لو كانت الإساءة والإيذاء في النفس أو في الأهل كما كان يصنع مشركو مكة مع النبي الأكرم محمد (ص) من خلال وضع الأشواك والأوساخ والقاذورات في طريقه، ومع أن النبي (ص) كان قادراً على الدعوة عليهم وإنزال العذاب، إلا أنه (ص) قابل تلك الإساءة لشخصه الكريم، بالإحسان وبمنهجية السلام التي تشير إليها الآية الشريفة.
ومن خلال ما ذكرنا يتضح أيضاً أن هذه الطريقة هي الطريقة المثلى في مقابلة الإساءة من النوع الثالث، بل كل إساءة كانت ما تكون. ع
سلمتي على الاختيار الموفق
ومن تواضع لله رفعه
بنتظار جديدك
اللهم صل علي سيدنا محمد وعلي اله وصحبه اجمعين
لا حول ولا قوة الا باللهالعلي العظيم
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
لا اله الا اللهوحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير
اللهم انك عفو كريمتحب العفو فاعفو عنا
هداكِ الله إلى طريق الحق والصواب.
هدانا الله واياك إلى طريق الحق والصواب