حمدى شفيق
من أكثر المصطلحات الإسلامية التى تعرضت للتحريف والتشويه بفعل وسائل الإعلام الأجنبية – خاصة بعد 11 سبتمبر – مصطلح (الجهاد) .. فقد عمد الأعداء إلى تصوير (الجهاد) على أنه مرادف للإرهاب !! وحاول آخرون جعل الجهاد مرادفًا لـ (الحرب المقدسة) كما يتشدق بها أصحاب الحملات الصليبية قديمًا وحديثًا .. والإسلام لا يعرف الحرب المقدسة المزعومة.. كما أن للجهاد فى الإسلام مفهومًا وضوابط وأخلاقيات سامية لا عهد للبشرية بمثلها.. فالجهاد فى اللغة : بذل الجهد والوسع والطاقة، من الجُهْد بمعنى الوُسع، أو من الجَهْد بمعنى المشقة وكلا المعنيين فى الجهاد .
وفى الشرع ، أو فى اصطلاح القرآن والسنة ، يأتى بمعنى أعم وأشمل، يشمل الدِّين كله؛ وحينئذ تتسع مساحته فتشمل الحياة كلها بسائر مجالاتها، ولهذا يُسمى حينئذ : الجهاد الأكبر . وله معنى خاص هو القتال لإعلاء كلمة الله ، وهذا يشغل مساحة أصغر من الأولى، ولهذا سُمِّىَ (الجهاد الأصغر) .
وكما يقول الدكتور عبد العزيز القارى : فإن الجهاد بمعناه العام يشمل حياة الفرد والمجتمع كلها ، بجوانبها المختلفة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والصراع فيه يشمل أعداء كثيرين، يشمل النفس وشهواتها والهوى، ووساوس الشياطين؛ شياطين الجن والإنس، ووساوس هؤلاء الشياطين على نوعين :نوع هدفه زرع الشبهات ، وآخر هدفه اتباع الشهوات؛ ومكافحة الأول بنشر العلم والعقيدة الصحيحة، ومقاومة الثانى بنشر الفضائل والأخلاق الحميدة وموعظة الناس لتقوية إيمانهم . وكل هذا وذاك من الجهاد الأكبر؛ خاصة أن أهل الشبهات وأهل الشهوات أصبحوا اليوم يستخدمون مختلف الوسائل المؤثرة : الإعلامية ، والتعليمية، والاقتصادية، وفى غالب الأحيان يتم ذلك بدعم وتخطيط من أهل السياسة والحكم والتنفيذ .
انظر إلى مدى اتساع هذه الجبهة، أليست مصارعة كل ذلك سياسيًا، وإعلاميًا، وتعليميًا، مصارعته بالدعوة، أكبر من المصارعة العسكرية؟ إن الجهاد بـ (الكلاشنكوف) هو أسهل أنواع الجهاد، لكنه أكثرها خطرًا .
ولذلك فإن تسمية الأول بـ (الجهاد الأكبر) صحيح المعنى، تدل عليه نصوص الكتاب والسنة ، وإن لم يصح الحديث الوارد فيه بخصوصه(1) .
إن حصر مفهوم (الجهاد) فى القتال خطأ فى فهم الكتاب والسنة، فإن الجهاد فيهما جاء بمعنى القتال، وجاء بمعنى أكبر من ذلك وأشمل :
قال تعالى : (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا) الفرقان:52.
قال ابن عباس رضى الله عنهما : (وجاهدهم به) أى القرآن(2) .
فالجهاد الكبير هنا ليس هو القتال، وإنما هو الدعوة والبيان بالحجة والبرهان، وأعظم حجة وبيان هو هذا القرآن، إنه حجة الله على خلقه, ومعه تفسيره وبيانه الذى هو السنة .
وقال تعالى : (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين) التوبة:73 .
فى هذه الآية ليس المراد بجهاد المنافقين القتال، لأن المنافقين يظهرون الإسلام ويتخذونه جُنَّة، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم بل عاملهم بظواهرهم، وحتى من انكشف كفره منهم كعبد الله بن أبى بن سلول لم يقتله سياسة منه، صلى الله عليه وسلم وقال : (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)(3) . ولكن جهاد المنافقين يكون بالوسائل الأخرى، مثل كشف أسرارهم ودواخلهم وأهدافهم الخبيثة، وتحذير المجتمع منهم، كما جاء فى القرآن .
وقال تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) العنكبوت:69 .
ولاشك أن المراد بالجهاد هنا مفهومه الشامل المتضمن نوعيه الأكبر والأصغر ، نقل ابن كثير عن ابن أبى حاتم بإسناده عن ابن عباس ، قال فى تفسير هذه الآية : "الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون" فتفسير الآية إذن : (الذين جاهدوا فينا) أى جاهدوا فى ذات الله أنفسهم وشهواتهم وأهواءهم وجاهدوا العراقيل والعوائق وجاهدوا الشياطين، وجاهدوا العدو من الكفار المحاربين، فالمقصود : الجهادُ فى معترك الحياة كلها، وفى حلبة الصراع الشامل .
وفى السنة النبوية بين النبى صلى الله عليه وسلم أنواع الجهاد بمفهومه الشامل فقال : (ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا كان له من أمته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن،ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(5) .
والمراد بجهاد القلب هنا هو بغضهم وبغض حالهم، التى هى عقيدة الولاء والبراء؛ بدونها لا يصير الإنسان مؤمنا؛ سمى النبى صلى الله عليه وسلم فعل القلب هذا جهادًا، كما سمى فعل اللسان جهادًا، ومن باب أولى أن يسمى فعل اليد جهادًا؛ أليس هذا مفهومًا شاملاً للجهاد ووسائله؟
عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال : جاء رجل للنبى صلى الله عليه وسلم فقال:أجاهد؟ قال : (ألك أبوان) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد)(6). انظر كيف سمى بر الوالدين ورعايتهما جهادًا فى هذا الموقف، فكلٌّ جهاده بحسبه، وهذا الرجل كان والداه بحاجة إليه، وهو مشتاق للخروج مع النبى صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، فبين له صلى الله عليه وسلم أن جهاده هو رعاية أبويه .
وأمثلة هذا من السنة كثيرة يسمى فيها بعض الأعمال الصالحة أو يجعلها بمنزلة الجهاد؛ كقـوله صلى الله عليه وسلم: (الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله)(7) وهكذا يتضح لنا مدى اتساع دائرة الجهاد، وأنها ليست محصورة فى القتال، بل هى مرتبطة بمجالات الحياة كلها .
وهكذا حتى عندما يكون هناك قتال صحيح مع العدو، فإن جهاد كل واحد بحسبه الطبيب بخبرته الطبية، وأهل الإغاثة بإغاثتهم، وأهل الإعلام بإعلامهم ، وأهل الأموال بأموالهم، ويبقى بقية فى البلد يقومون بشؤونها ويخلفون المجاهدين فى أهليهم بالخير والرعاية والحراسة، لتستمر عجلة الحياة فى الدوران .
والملاحظ أن بعض الناس نظر إلى الجهاد نظرة ضيقة فحصره فى جانب القتال،وهذا قصور فى فهم الشرع وفى فهم نصوص الكتاب والسنة .
وقد جاء الجهاد فى الإسلام بالحياة وليس الموت .
لأن الإسلام دين الحياة والسلام، فيه منهج الحياة الحقيقية، الذى لو التزم الناس به لعاشوا فى أمان وسلام، وعدالة ورخاء .
يقول بعض من لا يعرفه : إنه دين دموى!!
كيف وهو يمنع سفك الدماء، ويجعل قتل نفس واحدة بغير حق مثل قتل الناس جميعًا (..من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا..) المائدة:32 .
ويجعل الجنوح للمسالمة الاختيار المفضل ما دام الطرف الآخر يقبل به : (..وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ..) الأنفال:61 .
ولا يفرض عقيدته وشريعته على أحد، وإنما يخاطبهم بالدعوة، والدعوة قائمة على الحجة والبيان، وأسلوبها قائم على الجدال والمجادلة بالتى هى أحسن : (..ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن..) النحل:125 .
ووجه خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم : (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99، هذا استفهام إنكارى؛ فمعني الآية : لا تُكْره الناس على ذلك .
ولكن هل يقبل كل الناس هذا المنطق المسالم العقلانى ؟
أكثر الناس ويا للأسف عدوانيون، إن خفضت لهم جناح الذل كسروا جناحك وأكلوا لحمك ونهشوا عظامك!!
ومسالمة من يهجم عليك بسكين ليقتلك أمر غير معقول، لاينصحك به أحد من العقلاء، ومن الطبيعة السوية أن تحمى نفسك وتدافع عن حرمتك أمام المعتدين الصائلين الجائرين..
ومن هنا شرع الجهاد فى الإسلام للدفاع عن الحرمات، لا للعدوان على الناس، حتى لو كانوا مخالفين فى الملة والدين..
لو كان الجهاد فى الإسلام هو لكل مخالف فلم أمر بمسالمة من يسالمنا من الكفار؟ بل أمر بالإحسان إليهم ومعاملتهم بالعدل..
قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة:8 .
ولم أمر الحاكم المسلم بأن يقر غير المسلمين من رعيته على دينهم، وسماهم النبى صلى الله عليه وسلم (أهل الذمة) وفى هذه التسمية إشارة إلى مسؤولية المسلمين حيالهم أن يعاملوهم بالعدل والإحسان .
وأمر بإقرار اليهود والنصارى على ملتهم إذا وقعوا فى قبضة المسلمين، قال تعالى : (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة:29 .
وهنا إيماءة عجيبة فى هذه الآية، هى هذه الأوصاف التى وصف اليهود والنصارى من نفى الإيمان عنهم، ونفى طاعة الله ورسوله، ونفى الامتثال للشريعة، وأنهم لا يدينون دين الحق الذى هو الإسلام، فذكر هذه الأوصاف يتبادر إلى الذهن أنه يوجب عدم إقرارهم على ملتهم هذه، ويوجب قسرهم على الإسلام الدين الحق، لكن الآية مع ذلك ختمت بإقرارهم على ملتهم ماداموا خاضعين لسلطان الحكومة الإسلامية .
الجهاد فى الإسلام موجه فقط ضد من يقاتلنا، ضد من يعتدى علينا ويخرجنا من ديارنا أو يظاهر على إخراجنا والعدوان علينا، وحرم علينا نحن المسلمين العدوان بمقاتلة من لا يقاتلنا، قال تعالى :
(وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة:190 .
وينبه الدكتور القارى إلى أن قـولـه تعالى : (ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين) : جعل هذه الآية محكمة غير قابلة للنسخ، فلا يقال إن هذا الحكم كان أول الأمر ثم أمرنا بمقاتلة جميع الكفار، لأن هذا القول يؤدى إلى معنى قبيح لا يقول به أحد وهو نسخ (ولا تعتدوا) ونسخ (إن الله لا يحب المعتدين) والأول حكم لا يقبل النسخ مثل تحريم الظلم، والآخر خبر، والأخبار لا تقبل النسخ .
فإذن كل النصوص الأخرى التى وردت فى الجهاد يجب أن تفهم فى ظلال هذه الآية المحكمة(8) .
إن الجهاد فى الإسلام حياة، لأنه دفاع عن الحرمات وردع للمعتدين، فلو تركت الحرمات نهبةً لكل منتهب، وترك المعتدون يفعلون ما يشاءون ما استقامت الحياة .
قال تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وفى قراءة (دفاع) البقرة:251 .
والجهاد بهذه المثابة حياة للمسلمين ولغيرهم من المظلومين من أهل الملل الأخرى، قال تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا) الحج:40 ، فالصوامع: معابد النصارى، والبيع: معابد اليهود،والصلوات: معابد المجوس أو الصابئة، والمساجد: معابد المسلمين، وهى التى يذكر اسم الله فيها كثيرًا .
وقال سبحانه ومالكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا) النساء:75 .
الجهاد مع ما فيه من سفك لبعض الدماء هو حياة كالقصاص مع أنه سفك لدم الجانى لكنه حياة للناس، لأنه يردع الجناة؛ فتحفظ بذلك دماء الناس من أن تُسفك(9) .
قال تعـالى : (ولكم فى القصاص حيـاةٌ يا أُولى الألباب لعلكم تتقـون) البقرة:179(10) . انتهى .
ملاحظات للمؤلف
• الجهاد طبقًا لآراء أغلب علماء المسلمين المعاصرين يمكن أن نطلق عليه: (الحرب الدفاعية) ..والأدلة من السيرة العطرة وعمل الخلفاء الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم تثبت بوضوح أنهم جميعًا لم يحاربوا إلا الكافر المحارب أى الذى يقاتل المسلمين . وذلك أمر تقره حتى كل الشرائع الدولية والقانون الوضعى .
• كل المعارك الهامة التى وقعت فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم كانت دفاعية . فقد مكث عليه الصلاة والسلام وأصحابه فى مكة أكثر من 13 سنة قبل الهجرة يُؤذون ويُضربون، ويُحبسون، ويُعذبون، ويُقَتلون، ولم يرد أحدهم هذه الاعتداءات الإجرامية، لأنهم لم يُؤمروا بقتال ولو للدفاع عن النفس – قُتلت سمية أم عمار بن ياسر أثناء التعذيب الوحشى لمحاولة إرغامها على الارتداد عن الإسلام – فى تلك المرحلة .
• وقعت غزوة (بدر) خارج المدينة المنورة ببضعة أميال .. إذن جيش المشركين هو الذى جاء من على بعد حوالى 450 كيلومترًا – من مكة – ليقاتل المسلمين فى مهجرهم، وكان المسلمون إذن فى موقع الدفاع لا الهجوم .. ويؤيدنا فى هذا أن المسلمين كانوا قلة – 314 رجلاً – بينما جيش الكفار ألف مقاتل مسلحين بكل ما كان متوافرًا فى ذلك العصر من عتاد ومُؤن، بينما المسلمون لا يملكون خيلاً ولا شيئًا سوى السيوف والرماح .. فهل يعتدى 314على ألف ؟!! ورغم هذا انتصروا لأنهم ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ..
• موقعة (أُحد) وقعت أيضًا خارج المدينة المنورة ببضعة كيلومترات .. أى أن جيش المشركين هو الذى جاء من مئات الكيلومترات ليثأر من المسلمين بعد هزيمته فى العام السابق فى بدر (وكان رأى النبى عليه السلام اتخاذ موقع دفاعى بالمدينة لكن أصحابه ألحوا عليه فى الخروج إلى أُحد) .
• ولعل غزوة (الخندق) هى أكبر دليل قاطع على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقاتل إلا دفاعًا ولم يكن أبدًا فى وضع المعتدى .. فقد جاء عشرة آلاف مشرك من كل أنحاء جزيرة العرب وحاصروا المدينة المنورة .. وكان المسلمون قد حفروا خندقًا حولها لمنع المهاجمين من اقتحامها (لاحظ النية الدفاعية البحتة الواضحة فى البقاء داخل المدينة والاكتفاء بحفر الخندق لتأمينها وإجبار المعتدين على العودة من حيث أتوا) .
• ثم فى (الحديبية) وافق النبى صلى الله عليه وسلم على توقيع معاهدة مع المشركين لحقن الدماء والرجوع بدون أداء العمرة هذا العام ، وحتى باقى الشروط التعسفية التى وضعها الكفار مثل عدم التزامهم بردمن يأتيهم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، بينما يلتزم هو برد من يأتيه مسلمًا من المشركين، فقد وافق عليه السلام عليها رغم سخط أصحابه كعمر بن الخطاب، وذلك كله لأنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا كل الحرص على حقن الدماء وإقرار السلام ما أمكنه ذلك.
• ثم نأتى إلى فتح مكة .. وقد ثبت أن النبى عليه الصلاة والسلام قد عزل سعد بن عبادة عن قيادة إحدى فرق الجيش قبيل دخول مكة مباشرة عندما بلغه أن سعدًا قال: اليوم يوم الملحمة .. اليوم تستحل الحرمة .. فخشى النبى عليه السلام أن يتورط سعد فى سفك الدماء والثأر من المشركين – ولو فعلها المسلمون لكان هذا حقًا لهم فى القصاص – لكن النبى صلى الله عليه وسلم الذى أرسله ربه رحمة وليس نقمة عزل سعدًا وولى بدله ابنه قيس بن سعد بن عبادة ، وقال عليه السلام : (اليوم يوم المرحمة) . ثم عفا صلى الله عليه وسلم عمن آذوه وعذبوه وتآمروا على قتله وقتلوا أصحابه قائلاً لهم : (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .. فكيف يُقال بعد كل هذا أن الجهاد فى الإسلام للاعتداء ولقتل كل من ليس بمسلم ؟!!
أى تسامح ، وأية رحمة تُراد أكثر من ذلك ؟ (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا) الكهف:5 ، لقد كان النبى عليه السلام مثالاً للفارس النبيل الذى يعفو عند المقدرة، ويأنف أن يشهر سيفه فى وجه طفل أو امرأة أو عجوز أو راهب أعزل . ولذلك كانت وصايا النبى والخلفاء الراشدين من بعده لقادة الجيوش الإسلامية تنهى صراحة عن قتل الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان المعتزلين فى الصوامع ، وتنهى كذلك عن إحراق الزرع أو الضرع أو تخريب أية مرافق عامة ينتفع بها الناس على اختلاف دياناتهم، أو هدم المساكن، وحتى الآثار القديمة مثل أهرامات مصر وتماثيل الفراعنة تركها الصحابة الذين فتحوا مصر سليمة على حالها، فهم لا يدمرون الحضارات الأخرى . وتلك حجة قاطعة على من دمروا تماثيل بوذية فى أفغانستان ، فهم ليسوا بأعلم أو أتقى من الصحابة الذين فتحوا مصر وتركوا أهرامات وتماثيل الفراعنة سليمة بغير سوء .
• وهناك كذلك التعليمات الصريحة بحسن معاملة الأسرى حتى ولو أساء الآخرون معاملة أسرى المسلمين .. بل نلاحظ تلك الإشارة عظيمة الدلالة فى التعامل مع أسرى بدر من المشركين .. فقد قبل النبى عليه السلام إطلاق سراح القادرين ماليًا منهم نظير فدية – ومَنَّ على فقراء بإطلاق سراحهم دون مقابل – وجعل إطلاق سراح الآخرين نظير أن يقوم كل منهم بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة(11) .. أليست هذه صورة واضحة للرقى الحضارى الإسلامى؟! أليست هذه الواقعة دليلاً قاطعًا على أن الإسلام يحث على التواصل الحضارى حتى مع ألد أعدائنا؟ ألم يتعلم كثير من المسلمين مبادىء القراءة والكتابة – أولى خطوات المعرفة – على أيدى الأسرى من أعدائهم المشركين ؟ إنه نبى السلام والتواصل والحضارة الإنسانية الذى جاء ليعلم لا ليهدم ، وجاء ليرحم لا ليظلم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 . كما أخذ الفاروق عمر نظام الخراج عن الفرس ونظام الدواوين عن الروم رغم كونهم فى حالة حرب مع المسلمين فى ذلك الوقت .
• فى مقابل المعاملة الإنسانية الإسلامية للأسرى على مر العصور ، ماذا فعل ويفعل الآخرون ؟! لقد أعدم الصهاينة عشرات الألوف من الأسرى المصريين فى حربى 1956م و 1967م بلا تحقيق أو محاكمات، وبعد تعذيب مروع سجلته تقارير المنظمات الدولية ؟! فهل حاسب أحد مجرمى الحرب الإسرائيليين ؟!
وكان الصرب – الأرثوذكس – يعدمون الأسرى والرهائن من الرجال المسلمين المدنيين – لأنه لم يكن للمسلمين جيش بالبوسنة – ذبحًا بالسكاكين أو ضربًا بالمطرقة على الرأس أو إغراقًا فى الأنهار لتوفير الذخيرة (!!!) وبهذه الطريقة فضلاً عن قصف المبانى السكنية والمدارس والمستشفيات ، استشهد ربع مليون مسلم بالبوسنة (1993-1995م) .. أما النساء المسلمات فكان الصرب والكروات الكاثوليك فى مناطق أخرى يستبقونهن على قيد الحياة لإغتصابهن!! وبهذه الطريقة اغتصبت أكثر من 25 ألف امرأة وفتاة بل وأطفال خلال حرب التطهير العرقى الإجرامية ضد المسلمين فى البوسنة والهرسك(12) ..
وفى منطقة كشمير التى تحتلها الهند سجلت تقارير المنظمات الدولية المحايدة اغتصاب آلاف المسلمات بواسطة الجنود الهنود(13)!! وكذلك وقعت آلاف من جرائم الاغتصاب الجماعى ضد المسلمات فى الشيشان على أيدى الجنود الروس.. وفى المقابل لم تُسجل حالة اغتصاب واحدة قام بها مسلم فى أية منطقة فى البوسنة أو كشمير أو الشيشان .. وهذا هو الفارق بين المسلم والآخر..
• حتى فى أعداد قتلى الحروب تظهر جليًا عظمة الجهاد الإسلامى الذى هو حرب نظيفة عادلة لنصرة المظلوم والدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض.. فالحرب فى الإسلام وسيلة وليست غاية ، والقتل للضرورة فقط عندما لا توجد وسيلة أخرى لردع الظلمة وإقرار السلم والعدل فى الأرض .. والدليل على ذلك أن إجمالى ضحايا كل الحروب التى وقعت فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم لم يتجاوز بضع مئات من الجانبين خلال عشر سنوات .. بينما أباد الأمريكان البيض – أجداد هنتنجتون وبوش – أكثر من 112 مليون هندى أحمر لإقامة أمريكا التى تتشدق الآن بحقوق الإنسان والديمقراطية والنظام العالمى الجديد!! وسقط أكثر من ستين مليونًا من الأوروبيين ضحايا حربين عالميتين ، فضلاً عن ملايين القتلى بالأسلحة القذرة المحرمة دوليًا والتى استخدمها الأمريكان فى اليابان وفيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها ..
المسلمون لم يهدموا دور العبادة ولا المستشفيات ولا المدارس ولا المناطق السكنية ، التى ضربتها الطائرات الأمريكية فى العراق وأفغانستان وجعلتها مقابر لعشرات الألوف من المسلمين .. وكذلك دمر الصرب 360 مسجدًا فى البوسنة، وقصفت إسرائيل المسجد الأقصى وهدمت أجزاء منه وضربت مدرسة بحر البقر فى مصر ..
شهادة غير المسلمين
وأخيرًا نقدم شهادات المنصفين من غير المسلمين مثل مارسيل بوازار الذى يقدم خلاصة النظام القانونى الإسلامى فى حالات الحروب فى كتابه (إنسانية الإسلام) فى النقاط التالية :
1- حظر التجاوز والغش والظلم فى جميع المجالات .
2- منع إنزال الأضرار الزائدة على الحاجة بالعدو ، كالقتل ، والقسوة ، والتعذيب المهين .
3- حظر أعمال التدمير غير المفيدة، ولاسيما إتلاف المزروعات .
4- إدانة الأسلحة المسمومة والتدميرات الجماعية العشوائية .
5- التمييز بين المقاتلين – وهم يحملون فى الجيوش الإسلامية شارات مميزة – وبين المدنيين غير المشتركين بصورة مباشرة فى القتال .
6- احترام المنسحبين من الالتحام، كالجرحى، والجنود المتمتعين بأمان موسع – الحماية – وأسرى الحرب .
7- المعاملة الإنسانية للأسرى الذين يبادل بهم، أو يحررون من جانب واحد، حين تضع الحرب أوزارها، شرط ألا يبقى أى أسير فى قبضة الأعداء .
8- حماية السكان المدنيين: احترام أديانهم – وبالتالى حضارتهم – ورؤساء هذه الأديان، ولا شرعية لقتل الرهائن واغتصاب النساء .
9- تأكيد المسئولية الفردية : إلغاء كل عقوبة تصدر بحق أشخاص عن جرائم لم يرتكبوها بأنفسهم .
10- لا شرعية فى مقابلة الأذى بالأذى والتدابير الردعية التى قد تكون مخالفة للمبادىء الإنسانية الأساسية .
11- التعاون مع العدو فى الأعمال الإنسانية .
12- منـع كـل مخـالفة لأحكـام المعـاهدات التى يعقدها المسلمون منعًا باتًا ..!!.
ويقول العلاَّمة جوستاف لوبون فى كتابه القيم (حضارة العرب) : لم يعرف التاريخ فاتحًا أنبل ولا أرحم من العرب .. كما تؤكد المستشرقة الألمانية زنجريد هونكة أن الإسلام العظيم قد قدم للبشرية خدمات جليلة ، وكانت حروبه كلها للدفاع وليس للعدوان ، وعددت فى كتابها الرائع (شمس العرب تشرق على العالم) – ط دار الشروق – مآثر المسلمين ومواقفهم الإنسانية النبيلة حتى أثناء القتال مع الآخرين .
موقع صيد الفوائد