بسم الله الرحمن الرحيم ..
لله الحمد من قبل ومن بعد .. حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه .. وعلى الحبيب محمد أفضل صلاة وأتم تسليم وعلى آله والصحب ومن اقتفى الأثر .. وبعد .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرغبة في الانعزال والابتعاد عن المجتمع .. إحساس صار يراود الكثير في الآونة الأخيرة .. لماذا ؟ وأين الحل ؟
هذه محاولة أولى لدغدغة المشكلة فإن أصبت فمن الله وحده وإن أخطئت فمن نفسي والشيطان
ومن كان عندها المزيد [ في الأسباب أو العلاج] فلا تبخل به لعلنا نخرج نسخة أخرى بصورة أكثر دقة ونفعا ..
س1 : لماذا نفكر في الانعزال أو قل [نَحِنُّ للوحدة] ؟
هي أسباب كثيرة لكني أورد منها ما كان الأكثر وسط من شكونه ..
- الإحساس بالنفاق أو الرياء .
- قسوة القلب واحتضاره واشتياقه للرقة و الهداية .
- يفكر المرء أن البشر هم سبب ضعفه وأن صلاحه سيكون في العزلة [وإن مؤقتاً] .
- التعرض لمواقف سيئة متتالية من بعض بني البشر [الصدمات وجراح القلوب]
- كثرة المدح من الآخرين مما يشعره أنهم [سبب فساد قلبه] .
س2 : هل للعزلة أصل شرعي ؟
وأتحدث هنا ليس عن أن يختلي المرء بنفسه ساعات في اليوم وإنما العزلة التي تكون لأيام وأكثر ..
نعم لها أصل شرعي فهي واردة في موضوعين :
- الاعتكاف وأكثر ما جاء فيه [20 يوما] وهو ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان له .. وفي الحقيقة أن الاعتكاف في عصرنا الحالي صار ضرورة ملحة .. وحتى المرأة إن لم يكن بمقدورها الاعتكاف فعلى الأقل تقلل الخلطة قدر ما تستطيع في هذه العشر ، فإن الاعتكاف للمرء كـ [العَمْرة للسيارة] يحتاجه المرء ليشحن بطاقة تمدّه لعام كامل ..
- العزلة في أوقات الفتن وهو ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : [وليسعك بيتك ..] وأصل الحديث أن عقبة رضي الله عنه سأله يا رسول الله ما النجاة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك " رواه الترمذي وقال حسن وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .. وهذا باب طويل ليس بي طاقة لطرقه [ باب الفتن ومتى يكون الاعتزال] فمن أرادت فلتراجع كتب أهل العلم في هذا الباب والله المستعان .
* إن الأسباب التي ذكرت في حقيقتها أغلبها يُخطأ المرء تقدير الأمور ، أو بمعنى أدق أنه يحاول التهرب من نفسه الضعيفة ويبرر أخطائها فيلقي باللوم على الآخرين كما في السببين 3 و5 ، وقد يبقى المرء حبيسا لرغبته الملحة بالانعزال والتي تكاد تكون مستحيلة مع وجود الدراسة أو الوظيفة والمتطلبات الأسرية .. الخ ..
* إذاً ؟!!
هذه بعض التوجيهات التي تقي المرء من تلك الرغبة وحتى إن وقع فيها بهذه الوصايا يمكنه العلاج بإذن الله .. أقول مستعينة بالله – واستسمحكم عذرا لاستفاضتي- :
– " وما قدروا الله حق قدره " إن الله جلّ وعلا حكيم عليم خلقنا فأحسن خلقتنا وشرع لنا من التشاريع ما يكون به استقامة حالنا ولكنّا أهملنا فابتلينا بما ابتلينا .. حسناً وما دخل هذه الآية هنا ؟ .. حقيقة الأمر أن في شريعتنا عدة أوقات في اليوم للخلوة والانعزال والبعد عن المجتمع ولكنّا لا نؤديها وإن أديناها فببال منشغل فلا تتحقق الخلوة فيبقى الإنسان في دوامة الحياة بلا خلوة حتى يصاب بـ ما يمكن تسميته [هوس الخلطة الذي يودي به إلى الرغبة في الانعزال وكلا طرفي الأمور ذميم] ومن هذه الأوقات –اليومية- والتي لو حقا قدرنا ربنا سبحانه وعظمناه لكفتنا :
- الصلوات الخمس وسننها القبلية والبعدية وأذكارها .. ولكل صلاة 20 دقيقة كحدّ أدنى إن أقيمت حق إقامتها .. وهذه التي يتحقق فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها " صحيح الترغيب والترهيب للألباني ، لو أقيمت بخشوع وحضور قلب وسكون الجوارح لكانت كافية لإزالة ما تعلق بالعقل والقلب من مشاكل ما بين الصلاتين .. مع كونها كفارة .. وإنه لمن حسن التأدب مع الله جلّ وتبارك وتعالى سبحانه سكون الأطراف وعدم التحرك أثناء الصلاة وخشوع الظاهر يورث خشوع الباطن والعكس بالعكس ألم يقل عمر رضي الله عنه ( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه )
- أذكار الصباح والمساء .. وهذه هي وقت خلوة حقا كأنهما وجبتي الإفطار و العشاء لقلب العبد ولو تدبرنها لكان الحال غير حين تقول [ الله بك أصبحت ، وبك .. ، وبك .. ] تفكر في كلمة بك .. و [ اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك .. ] وتتذكر نعم الله عليك وتستحضرها ثم ما في هذه الأذكار من اعتراف بالقصور وطلب العون من الله والتوكل عليه كـ سيد الاستغفار و [ .. ولا تكلني إلى نفسي ..] و [ حسبي الله … ] ووحدها تحتاج أن تفرد بموضوع الخلاصة أن العبد لو حرص على أن يصلي الفجر ثم يجلس مع الأذكار واعيا متدبرا لكانت وجبة دسمة تعينه على يومه وكذا لو جلس قبيل المغرب وأنطق قلبه بتلك الأذكار ثم صلى المغرب ..
- الثلث الأخير من الليل [ وقيام الليل عموما ] .
– تصحيح مفهوم الحب في الله عندنا ومعرفة حقوق الأخوة وواجباتها وان تكون عونا لنا على الطاعة لا على الرياء والنفاق ووضع ضوابط تحددها الأخوات سويا كلا تعرف من أين يؤتى قلبها ويضعف فمن كانت تضعف أمام المدح ويودي بها للعجب ومن ثم الكبر عياذا بالله تمنع أخواتها من مدحها وتغاضبهن إن فعلن فنحن نتآخى لننصلح لا لنفسد بعضنا بعضاُ ، ولعلي أذكر هنا موقف رائع لشعيب بن حرب مع الفضيل بن عياض رحمهما الله .. يقول شعيب رحمه الله : بينا أنا في الطواف إذ لكزني إنسان بمرفقه، فالتفت إليه، فإذا هو الفضيل بن عياض ، فقال: يا أبا صالح، إن كنت تظن أنه شهد الموسم شر مني ومنك فبئس ما ظننت !! عليهما رحمة الله الواسعة ونشهد الله على حبهما .. فانظر كيف حرص على أن يحفظ قلب أخاه ويعظه ، والمواقف كهذه كثيرة في سير السلف .. فمن منّا الآن تقول لأختها مثل هذا ؟!! إذاً مراجعة العلاقات الأخوية ..
– وهذه النقطة تابعة للأولى ولأهميتها أفردتها : تدبر القرآن العظيم ألم يقل ربي سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ " سورة يونس أقول ولو آية واحدة في اليوم تقرأين تفسيرها وتعينها وتتدبرينها ومن ثم ترددينها .. فإن القلوب صدأه جلائها كتاب الله والتكرار كالفرك لتلك القسوة أن تزول بفضل الله وحده ..
– القراءة اليومية أو الأسبوعية في سير السلف الصالح وفي أحوال القلوب وأدوائها ومكائد الشيطان ومداخله .. ولعلي أذكر هنا طائفة من الكتب فـ ابدأي بأيها شئت :
- في تراجم السلف " صفة الصفوة " لابن الجوزي .
- في مصائد الشيطان " تلبيس إبليس " لابن الجوزي .
- وفي المصائد أيضا " الداء والدواء " لابن قيم الجوزية .
- في أحوال القلوب " التحفة العراقية في الأعمال القلبية " لابن قيم الجوزية .
- وفيها أيضا كتب معاصرة لطيفة وخفيفة كثيرة وطيبة ولكن تأكدي من سلامة معتقد الكاتب قبل أن تتحصلي على أي منها ومن أجمل ما قرأته " تزكية النفوس " ل الشيخ أحمد فريد و تهذيب الوابل الصيب .
- وفي القلوب أيضا مدارج السالكين لابن القيم بتهذيب صلاح الخالدي .
- الخطة البراقة لذي النفس التواقة لدكتور صلاح الخالدي [كتاب أكثر من رائع]
- والمحاضرات الوعظية من الشيوخ الذين يتحرك قلبك منهم فلو جعلت لك محاضرة أسبوعية ثابتة لتحيي بها قلبك بإذن الله ولعل من أشهر من تتحرك القلوب لسماع مواعظهم – ويختلف باختلاف السامع فلكل ذوقه – ( إبراهيم الدويش ، عبد المحسن الأحمد ، خالد الراشد ، محمد الشنقيطي ، محمد يعقوب ، نبيل العوضي ) وغيرهم كثيرون .. فانظري ما يناسبك .
– حفظ اللسان والإقلال من الخلطة عموما تكن مع الناس جسدا وقلبك لا يفارق المحراب وتذكر قول الله تعالى في سورة الأحزاب " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا " وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصى .. نورد منها من باب الذكرى :
• " إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون ، قالوا : قد علمنا " الثرثارون و المتشدقون " فما " المتفيهقون ؟ " قال : المتكبرون " حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة
• [ وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا ما نطقت به ألسنتهم ؟ ! فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ فليقل خيرا أو يسكت عن شر قولوا خيرا تغنموا واسكتوا عن شر تسلموا ] السلسلة الصحيحة
ومن أرادت الاستزادة فلترجع لكتاب الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا ففيه عجائب تشيب الثرثارون عافانا الله وإياكم .. وألحق بهذه الأخيرة المحافظة على الوقت والحرص على استثماره في أبواب الخير التي يفتحها الله على العبد .
* ختاما أختي الحبيبة .. لا تفتر همتك عن سؤال الله والتذلل له استعانة وتوكل عليه لا أشغل الله قلبي وقلبك بغيره سبحانه .. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدنا لأحسنها إلا أنت وأصرف عنا شرها لا يصرف عنا شرها إلا أنت .. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ , وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
* وأخيرا .. همسة مُحِبّ :
عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال : في حكمة آل داود ( حق على العاقل أن لا يشتغل عن أربع ساعات :
ساعة يناجي ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ،
وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ، ويصدقونه عن نفسه ،
وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل ،
فإن هذه الساعات : عون على هذه الساعات ، وإجماع للقلوب ،
وحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه ، حافظاً للسانه ، مقبلاً على شأنه .
ابنة الرميصاء
ليلة الجمعة 26 شوال 1445
جزاكي الله خيرا على قلمك الرائع واسلوبك النافذ الى القلب
وجزاكي الله خيرا على الموضوع نفسه …فالماديات التي طغت هالأيام جعلتنا قساة القلوب محتاجين دائما الى ترقيقها وتجديد الإيمان بها
وكما قلت ليست العزلة هي الإنعزال عن الناس بالكلية
ولكن العزلة هي عزلة الفكر والقلب وليس العكس اي انني معهم ببدني ولكن قلبي وفكري مع الله ولذلك لا أخضع لأفكارهم ولااتماشى مع أخطاءهم
وبمعنى آخر لا أذ وب فيهم واكون( امعة) ولكن لي معهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه حدودي معهم والعبادات كما ذكرتي أخيتي من صلاة وذكر وقيام ليل ما هي إلا تزود بطاقة روحية تزداد وتنقص على قدر أقبالنا على الله فيها
تلك الطاقة هي التي تجعلنا نخالط الناس ونصبر على أ ذاهم ونقوم بدورنا معهم من أمر بمعروف أو نهي عن منكر
اما ما يدث حقيقة اننا انعزلنا عن الله وأختلطنا بالناس ولننظر الى الصلاة كم منا وهو واقف بجسده في محراب صلات امام الله ..زيفكر في فلان وعلان وما حدث وما سيحدث وأنشغل القلب والفكر بغير الله ونحن معه فما بالنا ونحن معهم
ربنا يهدينا وكل المسلمين الى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة .
بَارَكَ الله فيكِ يَا ابنة الرّميْصَاء
لأنّ المَحَابِر بكِ تَفْتَخِر فسبحانهُ المُعْطي وَالآخذ
وكتبتِ واسْهَبتِ ويالجمالِ ما كتبتِ
ويالعُمقِ الخَبَر حتى أسْهبتِ فيهِ مَا أسْهَبتِ
فكانَ نظرةً وَيقظة تخرقُ القلوبَ قبل الآذَان
ولأنّه عذبٌ لذيذ , ليَسكنَ روضة المُحبّين
:
حي الله الجميع وجزاكم خيرا وأجابكم فيما دعوتم ..
طيبة القلب .. صدقتِ أخيتي الله المستعان كم نجاهد لنستقبل القبلة بأبداننا وقلوبنا لها مُعاكِساة ، أحببت تفاعلكِ وإضافتكِ الطيبة يا طيبة فجزاكِ الله خيرا .
ندية الغروب .. فيّاضة أنتِ دمتِ معطاءة ، ولأني مستجدة ، فاعذرونا إلى أن نفقه كل قسم وما يصلحه : )
همسة,
لا يعدل العيش مع القرآن شيئا .
" .. ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه
وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه
وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه
/
وعليكم السلام ورحمة الله
/
كلماتٍ تألقت بصدقها وروعتها ؛
فأهلا بكِ ابنة الرميصاء وبحروفكِ البراقة
نفعَ بها من قرأها
بوركَ فيكِ
لا حرمتي الاجر ..