يوسف بن عبد الله الحاطي
الباحث بمركز البحوث والدراسات الإسلامية بالرياض
ملخص البحث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
فهذا بحث موجز حاولت أن أُبيِّن فيه باختصار العناية التي كان يلقاها القرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين ، وقد جعلت هذا البحث في مقدمة وفصلين ، الفصل الأول جعلته بعنوان : حول القرآن الكريم ، وتحدثت فيه عن مباحث عامة حول القرآن الكريم كتعريف القرآن الكريم والفرق بينه وبين الحديث القدسي والحديث النبوي ، ثم ذكرت طرفًا من فضائل القرآن الكريم عمومًا وفضائل بعض السور خصوصًا ، وأثر تلاوة القرآن الكريم على الفرد والجماعة ، وتحدثت فيه كذلك عن كتّاب القرآن الكريم وقرائه من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .
أما الفصل الثاني فقد جعلته عن عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم فبينت فيه شدة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، ومن ذلك مثلًا حرصه على تلقي القرآن من الوحي ، وأمره بحفظ القرآن والمحافظة عليه من النسيان ، وأمره بتحسين الصوت بقراءة القرآن ، وغير ذلك من المباحث التي تدل على عنايته صلى الله عليه وسلم .
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
فالقرآن كلام الله سبحانه وتعالى الذي تكلم به وأوحاه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل عليه السلام ، فهو الهدى والنور وهو الشفاء ، وهو الذكر الذي به تطمئن القلوب ، من حكم به عدل ، ومن استهدى به هدي ، ومن استشفى به شفي بإذن الله ، عزَّ به أول هذه الأمة ، ولا يعز آخرها إلا به ، قال صلى الله عليه وسلم : تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض وعن علي رضي الله عنه قال : أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ألا إنها ستكون فتنة" فقلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : "كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هَدَى إلى صراط مستقيم" . .
ولقد اهتم السلف والخلف من هذه الأمة بكتاب ربها ، فتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وتلقفه الصحابة رضي الله عنهم فحفظوه وفهموه وعملوا به ، ثم جاءت من بعدهم الأجيال المتعاقبة ، جيل من بعد جيل ، فألفت فيه التآليف الكثيرة ، فكتب في أول ما نزل وآخر ما نزل ، وأخرى في ناسخه ومنسوخه وأخرى في محكمه ومتشابهه ، وكتبٌ في التفسير بأنواعه ، بالإضافة إلى كتب في فضائله ، ولو رجعنا إلى محتوى أي كتاب من هذه الكتب لوجدنا الأبواب والفصول الكثيرة التي لا تكاد تحصى ، حتى إنه لم يترك شيئا يتعلق بالقرآن الكريم إلا دُرس وألِّف فيه ، وما ذلك الحفظ إلا لحفظ الله له الذي ذكره بقوله : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر : 9) .
وإني في هذا البحث الموجز – الذي أقدمه لهذه الندوة المباركة : "عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه" التي يعقدها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة – حاولت جمع ما تيسر لي من الآيات والأحاديث التي تبين العناية بالقرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، سواءً كانت تلك العناية منه صلى الله عليه وسلم أو من صحابته رضوان الله عليهم أجمعين ، ولم يكن هدفي استقصاء جميع طرق الحديث ورواياته ، بل الاستدلال للمسألة التي أنا بصدد الحديث عنها ، فإذا وجدت حديثًا في صحيح البخاري مثلًا اكتفيت به ولم أبحث عن بقية طرقه ، ولقد بذلت وسعي لئلا أستدل في أصل هذا البحث إلا بحديث صحيح قدر المستطاع ، وقد تم لي ذلك ولله الحمد والمنة ، غير أحاديث في آخر مبحث منه رأيت أنها في مجموع طرقها لا تنزل عن درجة الحسن أي أنها ليست ضعيفة .
وقد يلحظ القارئ الكريم تكرار الأدلة في مباحث هذا البحث وما ذلك إلا لأن بعض الأدلة فيه دلالة على عدة مسائل ، وهذا ما يجعلني أكرر الدليل أو بعضه عند كل مسالة ، وقد يكون ذلك أدى إلى بعض الطول في البحث ، ولكن هذا الطول غير ممل ، إذ القارئ لن يجد في هذا البحث – غالبًا – إلا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد حاولت أن لا أكثر من الشرح خشية الإطالة والملل ، وما أدليت بدلوي إلا بتقديم بين يدي الدليل أو إشارة إلى بعض ما يحتويه من المعاني .
أما من ترجمت لهم من الصحابة فقد نقلت تراجمهم من سير أعلام النبلاء للذهبي والإصابة لابن حجر كما هي ، مع الإشارة إلى ذلك في الحاشية ، وقد اعتمدت في هذا البحث على عدد من المراجع أثبتها في آخره .
وإني أقدم إليك أخي الكريم عذري عن كل سهو أو تقصير وقع في هذا البحث ، فالنقص والنسيان صفتان ملازمتان للإنسان ، ولو أعدت النظر في هذا البحث مرات ومرات لعدلت وبدلت وقدمت وأخّرت في كل مرة .
فسبحان الله المنزّه عن النقص والعيب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الفصل الأول : حول القرآن
وفيه مباحث :
1- تعريف القرآن الكريم .
2- الفرق بينه وبين الحديث القدسي والحديث النبوي .
3- فضل القرآن الكريم وفضل تلاوته وأثر ذلك في حياة الناس .
4- ذكر فضائل بعض السور والآيات .
5- فضل تعلم القرآن وتعليمه .
6- فضل حفظ القرآن غيبًا .
7- إثم من راءى بالقرآن أو تأكَّل به .
8- كُتَّاب القرآن الكريم .
9- وسائل الكتابة .
10- القرَّاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
لقد بذل العلماء قديمًا وحديثًا كل وسعهم لإيجاد تعريف للفظة القرآن فتناولوها من الجانبين اللغوي والاصطلاحي كما هو معهود عند كل تعريف ، وأوردوا في ذلك أقوالًا وآراء يكاد يكون كل واحد منها تكرارًا للآخر ، غير أن كل واحد من أولئك العلماء الأجلاء رجح رأيًا استحسنه ومال إليه ، ومن هنا رأيت في بحثي هذا المتواضع أن أضرب عن التعريف اللغوي صفحًا ، إذ لا حاجة ولا فائدة من ذكره هنا ، أما التعريف الاصطلاحي فسأذكره لأنني فيما بعد سأتعرض للجانب الآخر من الوحي ألا وهو الحديث بقسميه : القدسي والنبوي وذلك عند ذكر الفرق بينهما وبين القرآن الكريم .
وسبب تناولي لهذه التعريفات أن الرسول صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي- نهى عن كتابة شيء عنه غير القرآن وذلك زيادة اهتمام منه صلى الله عليه وسلم بالقرآن حتى لا يختلط به غيره من الحديث بنوعيه ، ويعلم من ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفرقون بين ما هو قرآن يجب عليهم كتابته وتدوينه ، وما هو غير قرآن نهوا عن كتابته .
وردت عن العلماء تعريفات كثيرة للقرآن الكريم وهذه التعريفات تتفاوت من ناحية الشمول ، فبعضها أشمل من بعض ، وتتفاوت كذلك من ناحية الألفاظ ، وإني – وإن قل الاعتداد بكثرة ألفاظ التعريف أو قلتها – أقر بأن التعريف ينبغي أن يكون دالًّا على جميع أجزاء المعرف بأقل لفظ ممكن ، مهما كثرت ألفاظه .
وعند الرجوع إلى كتب علوم القرآن لمعرفة التعريف الاصطلاحي وجدت كما أشرت سابقًا عدة تعريفات فالشيخ مناع القطان رحمه الله قال نقلًا عن العلماء – كما يقول- : (كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته) .
وقال الشيخ صبحي الصالح رحمه الله : (هو الكلام المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته) .
ثم قال بعد ذلك : وتعريف القرآن على هذا الوجه متفق عليه بين الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية" .
وأما الشيخ محمد سالم محيسن فعرفه نقلًا عن إرشاد الفحول قائلًا : (هو كلام الله تعالى المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلًا متواترًا المتعبد بتلاوته المتحدى بأقصر سورة منه) .
أما الشيخ الصابوني فقد عرفه بأنه : (كلام الله المعجز المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين بواسطة الأمين جبريل عليه السلام المكتوب في المصاحف المنقول إلينا بالتواتر المتعبد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة المختتم بسورة الناس) .
وقد خرجت من مجموع هذه التعريفات بتعريف أرى أنه أجمع من غيره وهو : "القرآن كلام الله الذي أوحاه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقظة بلفظه ومعناه ، المعجز والمتعبد بهما والمنقول إلينا تواترًا والمحفوظ بين دفتي المصحف" .
وهذه العبارات التي يحتوي عليها التعريف منتقاة من مجموع التعريفات .
لقد نطق الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم كما نطق بالحديث القدسي والحديث النبوي وكان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على تسجيل كل ذلك وتدوينه ، إذ إن كل ذلك دين ينبغي الحرص عليه ، ولكن لما كان من الممكن أن يختلط القرآن بغيره نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة أي شيء عنه غير القرآن وقد أوردت مبحثًا خاصًّا حول هذا النهي .
وعلى هذا رأيت أن أذكر -باختصار- الفرق بين القرآن وغيره مما كان ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم .
قلت : والمقصود هنا ذكر فروق القرآن عن نوعي الحديث دون حاجة إلى ذكر الفروق بين هذين النوعين ، ومن تعريف القرآن الكريم وتعريف نوعي الحديث تتضح لنا فروق القرآن عنها ، وهي :
1 . القرآن الكريم نزل بلفظه ومعناه أما الحديث فنزل بمعناه دون لفظه على الصحيح .
2 . القرآن الكريم معجز بلفظه ومعناه ، بخلاف الحديث فليس فيه صفة الإعجاز والتحدي .
3 . القرآن الكريم جميعه منقول بالتواتر وهو قطعي الدلالة ، أما الحديث ففيه المتواتر والآحاد .
4 . القرآن الكريم تصح به الصلاة ولا تصح بغيره .
5 . القرآن الكريم متعبد بلفظه ومعناه فمجرد تلاوته عليها أجر عظيم منصوص عليه في الحديث الصحيح ، ولا يجري هذا الأجر على الحديث بنوعيه ، وإن كانت قراءته عليها أجر عام غير محدد .
القرآن هو كلام الله الذي يخاطب به كل واحد منا صباح مساء ، وقد سبقت في المقدمة الإشارة إلى أوصافه التي تعرف بها مكانته ، فالفضل كل الفضل في قراءة حروفه وفهم معانيه والوقوف عند حدوده ، لعلَّنا أن نكون من أهله فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لله أهلين" قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : "أهل القرآن ، هم أهل الله وخاصته .
[CENTER]والحديث عن فضل القرآن وفضل تلاوته وأثر تلاوته في حياة الناس حديث قد يطول ، لما للقرآن من فضل ، ولما ورد فيه من الأدلة الكثيرة ، ولما كان من الصعب حصر كل ذلك في هذا البحث الموجز رأيت أن أقدم إشارات لطيفة إلى بعض ذلك ، فما لا يدرك كله لا يترك جله ، وإليك أيها القارئ الكريم شيئا من تلك الأدلة التي جمعتها وحاولت الربط بينها ربطًا خفيفًا إما بتقديم للآية أو بذكر تفسير مختصر لها .
قلت : وبمعرفة صفات القرآن الكريم الواردة في آياته الكريمة والأحاديث والآثار وبتدقيق النظر فيها يتجلى لنا فضل القرآن الكريم ، ذلك الفضل الذي لم يقتصر على الأمة الإسلامية فقط بل تعداها إلى البشرية بعامة ، فالقرآن مصدر الهداية المنزه عن الشك والريب ، كيف لا وهو كلام الله الذي قاله بنفسه وأنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لهداية الثقلين الجن والإنس ، قال تعالى : الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (البقرة : 1-2) ، وقال تعالى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ ( البقرة : 185) ، وقال تعالى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ( الإسراء : 9) .
فأصح طريق وأقومه هو ما هدى وأرشد إليه القرآن الكريم لأنه النور المبين الذي ينير الطريق للبشرية في ظلمة هذه الحياة قال تعالى : وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ( البقرة : 99) ، وقال تعالى : الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (الحجر : 1) .
ولما له من الأثر العظيم والتأثير البالغ في النفوس ما لبثت الجن حين سمعته أن آمنت به ، قال تعالى : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ (الأحقاف : 29-31) .
وانظر إلى أحد فصحاء العرب حين استمع القرآن ماذا قال : "والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه يعلو ولا يعلى عليه . . . " .
لكنه تحت تأثير قومه نكص على عقبيه وافترى على الله الكذب قال الله تعالى في خبره : إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ( المدثر : 18-25) .
بل ولا أبالغ إذا ما قلت إن عددًا كبيرًا من المسلمين الأوائل كان سبب إسلامهم وهدايتهم سماعهم لآيات القرآن التي انبهروا بها وعرفوا بتوفيق الله لهم أن هذا الكلام وهذه البلاغة والفصاحة لا يمكن أن تصدر عن بشر .
والآيات في وصف القرآن بأنه مصدر الهداية والإرشاد ، والقيادة إلى طريق السعادة والسداد كثيرة جدًّا ، ولكني اقتصرت منها على ما ذكرت ، والله ولي التوفيق .
والقرآن كذلك سبب لتنزل رحمة الله على عباده المؤمنين وسبب لمغفرة الذنوب وحصول الأجر والثواب ، قال تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف : 203) ، وقال تعالى : وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( الأعراف : 52) وقال تعالى : وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (الأعراف : 170) .
وقال تعالى : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (الإسراء : 82) ، فالرحمة من أوصاف القرآن فهو سبب للرحمة المتنزلة من الله على عباده المؤمنين ، فمن حفظه استحق الرحمة ، ومن قرأه استحق الرحمة ، ومن تدارس معانيه فكذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطَّأ به عملُه لم يسرع به نسبُه بل والرحمة بالقرآن تتجاوز حفظه وتدارسه بكثير فمن استمع له وأنصت استحق الرحمة قال تعالى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الأعراف : 204) ، أسأل الله أن يرحمني وإياكم برحمته .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الاستشفاء بالقرآن الكريم فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يديَّ .
وعن أبي سعيد الخدري قال : كنا في مسير لنا فنزلنا ، فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سليم ، وإن نَفَرَنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية ، فرقاه فبرأ ، فأمر لنا بثلاثين شاة وسقانا لبنًا ، فلما رجع قلنا له أكنت تحسن الرقية أوكنت ترقي؟ قال : لا ، ما رقيت إلا بأم الكتاب ، قلت : لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي أو نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم .
وكما أنه سبب في شفاء الأمراض الحسية ، هو سبب للوقاية من الأمراض المعنوية وغيرها ، وسبب في طرد الشيطان الذي هو سبب لكثير من الأمراض ، فعن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات .
وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة ، قال : فخليت عنه ، فأصبحت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قال : قلت يا رسول الله شكا إليَّ حاجة شديدة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله قال : " أما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه سيعود" فرصدته فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال ، لا أعود ، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ " قلت : يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله ، قال : "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود ، قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت : ما هن؟ قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله ، قال : "ما هي؟ " قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، -وكانوا أحرص شيء على الخير- ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم مَن تخاطب مِن ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ " قال : لا ، قال : "ذاك شيطان .
والقرآن تذكرة وموعظة بما جاء فيه من قصص الأمم الغابرة ، وبيان ما جوزي به مؤمنها وما عوقب به كافرها ، فقد احتوى القرآن على قصص الأنبياء والصالحين وعلى قصص الكافرين والمعاندين فكأنه يذكرنا ويعظنا ، يذكرنا بما حصل لهم وبقوة الله وجبروته وقدرته على خلقه ، ويعظنا بأن نتبع سبيل الرشد ونبتعد عن سبل الغي والضلال .
. . .يتبع . . .
وبعد أن ذكر الله إقرارهم على أنفسهم بالكفر ذكر ندمهم واعترافهم بذنوبهم فقال : وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( الملك : 10-11) ، وقال : أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ( المؤمنون : 105-108) .
والآيات في ذكر حسرتهم وندمهم يوم لا ينفع الندم كثيرة أكثر من أن أحصيها في هذا البحث ، نعوذ بالله من الخزي والخسران .
وبعد أن ذكرت طرفًا من الآيات في فضل القرآن الكريم وفضل قراءته وأثره في حياة الناس رأيت أن أذكر طرفًا من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك ، وإليك أخي الكريم فضل القرآن الكريم كما جاءتنا به السنة المطهرة :
– القرآن يشفع يوم القيامة لصاحبه ، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران ، وضرب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما .
– تلاوة القرآن سبب في رفعة الدرجات في جنات النعيم فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران .
– القرآن يرفع مكانة صاحبه ويكون سببًا في تقديمه على غيره فعن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله . . . وعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال : من استعملت على أهل الوادي؟ فقال : ابن أبزى ، قال : ومن ابن أبزى ؟ قال مولى من موالينا ، قال : فاستخلفت عليهم مولى؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله عز وجل ، وإنه عالم بالفرائض ، قال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين ومعلوم في قصة غزوة بدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند دفن الشهداء رضي الله عنهم كان يقدم أقرأهم لكتاب الله إلى القبلة ثم الذي يليه في القراءة وهكذا .
– ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل طيب الطعم والرائحة لقارئ القرآن فعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح فيها ، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها انظر أخي رعاك الله إلى الأثر العظيم لقراءة القرآن كيف أن المنافق والفاجر أصبحت لهما رائحة زكية كرائحة الريحانة بسبب قراءة القرآن ، مع أنهما بعيدان عن الإيمان والقرآن كل البعد؟
– وقراءة القرآن سبب في تنزل السكينة والرحمة على قارئه قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل الذي رواه أبو هريرة : " . . . وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه وعن أسيد بن حضير قال : بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت ، فقرأ فجالت الفرس ، فسكت وسكنت الفرس ، ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف وكان ابنه يحيى قريبًا منها فأشفق أن تصيبه فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : "اقرأ يا ابن حضير ، اقرأ يا ابن حضير" ، قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبًا ، فرفعت رأسي فانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة ، فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها ، قال : "وتدري ما ذاك؟ قال : لا ، قال : "تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم .
– وأخرج البخاري من طريقه عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما يقول : قرأ رجل الكهف وفي الدار الدابة فجعلت تنفر فسلم الرجل فإذا ضبابة أو سحابة غشيته فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "اقرأ فلان فإنها السكينة نزلت للقرآن أو تنزلت للقرآن .
. . .يتبع . . .
وقد رأيت بعد أن ذكرت فضل القرآن وقراءته وقارئه أن أذكر شيئًا من فضائل بعض السور والآيات -كأمثلة -ولم أقصد الحصر ، ومن أراد أن يعرف المزيد من ذلك فعليه الرجوع إليه في محله في كتب الحديث وفضائل القرآن .
ولم أجعل عنوانًا لكل سورة أو آية أذكر فضلها ، وإنما اكتفيت بذكر الآية والحديث فقط ومنها :
قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ " فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج قلت : يا رسول الله ، إنك قلت : "ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن ؟ قال : "( الحمد لله رب العالمين ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته .
وروى الإمام مسلم بسنده عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه ، اقرءوا الزهراوين : البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما ، اقرءوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ففي أول هذا الحديث نص صلى الله عليه وسلم على فضل القرآن كله وأنه يشفع لصاحبه يوم القيامة ثم خص من بين سور القرآن سورتي البقرة وآل عمران وضرب لهما مثلًا وهو أنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة وتحاجان عنه ، ثم خص من بين السورتين سورة البقرة وما يترتب على أخذها ، وما يترتب كذلك على تركها ، فأخذها بركة تحصل لصاحبها ولمنزله وأهله ، وتركها حسرة تنتاب من تركها يوم القيامة -عياذًا بالله- ولا تستطيعها البطلة وهم السحرة وقيل مردة الجن ، وقد ورد في حديث أخرجه الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان .
وقد خصت آيات من سورة البقرة بالفضل مثل آية الكرسي التي ورد في فضلها أحاديث كثيرة ، فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ " قال : قلت : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قال : فضرب في صدري وقال : "ليهنك العلم أبا المنذر .