إن الله جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبد بمعرفته، ويجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلى، وتلقِّيها من مشكاة الوحي، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد، فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورًا ومحبة، وعلم أنه تعريف من تعريفات الله تعالى، تعرَّف به على لسان رسوله، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلة الغذاء أعظم ما كان إليه فاقة[1]، ومنزلة الشفاء أشد ما كان إليه حاجة، فاشتدَّ به فرحه، وعَظُم بها غنها، وقَوِيت به معرفته، واطمأنت إليه نفسه، وسكن إليها قلبه، فجال من المعرفة في ميادينها، وأسام[2] عين بصيرته في رياضها وبساتينها؛ لتيقُّنه بأن شرف العلم تابع لشرف معلومه، ولا معلوم أعظم وأجل ممن هذه صفته، وهو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن شرفه أيضًا بحسب الحاجة إليه، وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة باريها وفاطرها، ومحبته، وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلفى[3] عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف وله أطلب واليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد. والله تعالى يُنْزِل العبد من نفسه حيث يُنْزِله العبد من نفسه، فمن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضًا، وعنها نافرًا ومنفِّرًا، فالله له أشدُّ بغضًا، وعنه أعظم إعراضًا، وله أكبر مقتًا؛ حتى تعود القلوب إلى قلبين:
* قلب: ذِكْرُ الأسماء والصفات قُوتُه وحياته ، ونعيمه وقُرَّة عينه، لو فارقه ذِكْرُها ومحبتها لحظة لاستغاث، يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فلسان حاله يقول:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
ويقول:
وإذا تقاضيت الفؤاد تناسيا ألفيت أحشائي بذاك شحاحًا[4]
ويقول:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحيانًا فننتكس
ومن المحال أن يذكر القلب من هو محارب لصفاته ، نافر عن سماعها ، معرض بكليّته عنها زاعم أن السلامة في ذلك. كلا والله إن هو إلا الجهالة والخذلان، والإعراض عن العزيز الرحيم، فليس القلب الصحيح قطٌّ إلى شيء أشوق منه إلى معرفة ربه تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ولا أفرح بشيء قط كفرحه بذلك ، وكفى بالعبد عمى وخذلانًا أن يُضْرَب على قلبه سرادق الإعراض عنها والنَّفرة والتنفير، والاشتغال بما لو كان حقًا لم ينفع إلا بعد معرفة الله والإيمان به وبصفاته وأسمائه.
* والقلب الثاني: قلبٌ مضروبٌ بسياط الجهالة، فهو عن معرفة ربه ومحبته مصدود، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أنزلت عليه مسدود، قد قَمَش[5] شُبَهًا من الكلام الباطل، وارتوى من ماء آجن[6] غير طائل، تَعُجُّ منه آيات الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجًا[7]، وتضجُّ منه إلى منزلها ضجيجًا، مما يسومها تحريفًا وتعطيلًا، ويُولِي معانيها تغييرًا وتبديلًا. قد أعد لدفعها أنواعًا من العدد وهيَّأ لردِّها ضروبًا من القوانين، وإذا دُعِي إلى تحكيمها أبى واستكبر، وقال: تلك أدلة لفظية لا تفيد شيئًا من اليقين، قد اتخذ التأويل جُنَّة[8] يتترَّس[9] بها من مواقع سهام السُّنة والقرآن، وجعل إثبات صفات ذي الجلال تجسيمًا وتشبيهًا يَصُدُّ به القلوب عن طريق العلم والإيمان.
مُزْجَى[10] البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء، لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه، والجدال والمراء، خلع عليه كلام الباطل خِلْعَة الجهل والتجهيل، فهو يتعثَّر بأذيال التكفير لأهل الحديث والتبديع لهم والتضليل.
قد طاف على أبواب الآراء والمذاهب يتكفَّف[11] أربابها، فانثنى[12] بأخسر المواهب[13] والمطالب، عدل عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد وغاية الإحسان، فابتُلِي بالوقوف على الأبواب السافلة المليئة بالخيبة والحرمان، وقد لبس حُلَّة منسوجة من الجهل والتقليد والشُّبَه والعناد، فإذا بُذِلَت له النصيحة، ودُعِي إلى الحق أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
المرجع: الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية
للإمام: ابن القيم-رحمه الله-
[2] أسام: من سامت الماشية تسوم سومًا: رعت حيث شاءت، وأسامها إذا أخرجها إلى الرعي وخلّاها ترعى. ومراد المصنِّف-رحمه الله-: أن هذا الناظر أرعى عين بصيرته في هذه الرياض والبساتين حتى استفاد منها واقتبس معرفة وعلمًا.
[3] الزلفى: القربة والدرجة والمنزلة.
[4] معناه: إذا طلبت من القلب أن ينساك أيها الحبيب أبى ذلك عليَّ أشدَّ الإباء؛ بل إن حبك قد خالط أحشائي فهي لا تستطيع أن تفارقه.
[5] قمش: جمع الشيء الرديء الوضيع من ههنا وههنا.
[6] آجن: هو الماء المتغير الطعم واللون.
[7] عجَّ: رفع صوته وصاح.
[8] الجُنة: ما واراك من السلاح واستترت به منه.
[9] التترُّس: التستُّر بالترس، وهو ما يُتوقى به من السلاح.
[10] المزجى: القليل، وبضاعة مزجاة: قليلة أو لم يتم إصلاحها.
[11] يتكفَّف: يمد كفه يسأل الناس.
[12] انثنى: رجع.
[13] المواهب: جمع الموهبة، وهي العطية.
القلوب عند ذكر الصفات على قلبين
إن الله جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبد بمعرفته، ويجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلى، وتلقِّيها من مشكاة الوحي، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد، فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورًا ومحبة، وعلم أنه تعريف من تعريفات الله تعالى، تعرَّف به على لسان رسوله، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلة الغذاء أعظم ما كان إليه فاقة[1]، ومنزلة الشفاء أشد ما كان إليه حاجة، فاشتدَّ به فرحه، وعَظُم بها غنها، وقَوِيت به معرفته، واطمأنت إليه نفسه، وسكن إليها قلبه، فجال من المعرفة في ميادينها، وأسام[2] عين بصيرته في رياضها وبساتينها؛ لتيقُّنه بأن شرف العلم تابع لشرف معلومه، ولا معلوم أعظم وأجل ممن هذه صفته، وهو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن شرفه أيضًا بحسب الحاجة إليه، وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة باريها وفاطرها، ومحبته، وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلفى[3] عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف وله أطلب واليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد. والله تعالى يُنْزِل العبد من نفسه حيث يُنْزِله العبد من نفسه، فمن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضًا، وعنها نافرًا ومنفِّرًا، فالله له أشدُّ بغضًا، وعنه أعظم إعراضًا، وله أكبر مقتًا؛ حتى تعود القلوب إلى قلبين:
* قلب: ذِكْرُ الأسماء والصفات قُوتُه وحياته ، ونعيمه وقُرَّة عينه، لو فارقه ذِكْرُها ومحبتها لحظة لاستغاث، يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فلسان حاله يقول:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
ويقول:
وإذا تقاضيت الفؤاد تناسيا ألفيت أحشائي بذاك شحاحًا[4]
ويقول:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحيانًا فننتكس
ومن المحال أن يذكر القلب من هو محارب لصفاته ، نافر عن سماعها ، معرض بكليّته عنها زاعم أن السلامة في ذلك. كلا والله إن هو إلا الجهالة والخذلان، والإعراض عن العزيز الرحيم، فليس القلب الصحيح قطٌّ إلى شيء أشوق منه إلى معرفة ربه تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ولا أفرح بشيء قط كفرحه بذلك ، وكفى بالعبد عمى وخذلانًا أن يُضْرَب على قلبه سرادق الإعراض عنها والنَّفرة والتنفير، والاشتغال بما لو كان حقًا لم ينفع إلا بعد معرفة الله والإيمان به وبصفاته وأسمائه.
* والقلب الثاني: قلبٌ مضروبٌ بسياط الجهالة، فهو عن معرفة ربه ومحبته مصدود، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أنزلت عليه مسدود، قد قَمَش[5] شُبَهًا من الكلام الباطل، وارتوى من ماء آجن[6] غير طائل، تَعُجُّ منه آيات الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجًا[7]، وتضجُّ منه إلى منزلها ضجيجًا، مما يسومها تحريفًا وتعطيلًا، ويُولِي معانيها تغييرًا وتبديلًا. قد أعد لدفعها أنواعًا من العدد وهيَّأ لردِّها ضروبًا من القوانين، وإذا دُعِي إلى تحكيمها أبى واستكبر، وقال: تلك أدلة لفظية لا تفيد شيئًا من اليقين، قد اتخذ التأويل جُنَّة[8] يتترَّس[9] بها من مواقع سهام السُّنة والقرآن، وجعل إثبات صفات ذي الجلال تجسيمًا وتشبيهًا يَصُدُّ به القلوب عن طريق العلم والإيمان.
مُزْجَى[10] البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء، لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه، والجدال والمراء، خلع عليه كلام الباطل خِلْعَة الجهل والتجهيل، فهو يتعثَّر بأذيال التكفير لأهل الحديث والتبديع لهم والتضليل.
قد طاف على أبواب الآراء والمذاهب يتكفَّف[11] أربابها، فانثنى[12] بأخسر المواهب[13] والمطالب، عدل عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد وغاية الإحسان، فابتُلِي بالوقوف على الأبواب السافلة المليئة بالخيبة والحرمان، وقد لبس حُلَّة منسوجة من الجهل والتقليد والشُّبَه والعناد، فإذا بُذِلَت له النصيحة، ودُعِي إلى الحق أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
المرجع: الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية
للإمام: ابن القيم-رحمه الله-
[2] أسام: من سامت الماشية تسوم سومًا: رعت حيث شاءت، وأسامها إذا أخرجها إلى الرعي وخلّاها ترعى. ومراد المصنِّف-رحمه الله-: أن هذا الناظر أرعى عين بصيرته في هذه الرياض والبساتين حتى استفاد منها واقتبس معرفة وعلمًا.
[3] الزلفى: القربة والدرجة والمنزلة.
[4] معناه: إذا طلبت من القلب أن ينساك أيها الحبيب أبى ذلك عليَّ أشدَّ الإباء؛ بل إن حبك قد خالط أحشائي فهي لا تستطيع أن تفارقه.
[5] قمش: جمع الشيء الرديء الوضيع من ههنا وههنا.
[6] آجن: هو الماء المتغير الطعم واللون.
[7] عجَّ: رفع صوته وصاح.
[8] الجُنة: ما واراك من السلاح واستترت به منه.
[9] التترُّس: التستُّر بالترس، وهو ما يُتوقى به من السلاح.
[10] المزجى: القليل، وبضاعة مزجاة: قليلة أو لم يتم إصلاحها.
[11] يتكفَّف: يمد كفه يسأل الناس.
[12] انثنى: رجع.
[13] المواهب: جمع الموهبة، وهي العطية.