من المعلوم أن الإسلام ـ والذي شرعه هو الله عز اسمه ـ لم يبن شرائعه على أصل التجارب كما بنيت عليه سائر القوانين لكنا في قضاء العقل في شرائعه ربما احتجنا إلى التأمل في الأحكام والقوانين والرسوم الدائرة بين الامم الحاضرة والقرون الخالية، ثم البحث عن السعادة الإنسانية، وتطبيق النتيجة على المحصل من مذاهبهم ومسالكهم حتى نزن به مكانته ومكانتها، ونميز به روحه الحية الشاعرة من أرواحها، وهذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ الملل وسيرها، واستحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل والمذاهب في الحياة.
ولذلك فإنا نحتاج في البحث عما يراه الاسلام ويعتقده في:
1 ـ هوية المرأة والمقايسة بينها وبين هوية الرجل.
2 ـ وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تاثيرها في حياة العالم الإنساني.
3 ـ حقوقها والأحكام التي شرعت لأجلها.
4 ـ الأساس الذي بنيت عليه الأحكام المربوطة بها.
إلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الإسلام وما كانت الأمم الغير المسلمة يعاملها عليه حتى اليوم من المتمدنة وغيرها. والاستقصاء في ذلك وإن كان خارجاً عن طوق الكتاب، لكنا نذكر طرفاً منه:
حياة المرأة في الامم غير المتمدنة
كانت حياة النساء في الامم والقبائل الوحشية كالامم القاطنين بإفريقية واستراليا والجزائر المسكونة بالاقيانوسية وامريكا القديمة وغيرها بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الأهلية من الأنعام وغيرها بالنسبة إلى حياة الإنسان .
فكما أن الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقاً أن يمتلك الأنعام وسائر الحيوانات الأهلية ويتصرف فيها كيفما شاء وفي أي حاجة من حوائجه شاء ، يستفيد من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلدها وحليبها وحفظها وحراستها و
سفادها ونتاجها ونمائها ، وفي حمل الأثقال ، وفي الحرث ، وفي الصيد ، إلى غير ذلك من الأغراض التي لا تحصى كثرة .
وليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة وآمال القلوب في المأكل والمشرب والمسكن والسفاد والراحة إلا ما رضي به الإنسان الذي امتلكها ، ولن يرضى إلا بما لاينا في أغراضه في تسخيرها وله فيه نفع في الحياة . وربما أدى ذلك إلى تهكمات عجيبة ومجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في أمر نفسه : فمن مظلوم من غير أي جرم كان أجرمه ، ومستغيث وليس له أي مغيث يغيثه ، ومن ظالم من غير مانع يمنعه . ومن سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في أنعم عيش وألذه عنده ، ومن شقي من غير استحقاق كحمار الحمل وفرس الطاحونة ،
وليس لها من حقوق الحياة إلا ما رآه الإنسان المالك لها حقاً لنفسه فمن تعدى إليها لا يؤاخذ إلا لأنه تعدى إلى مالكها في ملكه ، لا إلى الحيوان في نفسه . كل ذلك لأن الإنسان يرى وجودها تبعاً لوجود نفسه وحياتها فرعاً لحياته ومكانته مكانة الطفيلي .
كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الامم والقبائل حياة تبعية . وكانت النساء مخلوقة عندهم «لأجل الرجال» بقول مطلق : كانت النساء تابعة الوجود والحياة لهم من غير استقلال في حياة ، ولا في حق فكان آبائهن ما لم ينكحن ، وبعولتهن بعد النكاح أولياء لهن على الإطلاق .
كان للرجل أن يبيع المرأة ممن شاء وكان له أن يهبها لغيره ، وكان له أن يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك ، وكان له أن يسوسها حتى بالقتل ، وكان له أن يخلي عنها ، ماتت أو عاشت ، وكان له أن يقتلها ويرتزق بلحمها كالبهيمة وخاصة في المجاعة وفي المآدب ، وكان له ما للمرأة من المال والحق وخاصة من حيث إيقاع المعاملات من بيع وشرى وأخذ ورد .
وكان على المرأة أن تطيع الرجل ـ أباها أو زوجها ـ في ما يأمر به طوعاً أو كرهاً . وكان عليها أن لا تستقل عنه في أمر يرجع إليه أو إليها . وكان عليها أن تلي أمور البيت
والأولاد وجميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه وكان عليها أن تتحمل من الأشغال أشقها كحمل الأثقال وعمل الطين وما يجري مجراهما ومن الحرف والصناعات أردلها وسفسافها وقد بلغ عجيب الأمر إلى حيث أن المرأة الحامل في بعض القبائل إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت ، ونام الرجل على فراشها أياماً يتمرض ويداوي نفسه . هذه كليات ماله وعليها ، ولكل جيل من هذه الأجيال الوحشية خصائل وخصائص من السنن والآداب القومية باختلاف عاداتها الموروثة في مناطق حياتها والأجواء المحيطة بها يطلع عليه من راجع الكتب المؤلفة في هذه الشئون .
حياة المرأة في الامم المتمدنة قبل الإسلام
نعني بهم الامم التي كانت تعيش تحت الرسوم الملية المحفوظة بالعادات الموروثة من غير استناد إلى كتاب أو قانون كالصين والهند ومصر القديم وإيران ونحوها .
تشترك جميع هؤلاء الامم : في أن المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال وحرية ، لا في إرادتها ولا في أعمالها ، بل كانت تحت الولاية والقيمومة لا تنجز شيئاً من قبل نفسها ولا كان لها حق المداخلة في الشئون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما .
وكان عليها : أن تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب وغير ذلك .
وكان عليها : أن تختص بأمور البيت والأولاد ، وكان عليها أن تطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويريد منها .
وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالاً بالنسبة إليها في الامم غير المتمدنة ، فلم تكن تقتل وتؤكل لحمها ، ولم تحرم من تملك المال بالكلية بل كانت تتملك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك وإن لم تكن لها أن تتصرف فيها بالاستقلال ، وكان للرجل أن يتخذ زوجات متعددة من غير تحديد وكان لها تطليق من شاء من هن ، وكان للزوج أن يتزوج بعد موت الزوجة ولا عكس غالباً ، وكانت ممنوعة عن مشاعرة خارج البيت غالباً .
ولكل امة من هذه الامم مختصات بحسب اقتضاء المناطق والأوضاع : كما أن
تمايز الطبقات في إيران ربما أوجب تميزاً لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك والحكومة أو نيل السلطنة ونحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من ام أو بنت أو أخت أو غيرها .
وكما أنه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعاً من اشتراء نفسها ومملوكيتها . وكانت هي ممنوعة من الإرث ومن أن تشارك الرجال حتى أبناءها في التغذي . وكان للرجال أن يشترك أكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتع بها والانتفاع من أعمالها ، ويلحق الأولاد بأقوى الأزواج غالباً .
وكما أن النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهن لا يحل لهن الازدواج بعد توفي أزواجهن أبداً ، بل إما أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مذللات ، وهن في أيام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب وكذا ثيابها وكل ما لا مستها بالبشرة .
ويمكن أن يلخص شأنها في هذه الامم : أنها كالبرزخ بين الحيوان والإنسان يستفاد منها استفادة الإنسان المتوسط الضعيف الذي لا يحق له إلا أن يمد الإنسان المتوسط في أمور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليه غير أنها تحت الولاية والقيمومة دائماً :
وههنا امم اخرى
كانت الامم المذكورة آنفاً أمماً تجري معظم آدابهم ورسومهم الخاصة على أساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهراً لكن هناك امم اخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب مثل الكلدة والروم واليونان .
أما الكلدة والآشور فقد حكم فيهم شرع «حامورابي» بتبعية المرأة لزوجها وسقوط استقلالها في الإرادة والعمل حتى أن الزوجة لو لم تطع زوجها في شيئ من أمور المعاشرة أو استقل بشيئ فيها كان له أن يخرجها من بيته ، أو يتزوج عليها ويعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضاً ولو أخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير كان
له أن يرفع أمرها إلى القاضي ثم يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم .
وأما الروم فهي أيضاً من أقدم الامم وضعاً للقوانين المدنية ، وضع القانون فيها أول ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثم أخذوا في تكميله تدريجياً ، وهو يعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصة به ، ولرب البيت وهو زوج المرأة وأبو أولادها نوع ربوبية كان يعبده لذلك أهل البيت كما كان بعبد هو من تقدمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت ، وكان له الاختيار التام والمشية النافذة في جميع ما يريده ويأمر به على أهل البيت من زوجة وأولاد حتى القتل لو رآى أن الصلاح فيه ، ولا يعارضه في ذلك معارض ، وكانت النساء نساء البيت كالزوجة والبنت والاخت أرد ، حالاً من الرجال حتى الأبناء التابعين محضاً لرب البيت فإنهن لم يكن أجزاء للاجتماع المدني فلا نسمع لهن شكاية ، ولا ينفذ منهن معاملة ، ولا تصح منهن في الامور الاجتماعية مداخلة لكن الرجال أعني الإخوة والذكور من الأولاد حتى الأدعياء (فإن التبني وإلحاق الولد بغير أبيه كان معمولاً شائعاً عندهم وكذا في يونان وإيران والعرب) كان من الجائز أن يأذن لهم رب البيت في الاستقلال بامور الحياة مطلقاً لأنفسهم .
ولم يكن أجزاء أصيلة في البيت بل كان أهل البيت هم الرجال ، وأما النساء فتبع . فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثرة في التوارث ونحوها مختصة بما بين الرجال وأما النساء فلا قرابة بينهن أنفسهن كالام مع البنت أو الأخت مع الأخت ، ولا بينهن وبين الرجال كالزوجين أو الام مع الإبن أو الاخت مع الأخ أو البنت مع الأب ولا توارث فيما لا قرابة رسمية . نعم القرابة الطبيعية (وهي التي يوجبها الاتصال في الولادة) كانت موجودة بينهم ، وربما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم ، وولاية رئيس البيت وربه لها .
وبالجملة كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدني والبيتي) زمام حياتها وإرادتها بيد رب البيت من أبيها إن كانت في بيت الأب أو زوجها إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما ، يفعل بها ربها ما يشاء ويحكم فيها ما يريد، فربما باعها، وربما وهبها، وربما اقرضها لتمتع، وربما أعطاها في حق يراد استيفاؤه
منه كدين وخراج ونحوهما، وربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، وبيده تدبير مالها إن ملكت شيئاً بالازدواج أو الكسب مع إذن وليها لا بالإرث لأنها كانت محرومة منه، وببدأ بيها أو واحد من سراة قومها تزويجها، وبيد زوجها تطليقها.
وأما اليونان فالأمر عندهم في تكون البيوت وربوبية أربابها فيها كان قريب الوضع من وضع الروم.
فقد كان الاجتماع المدني وكذا الاجتماع البيتي عندهم متقوماً بالرجال، والنساء تبع لهم، ولذا لم يكن لها استقلال في إرادة ولا فعل إلا تحت ولاية الرجال. لكنهم جميعاً ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإن قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن بالاستغلال ولا تحكم لهن إلا بالتبع إذا وافق نفع الرجال فكانت المرأة عندهم تعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال، ولا تثاب لحسناتها ولا تراعى جانبها إلا بالتبع وتحت ولاية الرجل.
وهذا بعينه من الشواهد الدالة على أن جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزء ضعيفاً من المجتمع الإنساني ذات شخصية تبعية، بل كانت تقدر أنها كالجراثيم المضرة مفسدة لمزاج الاجتماع مضرة بصحتها غير أن للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل فيجب أن يعتنى بشأنها ، وتذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت، ويحتلب الرجال درها إذا أحسنت أو نفعت، ولا تترك على حيال إرادتها صوناً من شرها كالعدو القوي الذي يغلب فيؤخذ أسيراً مسترقاً يعيش طول حياته تحت القهر، إن جاء بالسيئة يؤاخذ بها وإن جاء بالحسنة لم يشكر لها.
وهذا الذي سمعته: أن الاجتماع كان متقوماً عندهم بالرجال هو الذي ألزمهم أن يعتقدوا أن الأولاد بالحقيقة هم الذكور، وأن بقاء النسل ببقائهم، وهذا هو منشاء ظهور عمل التبني والإلحاق بينهم، فإن البيت الذي ليس لربه ولد ذكر كان محكوماً بالخراب، والنسل مكتوباً عليه الفناء والانقراض، فاضطر هؤلاء إلى اتخاذ أبناء صوناً عن الانقراض وموت الذكر، فدعوا غير أبنائهم لأصلابهم أبناءاً لأنفسهم فكانوا أبناءً رسماً يرثون ويورثون ويرتب عليهم آثار الأبناء الصلبيين. وكان الرجل منهم إذا زعم أنه
عاقر لا يولد منه ولد عمد إلى بعض أقاربه كأخيه وابن أخيه فأورده فراش أهله لتعلق منه فتلد ولدا يدعوه لنفسه، ويقوم بقاء بيته ..
وكان الامر في التزويج والتطليق في اليونان قريباً منهما في الروم، وكان من الجائز عندهم تعدد الزوجات غير أن الزوجة إذا ازادت على الواحدة كانت واحدة منهن زوجة رسمية والباقية غير رسمية.
حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم( محيط نزول القرآن (
وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة وهي منطقة حارة جدبة الأرض، والمعظم من امتهم قبائل بدوية بعيدة عن الحضارة والمدنية، يعيشون بشن الغارات، وهم متصلون بإيران من جانب وبالروم من جانب وببلاد الحبشة والسودان من آخر.
ولذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحش، وربما وجد خلالها شيء من عادات الروم وإيران، ومن عادات الهند ومصر القديم أحياناً.
كانت العرب لاترى للمرأة استقلالاً في الحياة ولا حرمة ولا شرافة إلا حرمة اليبت وشرافته، وكانت لا تورث النساء، وكانت تجوز تعدد الزوجات من غير تحديد بعدد معين كاليهود، وكذا في الطلاق، وكانت تئد البنات، ابتدء بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أسرت فيه عدة من بناتهم، والقصة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثم سرت السجية في غيرهم، وكانت العرب تتشأم إذا ولدت للرجل منهم بنت تعدها عاراً لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، لكن يسره الابن مهما كثر ولو بالدعا والإلحاق حتى أنهم كانوا يتبنون الولد لزنا محصنة ارتكبوه، وربما نازع رجال من صناديدهم وأولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه.
وربما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصة للبنات في أمر الازدواج فكان يراعي فيه رضي المرأة وانتخابها، فيشبه ذلك منهم دأب الأشراف بإيران الجاري على تمايز الطبقات.
وكيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركبة من معاملة أهل المدنية
من الروم وإيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، والشركة في الامور العامة الاجتماعية كالحكم والحرب وأمر الازدواج إلا استثناءاً ومن معاملة أهل التوحش والبربرية فلم يكن حرمانهن مستنداً إلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم، بل من باب غلبة القوي واستخدامه للضعيف.
وأما العبادة فكانوا يعبدون جميعاً (رجالاً ونساءاً) أصناماً يشبه أمرها أمر الأصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب وأرباب الأنواع، وتتميز أصنامهم بحسب تمييز القبائل وأهوائها المختلفة فيعبدون الكواكب والملائكة (وهم بنات الله سبحانه بزعمهم) ويتخذونها على صور صورتها لهم أوهامهم، ومن أشياء مختلفة كالحجارة والخشب، وقد بلغ هواهم في ذلك الى مثل ما نقل عن بني حنيفة أنهم اتخذوا لهم صنما من الحيس فعبدوه دهراً طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم:
أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتباعة
وربما عبدوا حجراً حتى إذا وجدوا حجراً أحسن منه طرحوا الأول وأخذوا بالثاني، وإذا لم يجدوا شيئاً جمعوا حفنة من تراب ثم جاؤا بغنم فحلبوه عليها ثم طافوا بها يعبدونها.
وقد أودعت هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفاً في الفكرة يصور لها أوهاماً وخرافات عجيبة في الحوادث والوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير والتاريخ.
فهذه جمل من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني من أدواره المختلفة قبل الإسلام وزمن ظهوره آثرنا فيها الاختصار التام، ويستنتج من جميع ذلك: أولا: أنهم كانوا يرونها إنساناً في افق الحيوان العجم، أو إنساناً ضعيف الإنسانية منحطاً لا يؤمن شره وفساده لو أطلق من قيد التبعية واكتسب الحرية في حياته. والنظر الأول أنسب لسيرة الامم الوحشية والثاني لغيرهم. وثانياً: أنهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه، وإنما هي من شرائط التي لا غنا كالمسكن لاغنا عن الالتجاء إليه، أو أنها كالأسير المسترق
الذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين. وثالثاً: أنهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيمين بأمرها. ورابعاً: أن أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القوي على الضعيف، وبعبارة اخرى قريحة الاستخدام. هذا في الأمم غير المتمدنة، وأما الامم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرها، وربما اختلط الأمر اختلاطاً باختلاف الامم والأجيال.
ماذا أبدعه الاسلام في أمرها
لا زالت الدنيا بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلة والهوان حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المترادفة بعد ما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط بل عند النساء ـ ومن العجب ذلك ـ ولا ترى أمة من الامم وحشيها ومدنيها إلا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتشبيه مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يقرع بها الجبان، ويؤنب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذل المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:
وما أدري وليت إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
مئآت وألوف من النظم والنثر في كل لغة.
وهذا في نفسه كاف في أن يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانية في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الامم والملل في أمرها فإن الخصائل الروحية والجهات الوجودية في كل امة تتجلى في لغتها وآدابها.
ولم يورث من السابقين ما يعتني بشأنها ويهم بأمرها إلا بعض ما في التوراة وما وصى به عيسى بن مريم عليهم السلام من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.
وأما الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء بنية فطرية عليها كانت الدنيا هدمتها من أول يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويتها اعتقاداً وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.
أما هويتها: فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان وأن كل إنسان ذكراً أو أنثى فإنه إنسان يشترك في مادته وعنصره إنسانان ذكرو أنثى ولافضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. قال تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» الحجرات ـ 13 فجعل تعالى كل إنسان مأخوذاً مؤلفاً من إنسانين ذكر وأنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكراً أو أنثى مجموع المادة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:
وإنما امهات الناس أوعية
ولا قال مثل ما قاله الآخر:
بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
بل جعل تعالى كلاً مخلوقاً مؤلفا من كل. فعاد الكل أمثالاً، ولا بيان أتم ولا أبلغ من هذا البيان، ثم جعل الفضل في التقوى.
وقال تعالى: «إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض» آل عمران 195 فصرح أن السعى غير خائب والعمل غير مضيع عند الله، وعلل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى اه، وهو أن الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ.
ثم بين بذلك أن عمل كل واحد من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كل نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إن عليهن سيئاتهن، وللرجال حسناتهن من منافع وجودهن، وسيجىء لهذا الكلام مزيد توضيح.
وإذا كان لكل منهما ما عمل ولا كرامة إلا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالايمان، درجاته والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم فالمرأة
المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الاسلام، كان من كان، فلا كرامة إلا للتقوى والفضيلة.
وفي معنى الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى: «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» النحل ـ 97 وقوله تعالى: «ومن عمل صالحاً من ذكر أو أثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب» المؤمن ـ 40 وقوله تعالى: «ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً» النساء ـ 124.
وقد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذم: «وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب الا ساء ما يحكمون» النحل ـ59. ولم يكن تواريهم إلا لعدهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأول فيه فيما مر، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال: «وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت» التكوير ـ 9.
وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون، فتراهم يعدون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصر، مع أن الإسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.
وأما وزنها الاجتماعي: فإن الإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالإرادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانية في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء وقد قال تعالى: «بعضكم من بعض» آل عمران ـ 195 فلها أن تستقل بالإرادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما
كما للرجل ذلك من غير فوق، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الإلهي: احديهما: أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الأحكام بمثل ما يختص به الحرث، وتمتاز بذلك عن الرجل. والثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور، ولذلك أيضاً تاثير في أحوالها والوظائف الاجتماعية المحولة إليها.
فهذا وزنها الاجتماعي. وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما وما يختص به أحدهما في الإسلام. قال تعالى: «ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وأسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً» النساء ـ 32. يريد أن الأعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل، وأن من هذا ـ الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمناه متمن، ومنه ما لم يتعين إلا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الإيمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل التي يستحسنها الدين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسألوا الله من فضله. والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوامون اه على ما سيجىء بيانه.
وأما ألاحكام المشتركة والمختصة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوق الاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في موارد يقتضي طباعها ذلك.
وعمدة هذه الموارد: أنها لا تتولى الحكومة والقضاء، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها. وتدورك ما فاتها بأن نفقتها في الحياة على الرجل: الأب
أو الزوج، وأن عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأن لها حق تربية الولد وحضانته.
وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر، وأن العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها، وأنها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال.
والمتحصل من جميع ذلك: أنها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم باصول المعارف والعلم بالفروع الدينية (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع). وأما في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها، وأما تنظيم الحياة الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من ذلك، ولازمة ان يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كلها فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.
والسنة النبوية تؤيد ما ذكرناه، ولو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيدة النساء فاطمة عليه السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصي به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتى الحسين وغيرهن على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء. ولعلنا نوفق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائية المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.
وأما الاساس الذي بنيت عليه هذا الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحاً فنقول:
لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهاؤها بالأخرة إلى الطبيعة، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا.
الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم والعاهة.
فالاجتماع بجميع شئونه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي بالأخرة إلى الطبيعة وإن اختلف القسمان من حيث أن الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.
فهذه حقيقة، وقد أشار إليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان. قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» طه ـ 50 وقال تعالى: «والذي خلق فسوى والذي قدر فهدى» الأعلى ـ 3 وقال تعالى: «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» الشمس ـ 8 . إلى غير ذلك من آيات القدر.
فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة. والحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تاماً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءاً صحيحاً. وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم» الروم ـ 30.
والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الأفراد ـ على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية ـ أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم. لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من افراد المجتمع، فيتقلد الصبي مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلده الإنسان العاقل المجرب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المقتدر من الشئون والدرجات، فإن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لحالهما معاً.
بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي ويفسر به معنى التسوية: أن يعطى كل ذي حق حقه وينزل منزلته فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقاً، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكماً ونحو ذلك. وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة الآية كما مر بيانه، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال.
ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في أصول المواهب الوجودية أعني ـ الفكر والإرادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شئون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع. وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرية على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها. قال تعالى: «لا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف» الآية البقرة ـ 234.
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة اخرى، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أن جسمها ألطف وأنعم كما أن جسم الرجل أخشن وأصلب، وأن الإحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.
ولذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين أعني التعقل والإحساس، فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة، و
خص مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطي المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن. وسنزيده إيضاحاً في الكلام على آيات الإرث إنشاء الله تعالى) ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة مرت الإشارة إليها.
فان قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤنتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نماءاً ردياً وتنبت نباتاً سيئاً غير صالح لتكامل الاجتماع، وقد أيدت التجربة ذلك.
قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر، والذي اصيب به الإسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الأحكام، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعي: أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يسيتفيدوا من الأولياء المتظاهرون بولايتهم القيمين بأمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل، فهذا معوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إني ما كنت اقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك إليكم وإنما كنت اقاتلكم لأتأمر عليكم وقد فعلت، وهذا غيره من الأمويين والعباسيين فمن دونهم. ولو لا استضاءة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.
حرية المرأة في المدنية الغربية
لا شك أن الإسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسارة وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأن أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الإسلام ـ وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة ـ فإن سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية وهي متوسطة متخللة، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.
وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.
والرأي العام عندهم تقريباً: أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.
ويتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.
ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الإحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء، وأما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إنشاء الله تعالى.
عمل النكاح من اصول الأعمال الاجتماعية، والبشر منذ أول تكونه وتكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي، وقد عرفت أن هذه الأعمال لابد لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتداءاً أو بالآخرة.
وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاناث إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة ـ وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والاناث ـ لم يوضع هباءاً باطلاً، ومن البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الاناث وكذا العكس، وأن هذا التجهيز لاغاية له إلا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الأحكام المتعلقة به تدور مدارها، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، ووضع عليه أحكام العفة والمواقعة وإختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدة والأولاد والإرث ونحو ذلك.
وأما القوانين الاخر الحاضرة فقد وضعت اساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشيء مما تعرض له الإسلام من أحكام العفة ونحو ذلك.
وهذا البناء على ما يتفرع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية على ما سنبين إنشآء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً فإن غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى امور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً إلا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصة المتعلق كلوا حد منها بشغل من الأشغال ونحو من أنحاء الأعمال متفرقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال.
وهذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيا ما كانا، و أما الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه. فبناء الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.
ولو كان الأمر على هذا أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في
الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الأحكام الاجتماعية بشيء اصلا إلا الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون وفي ذلك إبطال فضيلة العفة رأساً وإبطال أحكام الأنساب والمواريث كما التزمته الشيوعية، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور والاناث من الإنسان، وسنزيده إيضاحاً في محل يناسبه إنشاء الله. هذا إجمال الكلام في النكاح. وأما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلامية، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه، وأما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجيء الكلام فيها في سورة الطلاق إنشاء الله العزيز.
وقد اضطرت الملل المعظمة اليوم الى إدخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن.
منقول من
نظرية السيد الطباطبائي