جعل سبحانه الإيمان باليوم الآخر ركناً من أركان عقيدة الإسلام، وعلَّق سبحانه صحة إيمان العبد على الإيمان بذاك اليوم. وقرن تعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر في تسعة عشر موضعاً في القرآن، منها قوله تعالى: { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر }(البقرة:177) وقوله في حق المطلقات: { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر }(البقرة:228) وقال أيضاً مخاطباً أولياء النساء: { من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } (البقرة:232).
ووصف سبحانه المؤمنين بأنهم الذين أمنوا بالله واليوم الآخر، فقال عز من قائل: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر } (البقرة:62).
وبالمقابل فقد رتب سبحانه على الكفر بذاك اليوم ما رتبه على الكفر به، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا }(النساء:136).
وأكد سبحانه أن هذا اليوم واقع لا محال، وأنه لا مفر منه مهما حاول الإنسان ذلك، فقال تعالى: { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }(آل عمران:25) وقال أيضاً: { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا }(النساء:87).
وكان من حكمة الله سبحانه أن جعل ذلك اليوم ليجمع الناس فيه على صعيد واحد، فيحاسب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، ويقتض للمظلوم من الظالم، قال تعالى: { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب }(غافر:17) وفي الحديث الصحيح: ( حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) رواه مسلم، و "الجلحاء" الشاة التي لا قرن لها، و "القرناء" الشاة ذات القرون.
وعلاوة على ما ذكرنا من الآيات الدالة على وجوب الإيمان باليوم الآخر، فقد ثبت في السنة ما يدل على ذلك ويؤكده، من ذلك حديث جبريل عندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة رجل، سائلاً عن معنى الإيمان والإسلام وغير ذلك من عقائد الإسلام، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر ) رواه مسلم.
ومقتضى الإيمان بذاك اليوم يستلزم من المؤمن أن يعلم علم اليقين أن الله سبحانه جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وهذا القدر من الإيمان هو الواجب على كل مؤمن، وأما تفاصيل الإيمان باليوم الآخر، كمعرفة علامات هذا اليوم، ومقدماته، وماذا يكون فيه، وغير ذلك من التفاصيل، فهذا من غير الواجب على كل مؤمن معرفته، بل يكفي أن يعلمه البعض ولا يضر الآخرون جهله، فهو من فروض الكفاية التي إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين.
فإذا علم المؤمن واعتقد بحق أن ذاك اليوم آتٍ لا مراء فيه ولا جدال، كان عليه أن يَعُدَّ العدة، ويُشمِّرُ عن ساعد الجدِّ استعداداً له، فيعمل جهده لكل ما فيه خير، ويبذل وسعه لتجنب كل ما فيه شر، عملاً بقوله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }( الزلزلة:7- 8).
كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكى حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا! ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( القبر أول منازل الآخرة ، فإن ينج منه فما بعده أيسرُ منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشدُّ منه . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه ) رواه أحمد والترمذي وحسنه الشيخ الألباني .
وهذا الموقف من عثمان رضي الله عنه وما ينتابه من خوف وفزع من رؤية القبر ، نابع عن تصور صحيح لذلك المكان الموحش ، فبعد أن كان الإنسان يحيا حياة الأنس والسرور ، إذا به يأوي إلى مكان ليس فيه أنيس ولا جليس ، وبعد أن كان مبجَّلاً معظماً في هذه الحياة إذا به يهال عليه التراب ، ويرمى في قعر بعيد ، إنه أمرٌ لو تفكر فيه المتفكرون ، واعتبر به المعتبرون ، ما التذوا بعيش ، ولا هنئوا بسعادة .
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
وأين المذلُّ بسلطانه وأين القوي إذا ما قدر
تفانوا جميعا فما مخبر وماتوا جميعا ومات الخبر
ومما يروى في هذا المعنى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وعظ يوماً أصحابه في حال أهل القبور ، فقال : إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً ، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم .. سل غنيهم ، ما بقي من غناه ؟ .. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون .. واسألهم عن الجلود الرقيقة ، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟! .. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء ، فأين حجابهم وقبابهم ؟ وأين خدمهم وعبيدهم ؟ وجمعهم وكنوزهم ؟ أليسوا في منازل الخلوات ؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل.
فيا ساكن القبر غداً ! ما الذي غرك من الدنيا ؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ .. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى .. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت .. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا ..وما يأتيني به من رسالة ربي .. ثم انصرف رحمه الله فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعا واحداً .
إن القبر هو أول منازل الآخرة وهو إما أن يكون روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، فإن العبد إذا أدخل في قبره ضمه القبر ضمة تتداخل معها أضلاعه ، وهذه الضمة لا ينجو منها أحد ، سواء أكان مؤمنا تقياً أم كافرا شقياً ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال 🙁 إن للقبر ضغطة ، ولو كان أحدٌ ناجياً منها نجا منها سعد بن معاذ ) رواه أحمد .
حتى إذا فُرِّج عن العبد من ضمة القبر أقعد للسؤال – مؤمناً كان أم كافراً – فيسأل عن ربه ودينه والرجل الذي بعث فيهم ، فأما المؤمن فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، والرجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينادي منادٍ من السماء ، أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلى الجنة ، وألبسوه من الجنة ، فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفتح له فيها مد بصره ، وأما الكافر فيأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان : من ربك ؟ فيقول : هاه ، هاه ، هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه ، هاه لا أدري ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم ؟ فيقول : هاه ، هاه لا أدري ، فينادي منادٍ من السماء أن كذب ، فافرشوه من النار ، وألبسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ثم يُوكل له أعمى أبكم ، معه مطرقة من حديد لو ضُرب بها جبل لصار تراباً ، فيضربه بها ضربةً يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ، ثم تعاد فيه الروح . كما روى ذلك أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
وما يحصل في القبر من عذاب أو نعيم هو مما تواترت الأدلة على إثباته ، وتقدم ذكر بعض الأحاديث في ذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في نحو قوله تعالى عن آل فرعون : { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }( غافر:46) وفي قوله: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } (الأنعام: 93 ) .
والفتنة في القبر بالسؤال وإن كانت عامة إلا أن الله اختص بعض عباده فنجاهم منها ، وممن اختصهم الله بالنجاة من هذه الفتنة الأنبياء والشهداء فقد ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ) رواه النسائي وصححه الألباني . وممن ينجيه الله عز وجل من فتنة القبر من مات مرابطاً في سبيله ، فقد روى فضالةُ بنُ عبيدٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل ميت يُختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه يُنْمَي – أي يزيد – له عمله يوم القيامة ، ويأمن من فتنة القبر ) رواه الترمذي وأبو داود .
فهذا هو القبر بما فيه ، عذاباً ، وجحيماً ، سرورا ، ونعيماً ، عذابا وجحيما على الكافرين ، وسرورا ونعيما للمؤمنين ، فينبغي للمسلم أن يسارع إلى ما ينجيه من القبر ووحشته ، كي لا تكون حاله – والعياذ بالله – كحال الذي فرَّط في فعل الصالحات حتى إذا جاءه الموت صاح بعد فوات الأوان { رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت }(المؤمنون:99- 100 ) . ولتحرص – أخي الكريم – على الاستعاذة من عذاب القبر ، فقد كان صلى الله عليه وسلم : يدعو في الصلاة فيقول : ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر .. ) رواه البخاري ، وكان يأمر الصحابة ( أن يتعوذوا من عذاب القبر ) كما رواه البخاري .
ولتجتهد – أخي المسلم – أن تجتنب المعاصي ما ظهر منها وما بطن فإنها من أسباب عذاب القبر ، فقد ( مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ) متفق عليه.
من الأحداث العظام التي أخبر عنها خير الأنام ، والتي تكون بين يدي الساعة ، خروج نارٍ في اليمن تسوق الناس إلى محشرهم ، إنه حدثٌ يُعدُّ الفاصل الحقيقي بين حياتين ، الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وهو آخر علامات الساعة وأشدها ، لما يلقى الناس من جرائه من بلاء وشدة .
وتصور معي أخي القارئ ، ذلك اليوم الذي تندلع فيه النيران من عمق البحر لتحرق كل شيء ، ولتسوق الناس سوقاً عنيفا بين راكب وراجل إلى مكان واحدٍ ، يقطعون المسافات الطوال مشردين مطرَّدِين ، كل ذلك والنار ملازمة لهم في نومهم و قيلولتهم . ومن أتعبه السير ، وأضناه السهر ، وتخلف وقع فريسة للنار لتلتهمه ، فياله من زمن عصيب .
وقد دلَّ على هذا الحدث الرهيب ، وما يكون فيه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنها – أي الساعة – لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوفٍ خسفٍ بالمشرق ، وخسفٍ بالمغرب ، وخسفٍ بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطردُ الناسَ إلى محشرهم )
أما مكان خروج تلك النار العظيمة فبلاد اليمن ، وتحديداً من قعر عدن من بحر حضرموت ( بحر العرب ) ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : ( ونار تخرج من قعرة عدن ترحِّل الناس )
وروى أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ستخرج نار من بحر حضرموت ، قبل يوم القيامة ، تحشر الناس ) . وفي الحديث دلالة على أن هذا الحشر إنما يقع في الدنيا لا في الآخرة .
ومما أخبر به صلى الله عليه وسلم من تفصيلات ذلك الحدث العظيم ، بيان مراتب المحشورين ، فالناس لا يحشرون على مرتبةٍ واحدةٍ ، والسبب يرجع إلى ما كانوا عليه من قبل من صلاحٍ أو فسادٍ ، فالصالحون يحشرون راكبين كاسين راغبين وراهبين رحمة من الله وفضلا ، ومن دونهم في الصلاح يتعاقبون على البعير .
وأما شرار الناس من الكفار والمنافقين فتسحبهم الملائكة على وجوههم وتلقي بهم في النار . ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواجٍ فوجٍ راكبين طاعمين كاسين ، وفوجٍ يمشون ويسعون ، وفوجٍ تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار ) رواه أحمد .
فهذا طرف من أخبار ذلك الحدث العظيم ، الذي يُكرم فيه المؤمنون ، بحشرهم ركبانا، ويهان فيه الكافرون بحشرهم على وجوههم ، وهذا الحدث مقدمة ليوم القيامة الذي تعظم فيه كرامة الله لعبادة ، وتعظم فيه أيضا إهانته للكافرين ، والوصية النبوية لمن أدرك ذلك الزمان التعجل بالخروج إلى بلاد الشام ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ستخرج نار من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس ، قالوا يا رسول الله : فما تأمرنا ؟ قال : عليكم بالشام ) رواه أحمد والترمذي أي خذوا طريقها، ألزموا فريقها ، فإنها سالمة من وصول النار إليها لحفظ الملائكة إياها..
اقتضت حكمة الله عز وجل ، أن يقضي على الخلق بالفناء ، حتى إذا خلت الأرض من ساكنيها ، والسماوات من قاطنيها ، إلا من أراد الله بقائه ، أذن سبحانه للحياة أن تعود ، فيأمر السماء أن تمطر مطرا تنبت به الأجساد الميتة ، فتعود إلى سابق عهدها أجسادا كاملة ، بعد أن تحولت إلى رميم ، واختلط دمها ولحمها بتراب الأرض ، إلا أن المطر لا يبعث فيها الحياة ، فيأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور فتحيا تلك الأجساد وتنبعث من قبورها ، وقد صور القرآن هذا المشهد تصويرا بليغاً ، فقال سبحانه :{ ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون }( يّـس:51) والأجداث هي القبور ، وينسلون : أي يسرعون ، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن هذا الحدث فقال : ( ما بين النفختين أربعون … ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب – وهو عظم يوجد أسفل العمود الفقري – ومنه يركب الخلق يوم القيامة ) رواه البخاري ومسلم.
ثم يساق الخلق بعد خروجهم من قبورهم حفاة عراة غرلا – غير مختونين – إلى أرض المحشر ، وهي أرض بيضاء ، ليس فيها ما يختفي الإنسان وراءه ، ولا ما يتوارى عن الأعين فيه . وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أرض المحشر ، فقال: ( يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي – الدقيق – ليس فيها مَعْلم – علامة – لأحد ) رواه البخاري ومسلم.
فتأمل أخي الكريم عظم ذلك اليوم وما فيه من المخاوف ، فمع ما عليه الناس من فزع الخروج من قبورهم ، فإنهم يعاينون أهوال ذلك اليوم ، من انشقاق السماء ، وتساقط النجوم ، وذهاب الشمس والقمر ، فيا لها من أحداث عظيمة ومخاطر جسيمة ، تبلغ القلوب من معاينتها الحناجر ، ولا تفكر في شيء إلا فيما هي مُقْدِمة عليه ، فحري بالعاقل الموفق أن يعمل لذلك اليوم قبل أن يدهمه الموت ، ويصبح رهيناً بعمله ، نسأل الله السلامة والعافية .
وتتفاوت مراتب الناس ومنازلهم يوم الحشر تفاوتا كبيراً ، فمنهم الذين يحشرون على وجوههم ، عمياً وبكماً وصماً ، وهؤلاء هم الكافرون ، قال تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا } ( الإسراء : من الآية97 ) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال : يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ قال : ( أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة )رواه البخاري ومسلم .
أما المؤمنون فهم وفد الله عز وجل يحشرون مكرمين منعمين ، قال تعالى: { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا }(مريم:85)
هذا عن كيفية خروج الخلق من قبورهم ، وكيفية حشرهم ، أما الأدلة على حقيقة البعث بعد الموت فقد تنوعت وتعددت في كتاب الله عز وجل ، ليكون الإيمان به أوقع في النفوس ، ولتعظم الحجة على الكافرين .
فتارة يقسم سبحانه بنفسه العلية على إثبات البعث ، فيقول : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير }(التغابن:7)
وتارة يذم المكذبين بهذا اليوم ، نحو قوله تعالى : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون } (الأنعام:31)، وتارة يمدح المؤمنين به، فيقول: { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون () أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }( البقرة:5) وتارة يرد على الكفار في إنكارهم البعث ويورد الحجج العقلية الدالة على إثباته ، فيقول : { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم () قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم () الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون () أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم () إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }( يّـس: 78-82) فمن تأمل هذه الآيات من سورة يس وجد أنها اشتملت على العديد من الحجج العقلية التي تدل على البعث بعد الموت ، من ذلك احتجاجه سبحانه بابتداء الخلق على إعادته ، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة ، إذ كل عاقل يعلم أن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة ، وأنه لو كان عاجزا عن الإعادة لكان عن الابتداء أعجز .
ثم ذكر سبحانه حجة عقلية أخرى وهي أن القادر على خلق الأعظم أقدر على خلق ما دونه ، فالذي خلق السموات والأرض كيف يعجزه إعادة جسم صغير بعدما فنِيَ واختلط بالتراب ، قال تعالى: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم }( يس:81 ) ثم ختم سبحانه هذه الحجج بآية القدرة ، ذلك أن كل ما أورده المشركون من اعتراضات على البعث بعد الموت إنما هو نابع من شكهم في قدرة الله المطلقة ، قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (يّـس:82)
فهذه بعض الأدلة على البعث بعد الموت ، ذكرناها ليرسخ في نفس المؤمن إيمانه ، ولتكون حجة على من كفر وأنكر بعث الأجساد بعد موتها ، ومن تأمل الحياة بصحيح عقله ،وسديد فكره ، وجد أنها من غير البعث عبث ، فلابد من يوم يجازى فيه المحسنون ، ويعاقب فيه المسيئون ، ومن دون ذلك اليوم لا يمكن أن يستقيم أمر هذا الكون ، ولا أن ينتظم شأنه ، فمن هنا تجلت حكمة الله عز وجل في البعث بعد الموت.
وقد قسم العلماء هذه العلامات إلى قسمين :
القسم الثاني : علامات الساعة الكبرى .
فمن تلك العلامات بعثته صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت أنا والساعة كهاتين . وقَرَنَ بين السبابة والوسطى ) متفق عليه . وفي هذا إشارة إلى أن قيام الساعة قريب كقرب الإصبع السبابة من الإصبع الوسطى .
ومن علامات الساعة الصغرى انشقاق القمر في عهده صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر } (القمر:1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : ( انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا ) رواه البخاري ومسلم .
ومن علامات الساعة الصغرى : موته عليه الصلاة والسلام ، فعن عوف بن مالك رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم – جلد – ، فقال : ( اعدد ستا بين يدي الساعة : موتي ، ثم فتح بيت المقدس ، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا ) رواه البخاري .
ومن علامات الساعة الصغرى فتح بيت المقدس ، كما في حديث عوف بن مالك المتقدم . وقد فتح بيت المقدس في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ومن علامات الساعة الصغرى : ظهور مدعي النبوة الدجالين الكذابين ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين ؛ كلهم يزعم أنه رسول الله ) رواه مسلم . وقد ظهر جمع من هؤلاء في العصر الأول منهم مسيلمة الكذاب ، وسجاح وهي امرأة ادعت النبوة ثم تابت وأسلمت ، وطليحة بن خويلد الأسدي وقد أسلم أيضاً ، والأسود العنسي ظهر بصنعاء وقتله فيروز الديلمي رضي الله عنه . وظهر كثير غيرهم ، وقد ظهر في العصر الحديث ميرزا أحمد القادياني الذي ادعى النبوة ، وصار له جماعة تدعى القاديانية ، وألَّف العلماء فيه كتباً بينوا فيها كذبه وتدليسه وكفره .
ومن علامات الساعة الصغرى تضييع الأمانة بإسناد الأمر إلى غير أهله ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال : كيف إضاعتها ؟ يا رسول الله ، قال : إذا أسندَ الأمرُ إلى غيِر أهله فانتظر الساعة ) رواه البخاري.
ومن علامات الساعة الصغرى ظهور النساء الكاسيات العاريات ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صنفان من أهل النار لم أرهما . قوم معهم سياط كأذناب البقر ، يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) رواه مسلم .
وقوله ( كاسيات عاريات ) أي أنهن يلبسن ثياباً غير ساترة لجميع أبدانهن ، أو شفافة تصف ما تحتها ، أو ضيقة تبرز عوراتهن .
وقد ظهر هذا الصنف في زماننا هذا – ويا ليت الفاجعة وقفت عند هذا الحد – بل صار هؤلاء النساء الكاسيات العاريات يتبجحن بعريهن ، ويعيرن العفائف المحصنات بتسترهن . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ومن علامات الساعة الصغرى أيضاً ظهور المعازف واستحلالها : فعن أبي مالك الأشعري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليكوننَّ من أمتي أقوامٌ يستحلون الحر – الفروج – ، والحرير ، والخمر ، والمعازف ) رواه البخاري . وقد أضحى هذا الزمان صورة حية ، وشاهد صدق على صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد استحلت المعازف وعلا شأنها ، وارتفعت قيمتها ، حتى أصبح المغنون والمغنيات – عند كثير من الناس – أعظم شأناً ، وأرفع قدراً من الدعاة والمصلحين ، واستحق هذا العصر لقب عصر الغناء بجدارة . فإنا لله وإنا إليه راجعون
إن من حكمة الله عز وجل أن فاضل بين خلقه زمانا ، ومكاناً ، ففضل بعض الأزمنة على بعض ، وبعض الأمكنة على بعض ، وبعض البشر على بعض ؛ فأفضل الأزمنة في هذه الدنيا زمن النبوة والرسالة ، الذي تتصل فيه الأرض بالسماء ، وتتلقى فيه البشرية الهداية من الوحي ، وتبلغ الأمة فيه مبلغ الكمال البشري ، إلا أن النقص سرعان ما يداهم الأمم بعد موت أنبيائها ، وانقطاع وحيها ، وقد أتى على هذه الأمة ما أتى على الأمم قبلها ، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وما زال هذا النقص يتسع ويزداد ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السنة الكونية ، فيما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ) ، إلا أن رحمة الله عز وجل بعباده ، ورأفته بهم اقتضت أن يكون للناس أوقات يؤبون فيها إلى الهدى والرشاد ، وأزمنة يتذكرون فيها عهد الأمة الأول ، ومن تلك الأزمنة زمن خروج المهدي عليه السلام ، المهدي الذي يخرج على الأمة مصلحاً وهاديا بعد أن يعم الشر ، وينتشر الباطل ، وتملأ الأرض ظلما وجورا .
وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتجلية أمر هذا المصلح ، وبيان صفاته وخصائصه ، حتى إذا ظهر كانت الأمة معه على موعد ، فتنصره ولا تخذله ، لاسيما أن وقت نزوله وقت فتن وبلاء .
فقد ذكر صلى الله عليه وسلم : أن اسمه مثل اسمه ، واسم أبيه مثل اسم أبي النبي ، وأنه من بيت النبوة الطاهر ، والحديث الوارد في ذلك رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
وذكر صلى الله عليه وسلم صفاته الخَلْقية فقال : ( المهدي مني أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ) رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني . ومعنى " أجلى الجبهة " : أي : أنه عريض الجبهة لانحسار الشعر عن مقدم رأسه ، ومعنى " أقنى الأنف " أي : طويل الأنف، مع دقة في أرنبته ، وحدب في وسطه .
هذا عن اسمه وصفاته الخَلقية ، أما عن زمن خروجه فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه يخرج في زمن ملئت فيه الأرض ظلما وجورا . وأما مكان خروجه فقد دلت الأحاديث على أنه يخرج من جهة المشرق ، ويبايعه المسلمون ، ويخوض بهم حروبا ينتصر فيها ، ويستقر الأمر له عليه السلام ويحكم بالإسلام فينتشر العدل ، وتشهد الأمة مرحلة من الرخاء الاقتصادي لم تشهد له مثيل من قبل ، حتى يُطلب من يقبل المال فلا يوجد ، وتخرج الأرض بركتها وتنزل السماء ماءها ، ويمكث في الأمة سبع سنين .
هذا هو المهدي عليه السلام الذي يكون خروجه في زمن كثرت فتنه ، وعم فساده ، وغلب شره ، وما ذكرناه لك أخي الكريم – من تفصيلات حياته عليه السلام هو مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وثبت في أحاديث كثيرة منها الصحيح ومنها الحسن ، وهي بمجموعها تشكل تواترا معنويا يثبت خروج المهدي عليه السلام .
لكن عليك أن تعلم – أخي الكريم – أن إيماننا بخروج المهدي عليه السلام لا يدفعنا إلى ترك العمل اتكالا عليه ، وانتظارا لخروجه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا به لنترك العمل ، وإنما كان إخباره به من أجل أن يبعث الأمل في نفوس الصالحين عند اشتداد الكرب وظهور الكفر وأهله ، لئلا يلحقهم من جراء ذلك يأس أو قنوط .
والمكان الثالث جهة المغرب والمراد به مغرب المدينة النبوية ، والمقصود منه ليس عموم المغرب وإنما موضع منه والله أعلم .
هذه هي إحدى علامات الساعة وأمارات قربها وهي تصور العقوبة الربانية التي تحل بالأمة عندما تنحل من أخلاقها ، ويغلب عليها الشر والفساد .
يعد خروج يأجوج ومأجوج إحدى الآيات الدالة على اقتراب الساعة ، ودنو أجلها ، وهم خلق من خلق الله عز وجل ، من ولد آدم عليه السلام ، امتازوا بالقوة والبأس ، فجاء وصفهم في الحديث أن : ( لا يدان لأحد بقتالهم ) أي لا قدرة لأحد بقتالهم ، والحديث رواه مسلم في صحيحه .
وقد كان يأجوج ومأجوج في الزمان الأول أهل فساد وشر ، وكان لا يصدّهم شيء عن ظلم من حولهم ، فلا يجدون أخضرا إلا أكلوه ، ولا يابسا إلا حملوه ، حتى قدم الملك الصالح ذو القرنين رضي الله عنه ، فاشتكى له أهل تلك البلاد ما يلقون من شرهم ، وطلبوا منه أن يبني بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدّاً يحول دون إفسادهم ، ففعل رضي الله عنه وأقام سدا عظيما بين جبلين عظيمين من مادة الحديد ، وأذاب النحاس عليه ،حتى أصبح أشد تماسكاً . وبهذا دفع الله شر يأجوج ومأجوج عن العباد فأصبحوا محصورين بسد ذي القرنين .
ومنذ ذلك اليوم الذي بني فيه السد عليهم وهم يغدون كل يوم إليه فيحفرونه حتى إذا قاربوا على الانتهاء ، قال أميرهم : ارجعوا فسنحفره غدا ، فيعيده الله أشد ما كان ، حتى إذا انتهت المدة التي كتب الله عليهم فيها أن يحصروا بالسد ، وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال أميرهم : ارجعوا فسنحفره غدا إن شاء الله تعالى ، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه ، بفضل قولهم : إن شاء الله ، حيث أرجعوا الأمر إلى مشيئته سبحانه ، فيحفرونه ويخرجون على الناس في جيوش عظيمة ، لا يدان لأحدٍ بقتالهم ومنازلتهم ، ولك أن تتصور – أيها القارئ – ، تلك الجيوش الجرارة عندما تهجم على الخلق فتقتلهم ، وعلى الزرع فتفسده ، وعلى الماء فتشربه ، إنها تأتي على الأرض خضراء ممتلئة حياة ونباتا ، فتتركها قاحلة ممحلة ، الموت يعم أرجائها ، والفزع يملأ قلوب الأحياء فيها ، لا شك أنه يوم عصيب يعاني منه الخلق ويشكون إلى ربهم . نسأل الله العافية والسلامة .
والأدلة على أن خروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة كثيرة منها قوله تعالى: { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون } (الأنبياء : 96 )
وثبت خبرهم في حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم في تعداده أشراط الساعة الكبرى .
وقد ذكرت لنا السنة النبوية تفصيلات هذا الخروج ، فجاء في الأحاديث الصحيحة : أن الله يأذن ليأجوج ومأجوج بالخروج فيخرجون مسرعين ، فيشربون الماء ، ويهلكون الزرع ، ويفر الناس منهم ، ويوحي الله إلى عبده ونبيه عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم فحرِّز عبادي إلى الطور – اسم جبل – ، فينحازون إليه ، فيأتي أوائل يأجوج ومأجوج على بحيرة طبرية فيشربونها ، ويمر بها آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء ، ثم يرمون سهامهم في السماء فترجع مخضبة بالدماء – فتنة من الله وابتلاء – فيقولون قهرنا أهل الأرض ، وغلبنا أهل السماء ، ويُحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه بجبل الطور حتى يلقوا من حصارهم عنَتَاً وجوعاً . فيدعو عيسى عليه السلام ربه عز وجل فيرسل على يأجوج ومأجوج دوداً في رقابهم فيصبحون قتلى . ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فيها موضع شبر إلا ملأه رائحتهم الكريهة .فيدعون الله فيرسل عليهم طيرا عظيمة فتحملهم فتطرحهم في البحر ، ثم يرسل الله مطرا لا يمنع منه بيت مدرٍ ولا وبرٍ ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالمرآة صفاءً ونقاءً ، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك ، ورُدي بركتك ، حتى تأكل الجماعة من الناس من الرمانة الواحدة فتكفيهم ، ويبارك في اللبن حتى أن اللقحة – الناقة الحلوب – من الإبل لتكفي الجماعة العظيمة من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ – دون القبيلة – من الناس .
هؤلاء هم يأجوج ومأجوج أحد أشراط الساعة وعلامات اقترابها ، يكون خروجهم فتنة وبلاء للناس إلا أن الله سبحانه وتعالى سرعان ما ينجي عباده من شرهم ، بدعوة نبي الله عيسى والصالحين من عباده ، ويعيش الناس بعد موتهم في رخاء ونعمة
إننا أمام حدث من أحداث يوم القيامة ، وهولٍ من أهوالها ، تفزع منه القلوب ، وتوجل منه النفوس ، إنه حدث يقرع أسماع أصحاب القبور ، فينتفضون من قبورهم ، مبهوتين ، شعث الرؤوس ، غُبْر الأبدان ، قد أفزعتهم الصيحة ، وأزعجتهم النفخة ، وقد صوّر القرآن هذا المشهد تصويرا بليغاً ، فقال سبحانه : { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } (يّـس:51) ، وقال تعالى : { فإذا نقر في الناقور () فذلك يومئذ يوم عسير }(المدثر:8 – 9) . فهو حدث عظيم ، وأمر جليل ، كيف لا وهو مقدمة وبداية ليوم القيامة ، الذي تشيب فيه الولدان ، و{ تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد }(الحج:2).
لقد اهتم القرآن الكريم والسنة النبوية ببيان أمر النفخ في الصور وما يتبع ذلك من أحداث ، فمما جاء في السنة أن الصور عبارة عن آلة على شكل قرن ينفخ فيها ، وقد ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما الصور ؟ ، قال صلى الله عليه وسلم : ( الصور قرن ينفخ فيه ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ، وقد أوكل الله عز وجل أمر النفخ في الصور لإسرافيل عليه السلام ، وهو من الملائكة العظام ، ومنذ أن أوكل بذلك وهو متهيئ للنفخ فيه ، وكلما اقترب الزمان ازداد تهيؤه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( كيف أنعم ، وقد التقم صاحب القرن القرن ، وحنى جبهته ، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ ، قال المسلمون : فكيف نقول يا رسول الله : قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، توكلنا على الله ربنا ) رواه الترمذي وحسنه.
وينفخ في الصور نفختان : النفخة الأولى ، وتسمى : نفخة الصعق – الموت – وهي المذكورة في قوله تعالى: { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } (الزمر:68) وبسماع هذه النفخة يموت كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله أن يبقيه . قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله ) رواه البخاري ومسلم.
وتأتي هذه الصيحة على حين غفلة من الناس وانشغال بالدنيا ، كما قال تعالى : { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون () فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون }( يّـس:49-50) ، روى الإمام الطبري في تفسيره عن عبد الله بن عمرو، قال: " لينفخن في الصور، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصور ".
أما النفخة الثانية فهي نفخة البعث ،وهي المذكورة في قوله تعالى: { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون }(الزمر: 68 )
وهي صيحة توقظ الأموات مما هم فيه ، ثم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر ، وهذه النفخة هي المقصودة بقوله تعالى : { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون }( يـس:51) .
أما عن الفترة الزمنية الفاصلة بين النفختين ، فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بين النفختين أربعون ، قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوما ، قال : أبيت ، قال : أربعون سنة ، قال : أبيت ، قال : أربعون شهرا ، قال : أبيت ،.. ) رواه البخاري ومسلم . ومعنى قول أبي هريرة رضي الله عنه : أبيت . أي :أمتنع عن تحديد أي أربعين أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، لكونه صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ أربعين ولم يحدد . والله أعلم.
هذا طرف من أخبار ذلك الحدث ، ذكرناه لك – أخي الكريم – ، كي تتأمل في هذا اليوم العظيم ، وما فيه من المخاوف والأهوال ، فتشمر عن ساعد الجد نحو لقاء الله تعالى ، فإنه لا نجاة في ذلك اليوم إلا بالإيمان والعمل الصالح .
يوم القيامة هو يوم المخاوف ، فما يخلص الناس من هول من أهوال ذلك اليوم، حتى يدركهم هول آخر . فتمتلئ القلوب خوفاً وفزعاً ، فلا تدري متى تنجو ، ولا تدري أي مصير ستؤول إليه، وبينما الأمم في محشرها ، إذ يأمر الله سبحانه، أن تتبع كل أمة ما كانت تعبده ، فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ثم يُذْهَبُ بهم جميعاً إلى النار . وتبقى الرسل مع أممهم وفيهم المنافقون ، فيُنْصَبُ لهم صراط على ظهر جهنم، أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر، وفي حافتيه خطاطيف وكلاليب ، فيأمرهم سبحانه أن يمروا على ظهره ، فيشتدُّ الموقف ، ويعظم الخطب ، ويكون دعوى الرسل يومئذ اللهم سلِّم سلِّم ، ويكون أول من يجتاز الصراط النبي صلى الله عليه وسلم بأمته ، ثم تتبعهم سائر الأمم من أتباع الرسل ، ويتفاوت الناس في كيفية مرورهم تفاوتاً عظيماً فمنهم من يمر كطرف العين ، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالخيل الجيدة ، وحينئذ فمنهم من ينجو سالماً ، ومنهم من ينجو مخدوشاً ، ومنهم من تخطفه الكلاليب ويلقى به في النار .
والورود على الصراط أمر ثابت بالقرآن والسنة ، أما القرآن فقوله تعالى { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا }(مريم:71). فقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه الورود في هذه الآية بالمرور على الصراط ، كما روى ذلك الطبري في تفسيره.
وأما الأحاديث فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلًم سلِّم ) رواه البخاري و مسلم .
حتى إذا خلص المؤمنون من الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم ، وهؤلاء لا يرجع أحدٌ منهم إلى النار ، قال صلى الله عليه وسلم : ( يخلص المؤمنون من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ) رواه البخاري فهذه القنطرة خاصة بتنقية المؤمنين من الذنوب المتعلقة بالعباد حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غلٌ ولا حشدٌ لأحدٍ ، كما وصف الله أهل الجنة فقال : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) (الحجر:47) .
يوم القيامة وإن كان يوم المخاوف والأهوال ، إلا أن رحمة الله تعالى تدرك عباده المؤمنين ، وتتجلى تلك الرحمة في إذنه سبحانه لمن شاء من عباده أن يشفعوا في العصاة ممن يرضى الله عنهم ، قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } ( البقرة: من الآية 255) ، وقال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } ( الأنبياء :28) ) ، فالشفاعة في ذلك اليوم من أعظم الرحمات التي يمتن الله بها على عباده ، ولا سيما في حق العصاة ممن استحقوا دخول النار أو دخلوها ، فكم هي فرحتهم وكم هي سعادتهم عندما يحال بينهم وبين دخول النار ، أو عندما يخرجون منها بعد دخلوهم فيها .
وأعظم الشفاعات التي تجري في ذلك اليوم هي شفاعته صلى الله عليه وسلم في بدء الحساب للفصل بين العباد ، ذلك أن الخلق يطول بهم المقام في ساحة الحساب ، وتدنوا الشمس من رؤوسهم مقدار ميل ، ويبلغ بهم الجهد والعرق مبلغاً عظيماً ، فيجتمع رأيهم حينئذ على طلب الشفاعة من الأنبياء ، ليشفعوا لهم عند ربهم ، فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يـأبى عليهم ، ويذكر لنفسه ذنبا إلا عيسى بن مريم ، فلا يذكر لنفسه ذنبا ولكنه يأبى الشفاعة ويحيل الناس على النبي صلى الله عليه وسلم فيأتونه ، فيقول أنا لها ، أنا لها ، فيشفع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليفصل بين عباده ويريحهم مما هم فيه .
وهذه الشفاعة مما اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وهي المقام المحمود الذي وعده ، وهناك شفاعات أخرى يكرم الله بها نبيه ، ويخصه بها دون سائر الأنبياء ، منها شفاعته صلى الله عليه وسلم في استفتاح باب الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول شفيع في الجنة ) رواه مسلم .
ومن أنواع شفاعته صلى الله عليه وسلم شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب ، فقد قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أغنيت عن عمك – يعني أبا طالب – فإنه كان يحوطك – يحميك – ويغضب لك ، قال : ( هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) متفق عليه .
ومن أنواع الشفاعة شفاعته صلى الله عليه وسلم في عصاة المؤمنين ، وهذه المرتبة من الشفاعة يشركه فيها سائر إخوانه من الأنبياء عليهم السلام ، والملائكة ، وصالحي الأمة وشهدائها ، وهي تكون فيمن استحق النار ألا يدخلها ، ومن دخلها أن يخرج منها . وقد تواترت الأدلة في إثبات هذا النوع من الشفاعة ، منها ما ثبت في صحيح البخاري أن المؤمنين الذين اجتازوا الصراط يقفون يجادلون في إخوانهم الذين دخلوا النار فيقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ، فيُخرجون خلقا كثيرا ، منهم من قد أخذته النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه . ثم يقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها خيرا ، فيقول الله عز وجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط – أي مع إتيانهم بأصل التوحيد وأركانه – قد عادوا حمما ، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل – جانب – السيل .
هذه هي الشفاعة رحمة الله لعباده المؤمنين في ذلك اليوم العظيم ، الذي لم يغضب الله قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، ومع شدة غضبه سبحانه إلا أن رحمته سبقت غضبه فمنَّ على عباده بالشفاعة ، فيا لها من رحمة ويالها من منة ، فينبغي للمسلم أن يحرص على تعاطي الأسباب الموجبة لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعظم تلك الأسباب توحيد الله سبحانه حقاً ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) رواه البخاري ، ومن الأسباب الموجبة لشفاعته صلى الله عليه وسلم ، الدعاء له بالمقام المحمود ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة ) رواه البخاري ، ومن أسباب شفاعته صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه عشرا في الصباح وعشرا في المساء ، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة ) رواه الطبراني وحسنه الشيخ الألباني .
من رحمة الله عز وجل بعباده الصالحين في يوم القيامة أنه لم يتركهم عطشى يعانون الظمأ ، بل أكرمهم بحياض يشربون منها ، فجعل لكل نبي من الأنبياء حوضا يشرب منه أتباعه ، قال صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة )رواه الترمذي وصححه الألباني . ومن أعظم تلك الحياض حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، المسمى الكوثر ، قال تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر }(الكوثر: 1 ) والكوثر في كلام العرب الخير الكثير ، وقال صلى الله عليه وسلم : عندما نزلت عليه هذه السورة أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير ، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء .. ) رواه مسلم .
وجاء في صفة هذا الحوض أنه يصب من الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( يشخب – أي يسيل – فيه – أي في الحوض – ميزابان – أي قناتان يجري فيهما الماء – من الجنة ) رواه مسلم ، ومن صفته أيضاً أن طوله مسيرة شهر ، وماؤه أشدُّ بياضاً من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكؤوسه كعدد نجوم السماء من شرب منه فلا يظمأ أبدا ، كما روى ذلك البخاري .
وقد خصَّ الله عز وجل الشرب من ذلك الحوض بعباده المؤمنين ، فقد روى البخاري عنأبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : ( أنا فَرطُكُم – أي أتقدمكم – على الحوض فمن ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا . ليردنَّ علي أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما بدلوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي ). فالحديث صريح في أنه لا يشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم إلا المؤمنون ، أما من بدل دينه فإنه يطرد ويدعى عليه بالسحق والإبعاد .
والحديث يدل أيضا على أن موضع الحوض قبل الصراط ، إذ إن من مرَّ على الصراط كان من أهل الجنة ، فلو كان الحوض بعد الصراط لامتنع أن يطرد أحد عنه .
هذا هو الحوض ، وتلك هي صفته ، وهو كرامة من الله لعباده الصالحين في ذلك اليوم الذي يشتد فيه العطش ، ويعظم فيه البلاء
تواترت الآيات والأحاديث النبوية في ذكر الجنة وأهلها ، وذكر الأسباب الموجبة لدخولها ، وما ذلك إلا لعظم منزلة الجنة فهي دار الكرامة ، الداخل فيها ينعم لا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، وفيها أعدَّ الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
فحيَّا على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيّم
وقد اختص الله سبحانه هذه الدار بأوليائه ، ينعمون فيها بأصناف الملذات ، فما يشتهي أحدهم شيئاً إلا جاءه ، قال تعالى : { يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } ( الزخرف:71 ) . ومن أعظم نِعَم تلك الدار ما كتب الله لأهلها من الخلود الأبدي فيها ، فلا يخافون موتاً أو فناءً ، قال تعالى : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } (التوبة:21) ، ومن أعظم ما ينال أهل الجنة من النعيم أن يحلَّ الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم ، فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) رواه البخاري ومسلم . وأعظم نعمة في الجنة على الإطلاق هي رؤية وجهه الكريم سبحانه وتعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة ، يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئا أزيدكم ، فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟! .. فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ) رواه مسلم .
ومن صفات جنة النعيم خلوها من المنغصّات والمكدّرات ، فلا هم يلحق أهلها ، ولا تعب يصيبهم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من دخلها – يعني الجنة – ينعم لا يبأس ، لا تبلى ثيابهم ، ولا يفنى شبابهم ) رواه مسلم .
أما رزق أهل الجنة ، فيأتيهم { فيها بكرة وعشيا } (مريم:62 ) وما اشتهى أحدهم شيئا إلا أتاه ، قال تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (الزخرف:71) فما أعظَمَ نعيمهم ، وما ألذَّ سرورهم .
أما نساؤهم فالحور العين ، يبلغ من جمال الواحدة منهن أن لو طلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بين الجنة والأرض ، ولملأت ما بينهما بريحها ، ولخمارها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ، قال تعالى :{ كذلك وزوجناهم بحور عين } ( الدخان:54) .
هذا عن الحور العين ، أما عن نساء أهل الدنيا ، فينعم الله عليهن في الجنة بجمال أشدَّ من جمال الحور العين ، قال تعالى: { إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا، عربا أترابا، لأصحاب اليمين } ( الواقعة : 35 – 38 ) .
لهاك النوم عن طلب الأماني وعن تلك الأوانس في الجنان
تعيش مخلدا لا موت فيـها وتلهو في الخيام مع الحسـان
تيقظ من منامك إن خيـراً من النوم التهجـد بالقــرآن
وأما أنهار الجنة فقد ذكرها سبحانه في كتابه الكريم فقال: { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } ( محمد : 15 )
وأما سعة الجنة فلا يعلم ذلك إلا الله ، وقد أخبرنا سبحانه عن عرضها بأنه ما بين السماء والأرض ، قال تعالى: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } ( الحديد:21 ) . وقال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } (آل عمران:133) وذكر العلماء أن الله ذكر عرض الجنة ولم يذكر طولها للدلالة على سعتها العظيمة .
هذه بعض أوصاف الجنة وأوصاف أهلها ، وهي غيض من فيض ، ونقطة من بحر . ومن أراد أن يتعرف على جنة الله ودار كرامته فعليه بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فليس بعد بيانهما بيان ، فهل بعد هذا من مشمِّرٍ إلى الجنة ، فإن الجنة – ورب الكعبة – نورٌ يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر جار ، وفاكهة كثيرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ..
منقول
وجعله في موازين حسناتك