هذا الموضوع قرأته في كتاب الداء والدواء لابن القيم الجوزية وأحببت أن أنقل
إليكم بعضه :
إن كمال اللذة والفرح والسرور ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين :
أحدهما : كمال المحبوب في نفسه وجماله ، وأنه أولى بإيثار المحبة من كل ما سواه .
والأمر الثاني: كمال محبته ، واستفراغ الوسع في حبه ،وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء .
وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوة محبته ، فكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحبة أكمل ، فلذة من اشتد ظمؤه بإدراك الماء الزلال ،ومن اشتد جوعه بأكل الطعام الشهي ، ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته.
وإذا عُرف هذا ، فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه ، بل هومقصود كل حي وعاقل ، وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي تُذم إذا أعقبت ألما أعظم منها ، أو منعت لذة خير منها وأجل ، فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات، وفوتت أعظم اللذات والمسرات؟!
وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما ، وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها ، قال تعالى ((بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى )) الأعلى :16، 17.
وقال السحرة لفرعون لما آمنوا : ((فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى )) طه :72، 73.
والله سبحانه خلق الخلق لينيلهم هذه اللذة الدائمة في دار الخلد . وأما هذه الدار فمنقطعة ،ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم بخلاف الآخرة ، فإن لذاتها دائمة ونعيمها خالص من كل كدر وألم ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مع الخلود أبدا ، ولا تعلم نفس ما أخفى الله لعباده فيها من قرة أعين، بل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وهذا المعنى الذي قصده الناصح لقومه بقوله ((يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * يا قوم إنما هذه الحياةالدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار )) غافر :38 ،39.
فأخبرهم أن الدنيا متاع يستمتع بها إلى غيرها ، وان الآخرة هي المستقر.
وإذا عُرف أن لذات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذات الآخرة ، ولذلك خلقت الدنيا ولذاتها ، فكل لذة أعانت على لذة أخرى وأوصلت إليها لم يذم تناولها ، بل يحمد بحسب إيصالها إلى لذة الآخرة .
وإذا عُرف هذا ، فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها : هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله ، وسماع كلامه منه ،والقرب منه ، كما ثبت في ((الصحيح)) في حديث الرؤية : ((فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه )) .
وفي حديث آخر : ((إنه إذا تجلى إليهم ورأوه نسوا ماهم فيه من النعيم )).
وفي كتاب ((السنة)) لعبد الله بن الإمام أحمد مرفوعا : (( كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن، إذا سمعوه من الرحمن ،فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك )) .
وإذا عُرف هذا ، فأعظم ا لأسباب التي تحصل هذه اللذة هوأعظم لذات الدنيا على الإطلاق ، وهو لذة معرفة الله سبحانه وتعالى ولذة محبته ،فإن ذلك هو جنة الدنيا ونعيمها العالي ،ونسبة لذاتها الفانية إليه كتفلة في بحر ، فإن الروح والقلب والبدن إنما خُلق لذلك ، فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته، وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته ، فمحبته ورؤيته قرة العيون ، ولذة الأرواح ، وبهجة القلوب ،ونعيم الدنيا وسرورها ، بل لذات الدنيا القاطعة عن ذلك تنقلب آلاما وعذابا ، ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك ، فليست الحياة الطيبة إلا بالله .
وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب .
وكان غيره يقول : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .
إن أعظم لذات الدنيا ما أوصل إلى أعظم لذة في الآخرة ، ومحبة الله هي حياة القلوب ، وغذاء الأرواح ، وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فلاح إلا بها ، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من العين إذا فقدت نورها ، والأذن إذا فقدت سمعها ، والأنف إذا فقد شمه ، واللسان إذا فقد نطقه ، بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح ،، وهذا الأمر لا يصدق به إلا من فيه حياة .
منحني الله وإياكم لذة محبته والشوق إلى لقائه ورؤية وجهه الكريم .
لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين