صلة الرحم" في الزمن الإلكتروني
———————————————————————–
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته والصلاة على الحبيب الهادى محمد صلى الله عليه وسلم
"صلة الرحم" في الزمن الإلكتروني
قرّبت وسائل الاتصال الحديثة كل بعيد بعد ما كان التواصل صعبا بين الناس قديما. وصدقت نبوءة عالم الاتصال الشهير ماكلوهان بأن العالم سيتحول إلى قرية صغيرة.
وظن الإنسان مع ظهور وسائل الاتصال -مثل الهاتف والطائرات والقطارات والشبكة العنكبوتية "الإنترنت"- أنها ستزيد من انطلاقه وقضاء وظائفه المادية والاجتماعية، إلا أن الرحم كانت أولى من يشكو إلى الله تعالى هجر الناس، بسبب تلك التطورات ذات الحدين.
ولقد حث الشرع على التطور الحضاري، وعلى كل ما يكون فيه منافع اجتماعية، غير أن هذا الحث يجب أن يتبعه استنفاع يخدم حياة الناس، ويحقق التواصل الاجتماعي في المجتمع المسلم والمجتمع الإنساني.
ومن اللافت للنظر أن الإسلام يخاطب المسلمين دائما بأنهم أمة، وهو دليل على العالمية، وهذه الأمة يجب أن تكون موصولة فيما بينها، فكان هذا التطور الحديث في وسائل الاتصال والمواصلات معينا على تحقق التواصل بين الأمة، وأن تصل الأمة رحمها، فضلا عن الوصل القريب في البلد الواحد، أو في المدينة أو القرية الواحدة.
وتدخل صلة الرحم ضمن الشعائر الاجتماعية التي أمرت بها جميع الأديان، وأولاها الإسلام اهتماما شديدا؛ لأنه امتداد وتكميل لشرائع الله تعالى للأمم السابقة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} (البقرة: 83).
وصلة الرحم جزء من عملية الاتصال الإنساني الذي ينير أجزاء هامة من حياة الناس، يقول في ذلك الدكتور إبراهيم الفقي المتخصص الإداري: ‘الاتصال كالوميض مهما كان الليل مظلمًا فهو يضيء أمامك الطريق دائمًا". ولهذا، فإن صلة الرحم ستضيء العلاقات الاجتماعية مهما كانت الخلافات بين الناس.
وهذا النور يتطلب منا أن نبدأ بأنفسنا ولا ننتظر حتى يأتي من يبدأ لنا صلة رحمنا؛ بل السبق فيه أولى؛ حتى لا تضيع تلك الفريضة بسبب الاتكال. وكما جاء في حكاية صينية: "قرر شاب في العشرين من عمره أن يغير العالم كله خلال عشرين سنة، وبعد عشرين سنة وقد صار في الأربعين من عمره وجد صعوبة شديدة في تحقيق ما كان يربو إليه، وأنه لم يستطع أن يغير العالم، فقرر أن يغير بلده خلال عشرين عامًا، وبعد العشرين عامًا، وقد كان في الستين من عمره، وجد أنه لم يصنع شيئًا، فقرر أن يغير من مدينته خلال عشرين عامًا، وبعدها، وهو ابن الثمانين آنذاك، قرر أن يغير من أسرته، وحين وصل إلى المائة لم يجد تغييرا، فاكتشف في النهاية تلك الحقيقة: "أن التغيير يبدأ من النفس".
إضافة الرحم إلى الله
ومن عجيب أمر الرحم أن الله تعالى أضافها إليه، وصرح بالأمر بها في أسلوب بلاغي يدفع للحرص على وصلها، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (الرعد: 21).
ومن اللافت للنظر في الإسلام أن صلة الرحم لها مستويات، تبدأ من بر الوالدين، وهو أعلى درجة في صلة الرحم؛ فكل وصل دون وصل الوالدين كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، أو هو شيء هش تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، أو هو كزبد البحر يذهب جفاء، فحق الوالدين مقدم على كل الحقوق عدا حق الله؛ بل يقدم حقهما أحيانا على بعض حقوق الله تعالى، إلا حق التوحيد؛ فبعده يأتي حق الوالدين، ثم يأتي حق الأقارب من الإخوة والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ثم أبناء العم وأبناء العمة، وأبناء الخال وأبناء الخالة، وكل ذوي الأرحام.
ومن وصل الرحم وصل ما يجمع بين الناس من أصهار وأنساب. فالزواج في الإسلام ليس مبنيا على ارتباط رجل بامرأة، ولكنه يتعدى إلى أن تترابط الأسر؛ ليلتحم المجتمع في لحمة اجتماعية واحدة، وليتزاور الناس فيما بينهم.
وهناك رحم الإسلام، فكل من يشهد لله بالتوحيد، ولرسوله بالرسالة، وينسك نسك الإسلام، ويقيم شعائره، كان حقا على المسلمين أن يصلوه وإن اختلفت أشكال الوصل من درجة لأخرى.
ولهذا نجد الخطاب الواحد للأمة في القرآن الكريم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92). وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، وقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران: 103).
وإن كان الأخ يصل أخاه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذه الأخوة بقوله: "المسلم أخو المسلم"، بل يصل الأمر إلى حد الولاية، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة: 71). والولاية توجب الوصل بين من جمعتهم تحت لوائها.
الوصل الإنساني
وهناك الوصل الإنساني؛ إذ كل الناس من آدم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا} (النساء: 1).
وهذا يوجب وفق دستور الإسلام أن تبادر الأمة الإسلامية بوصل من تربطهم بها رابطة الإنسانية، كما قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70). وليس اختلاف العقيدة في حد ذاته موجبا للقطع؛ لأنه كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} (التغابن: 2)، فوصل العلاقات بين البشر مطلب إسلامي.
ومن الوصل الإنساني الذي حث عليه الإسلام صلة الرحم بين الشعوب، فيتواصل كل شعب مع الآخر، تعاونا على البر والخير، وسدا للفساد والشر، وسعيا للإصلاح في الأرض، تحقيقا لمقصد التعمير الذي قال عنه الله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود:61).
ومن تلك الدلائل على الوصل بين الشعوب، ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر المسلمين أن يستوصوا بأقباط مصر خيرا، فعن كعب بن مالك الأنصاري قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا فُتِحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم دمًا ورحمًا". وفي رواية: "إن لهم ذمة ورحمًا" (الطبراني والحاكم).
ذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت من مصر، وإسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك مارية القبطية كانت من سراري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم ابنه إبراهيم. وكانت مصر آنذاك غير مسلمة، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتواصل المسلمون مع أهلها، وأن يستوصوا بهم خيرا، مع كونهم كانوا على غير ملة الإسلام.
ويستمر الهدي النبوي ليستوصي المسلمون في مصر الآن بأقباطها خيرا، وليصلوا رحمهم وفاء بالعهد، وحسن جوار، وحفاظا عليهم من كل أذى يصيبهم، وحرية في العقيدة فلا يجبروا على ترك دينهم، وإكرامهم في المعاملة، وكل ذلك من هدي الإسلام.
الواقعي ثم الإلكتروني
ولهذا، فإنه يمكن لنا أن نقول: إن الإسلام أمر بصلة الرحم أفرادا، وأسرا، ومجتمعا مسلما، وصلة للرحم بين الشعوب والأمم، بين الدول الإسلامية فيما بينها، وبين أمة الإسلام والشعوب الأخرى؛ ليكون وصل الرحم هو قارب النجاة للإنسانية كلها، وحافظ المجتمع من الانهيار الاجتماعي.
ولتكن تلك الوسائل الحديثة في المرتبة الثانية إنْ عجز الناس عن اللقاء والمباشرة. فإن دخول الإنسان لبيت أخيه مرة لا يعادله حديثه عبر الهاتف "والماسنجر" ألف مرة، وإنّ تلاقي الأجساد وحرارة اللقاء والتصافح ليدخل السرور على قلوب الناس، وتتساقط الذنوب عند التصافح كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإنْ عجز عن الوصل الواقعي المباشر فليكن الوصل الإلكتروني حافظا للرحم من الضياع، أو ميسرا له في بعض الأحايين التي من الصعب أن يتم فيه التواصل المباشر بسبب السفر للخارج، أو بعد المسافات في البلد الواحد، أو غيرها من الأسباب.
المهم في ذلك كله أن يتواصل المسلمون فيما بينهم، وأن يتواصلوا مع غيرهم لتطبيق تلك السنة الاجتماعية من صلة الرحم، سواء أكانت واقعيا أم إلكترونيا.
منقوووووووول
منقوووووووول
نقل موفق وطيب نسأل الله أن ينفع به ….
وفي موازين حسناتك يوم القيامه اللهم آمييين …وبإنتظار جديدك القادم …