ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بـســم الله الـــرحـمــن الرحيـــــم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، وفقني
الله وإياهم لاغتنام الخيرات ، وجعلني وإياهم من المسارعين إلــــى
الأعمال الصالحات آمين .
أيهـا المسلمون، لقد أظلكم شهر عظيم مبارك، ألا وهو شهر رمضان،
شهر الصيام والقيام شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان،
شهــر تفتح فيـــه أبواب الجنات وتضاعف فيـه الحسنات وتقال فيــــه
العثرات ، شهر تجاب فيه الدعوات ، وترفع فيه الدرجات ، وتغفر فيه
السيئات ، شهر يجود فيه الله سبحانه علــى عباده بأنواع الكرامات ،
ويجزل فيه لأوليائه العطايات ، شهــر جعـــل الله صيامه أحـــد أركان
الإسلام ، فصامه المصطفى صلــى الله عليــه وسلـــم ، وأمــر الناس
بصيامه ، وأخبر عليـه الصلاة والسلام أن من صامه إيمانا واحتسابا
غفر الله لـه ما تقدم من ذنبه ، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له
مـا تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها
فقد حرم ، فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور، والعزيمة الصادقة
على صيامه وقيامه ، والمسابقة فيه إلى الخيرات والمبادرة فيـه إلى
التوبة النصوح مـــــن سائر الذنوب والسيئات ، والتناصح والتعاون
على البر والتقوى، والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم .
وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة :
منها : تطهير النفوس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة كالأشر
والبطر والبخل ، وتعويدها للأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود
والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه .
ومـن فوائد الصوم : أنه يعرف العبد نفسه وحاجته ، وضعفه ، وفقره
لربه ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضا بحاجة إخوانه الفقراء
فيوجب له ذلك شكر الله سبحانـــه ، والاستعانة بنعمه علــى طاعته ،
ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم ، وقــــد أشــار الله سبحــانه
وتعــالى إلــى هذه الفوائد في قوله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فأوضـــــح
سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه سبحانه فدل ذلك على أن الصيام
وسيلة للتقوى ، والتقوى هي : طاعة الله ورسولـــه بفعــل ما أمر الله
به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله؛ عـن إخلاص لله عز وجل
ومحبة ورغبة ورهبة ، وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام
شعبة عظيمة من شعب التقوى ، ووسيلة قوية إلــى التقوى فــي بقية
شئون الدين والدنيا ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلـم إلى بعض
فوائد الصوم فـي قوله صلى الله عليه وسلـــم « يا معشر الشباب من
استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنـه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن
لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » (1) . فبين النبـي صلى الله
عليه وسلم أن الصوم وجاء للصائم، وما ذاك إلا لأن الشيطان يجري
من ابن آدم مجرى الدم ، والصوم يضيق تلك المجاري ، ويذكر بالله
وعظمته ، فيضعف سلطان الشيطان ، ويقوى سلطان الإيمان ،
وتكثر به الطاعات من المؤمن، وتقل به المعاصي .
وفي الصوم فوائد كثيرة غير ما تقدم تظهر للمتأمل من ذوي البصيرة،
ومنها أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة ، وقــد
اعترف بذلك الكثير من الأطباء وعالجوا به كثيرا من الأمراض . وقـد
ورد في فضله وفرضيته آيات وأحاديث كثيرة قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } إلى أن قال الله عز وجل { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُــــمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ
اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } البقرة185
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
« بني الإسلام عـلى خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبــــده
ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان »(2)
وفــي الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنـــــه
أن جبريل عليه السلام سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام ؛
فقـال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « الإسلام أن تشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله صلـــى الله عليــه و سلــم وتقيم الصلاة
وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليـــــه سبيلا
قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال
أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسلـــه واليــوم الآخـر وتؤمن بالقدر
خيره وشره قـال صدقت قــال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله
كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك »(3) وهذا حديث عظيم
جليل ينبغي تأمله وتعقل معانيه. …
أيها المسلمون، إن الصوم عمل صالح عظيم، وثوابه جزيل، ولا سيما
صــوم رمضان فإنه الصوم الذي فرضه الله على عباده ، وجعله مــــن
أسباب الفوز لديه ، وقـد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلــى الله
عليـه وسلم قال « كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى
سبعمائة ضعف قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به يدع
شهوته وطعامه من أجلى للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند
لقاء ربه . ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك » (4) . قال
النبي صلى الله عليه وسلم « إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة
وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين » (5) . …
فيا معشر المسلميـن اغتنموا هذا الشهر العظيم، وعظموه رحمكم الله،
بأنواع العبادة والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات، هو شهر عظيم،
جعله الله ميدانا لعباده يتسابقون إليه فيه بالطاعات ، ويتنافسون فيـه
بأنواع الخيرات ، فأكثروا فيه ، رحمكم الله، من الصلوات والصدقات
وقراءة القرآن والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام .
وقـــد كــان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود
ما يكون في رمضان ، فتأسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم واقتدوا بـه
فـي مضاعفة الجود والإحسان فـــي شهـر رمضان ، وأعينوا إخوانكم
الفقراء على الصيـــام والقيـــام واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلام ،
واحفظوا صيامكم عما حرم الله عليكم من الأوزار والآثام فقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قـــال « من لم يدع قول الزور والعمل
به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه » (6) ، وقـال عليه
الصلاة والسـلام « والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث
ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم »(7) . …
فينبغي للصائم الإكثار مـــن تلاوة القرآن بتدبر وتعقل ، والإكثار مـــن
الصلوات والصدقات والذكر والاستغفار وسائر أنواع القربات في الليل
والنهار اغتناما للزمان ، ورغبــة فـــي مضاعفة الحسنات ، ومرضاة
لفاطر الأرض والسماوات . ويجــب عـلى كــل مسلم اجتناب ما يجرح
الصوم ، وينقص الأجر ، ويغضب الرب عز وجل من سائر المعاصي؛
كالتهاون بالصلاة ، والبخل بالزكاة، وأكل الربا ، وأكل أموال اليتامى،
والظلم، والسرقة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والغيبة والنميمة
والكذب، وشهادة الزور ، والدعاوى الباطلة، والأيمان الكاذبة، وحلق
اللحى وتقصيرها وإطالة الشوارب، وسماع الأغاني، وآلات الملاهي،
وتبرج النساء، وعدم تسترهن من الرجال، والتشبه بنساء الكفرة في
أزيائهن غير الساترة ، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله ، وهذه
المعاصي التي ذكرناها محرمة في كل زمان ومكان، ولكنها في
رمضان أشد تحريما ، وأعظم إثما لفضل الزمان وحرمته .
فاتقـــوا الله أيهــا المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنــه ورسولـــه ،
واستقيموا علـى طاعته في رمضان وغيره ، وتواصوا بذلك وتعاونوا
عليـــه لتفوزوا بالكرامة والسعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة ،
والله المسئول أن يحفظنا والمسلمين جميعـا من أسباب غضبه ، وأن
يتقبل منا جميعا صيامنا وقيامنا وأن يصلح ولاة أمر المسلمين ، وأن
ينصر بهــم دينه ، ويخذل بهم أعداءه ، وأن يوفق الجميع للفقه فـــي
الدين والثبات عليه والحكم به والتحاكم إليه في كل شيء إنه على كل
شيء قدير وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
كتاب مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز (ج 15 / ص38 ) (بتصرف)
…
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ( ك النكاح ، ب استحباب النكاح لمن تاقت
نفسه إليه ووجد مؤنة … ، ص 724 / ح 1400 )
(2) أخرجه مسلم في صحيحه ( ك لإيمان ، ب بيان أركان الإسلام
ودعائمه العظام ، ص 27 / ح 21 ) من حديث عبدالله بن عمر .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه ( ك لإيمان ، ب بيان الإيمان والإسلام
والإحسان … ، ص 22 / ح 8 ) من حديث عمر بن الخطاب
(4) أخرجه مسلم في صحيحه ( ك الصيام ، ب فضل الصيام ،
ص 580 ) من حديث أبى هريرة
(5) أخرجه البخاري في صحيحه ( ك بدء الخلق ، ب صفة إبليس وجنوده
، ص 627 / ح 3277 ) من حديث أبى هريرة
(6) أخرجه البخاري في صحيحه ( ك الصوم ، ب من لم يدع قول الزور
والعمل به في الصوم ، ص 362 / ح 1903 ) من حديث أبى هريرة
(7) أخرجه البخاري في صحيحه ( ك الصوم ، ب هل يقول إني صائم
إذا شتم ، ص 362 / ح 1904 ) من حديث أبى هريرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بارك الله فيكِ
وجزاكِ الله خير الجزاء
دمتِ برضى الله وحفظه ورعايته
كل عام وانتم الى الله اقرب