السؤال:
المستمع أ.ع.ب. من العراق محافظة نينوىٰ؛ يقول: في رسالته ما الحكمة بأن الله -سبحانه وتعالىٰ- لم يُبيِّن عدد أصحاب الكهف؟ ومن هم أصحاب الكهف؟ ومن هم أصحاب السبت، وما قصتهم. أفيدونا في ذٰلك بارك الله فيكم؟
الجواب:
قبل أن أجيب علىٰ هٰذا السؤال أود أن أُبيِّن أنَّ من أسماء الله تعالى: (الحكيم)؛ والحكيم معناه: الحاكم المحكم؛ فالله -سبحانه وتعالىٰ- حاكم علىٰ عباده شرعًا وقدرًا، وهو سبحانه وتعالىٰ ذو الحكمة البالغة التي لا تدركها أو لا تحيط بكنهها العقول.
وما من شيءٍ يقدِّرُه الله -سبحانه وتعالىٰ- أو يشرعه لعباده إلا وله حكمة؛ لـٰكن من الحكم ما نعلم منه، ومن الحكم ما لا نعلم منه شيئًا؛ لأن الله تعالىٰ يقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
وعلىٰ هٰذا يجب علىٰ كل مؤمن أن يُسلِّم لأمر الله الكوني والشرعي، ولحكمه الكوني والشرعي، وأن يعلم أنه علىٰ وفق الحكمة، وأنه لحكمة؛ ولهٰذا لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح قال الله تعالىٰ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ولما سُئلت عائشة -رضي الله عنها- عن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قالت كان يصيبنا ذلك تعني على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة يعني تعني أن الشرع هٰكذا جاء، ولا بد أنَّ لذٰلك حكمة، وإذا تقررت هٰذه القاعدة في نفس المؤمن؛ تمَّ له الاستسلام لله -عزَّ وجلَّ- والرضا بأحكامه.
ثم نعودُ إلى الجواب عن السؤال، وقد تضمن السؤال عن شيئين:
الأول: (أصحاب الكهف)، وقد قال السائل: ما الحكمة في أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يُبيِّن عددهم؟
فنقول: إن الله -تعالىٰ- قد أشار إلى بيان عددهم في قوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ﴾.
فهٰذه الآية تدل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم؛ لأن الله -تعالىٰ- أبطل القولين الأولين، وسكت عن الثالث؛ فدلَّ علىٰ صحته، ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ﴾ هٰذا إبطال هٰذين القولين.
أما الثالث؛ فقال: ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ ولم ينفيه الله -عزَّ وجلَّ-.
وأما قوله: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ فلا يعني ذٰلك أن غير الله لا يعلم به أو لا يعلم بها؛ أي بالعُدَّة؛ وإنما يُراد بذٰلك أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله -سبحانه وتعالىٰ-.
ويكون في ذٰلك إرشادٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أن يُفوِّضَ العلم إلى الله، ولو كان المعنىٰ لا يعلم عدتهم أحد لكان مناقضًا لقوله: ﴿مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ﴾؛ فإن الآية تدل علىٰ أن قليلاً من الناس يعلمون عدتهم؛ وعلىٰ هٰذا فعدَّتهم سبعة وثامنهم كلبهم.
وهٰؤلاء السبعة فتية آمنوا بالله -عزَّ وجلَّ- إيمانًا صادقًا؛ فزادهم الله تعالىٰ الهدىٰ؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- إذا علم من عبده الإيمان والاهتداء زاده هدى، كما قال تعالىٰ: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [1] هٰؤلاء الفتية كانوا مؤمنين بالله وزادهم الله –تعالىٰ- هدًى وعلمًا وتوفيقًا.
وكانوا في بلد أهلها مشركون فأووا إلى كهف يحتمون به من أولئك المشركين، وكان هٰذا الكهف وجهه إلى الناحية الشرقية الشمالية، كما يدلُّ على ذٰلك قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾[2]، وهٰذه الوجهة أقرب ما يكون إلى السلامة من حر الشمس وإلىٰ برودة الجو، بقوا علىٰ ذٰلك ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، والله -عزَّ وجلَّ- يُقلِّبُهم ذات اليمين وذات الشمال في نومهم هٰذا، وقد ألقى الله الرعب علىٰ من أتى إليهم، كما قال تعالىٰ: ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾[3]؛ كلُّ ذٰلك حماية لهم.
ثم إن هؤلاء القوم بعد هٰذه المدة الطويلة أيقظهم الله من رقادهم ولم يتغير منهم شيء لا في شعورهم ولا في أظفارهم ولا في أجسامهم؛ بل الظاهر -والله أعلم- أنه حتىٰ ما في أجوافهم من الطعام قد بقي على ما هو عليه، لم يجوعوا ولم يعطشوا؛ لأنهم لما بعثهم الله -عزَّ وجلَّ- تساءلوا بينهم: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾[4]، وهٰذا يدلُّ علىٰ أنه لم يتغير منهم شيء، وأن ما ذُكِرَ من أن أظفارهم زادت وشعورهم طالت هو كذب؛ لأنه لو كان الأمر هٰكذا؛ لعرفوا أنهم قد بقوا مدة طويلة.
هٰؤلاء القوم في قصصهم أو في قصتهم عبرة عظيمة حيث:
حماهم الله -عزَّ وجلَّ- من تسلط أولـٰئك المشركين عليهم، وآواهم في ذٰلك الغار هٰذه المدة الطويلة من غير أن يتغير منهم شيء، وجعل سبحانه وتعالىٰ يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال؛ لئلا تتأثر الْجُنُوب التي يكون عليها النوم، وحماهم الله -عزَّ وجلَّ- بكون من اطلع عليهم يولي فرارًا ويُملأ منهم رعبًا.
والخلاصة التي تستخلص من هٰذه القصة هو: أن كل من التجأ إلى الله -عزَّ وجلَّ- فإن الله تعالى يحميه بأسباب قد يدركها وقد لا يدركها؛ وهو مصداق قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[5] فإن مدافعة الله عن المؤمنين قد تكون بأسباب معلومة، وقد تكون بأسباب مجهولة لهم؛ فهٰذا يشدنا إلى أن نحقق الإيمان بالله -عزَّ وجلَّ- والقيام بطاعته.
وأما أصحاب السبت؛ فإن قصتهم أيضًا عجيبة، وفيها عبر.
أصحاب السبت أهل مدينة من اليهود حرَّم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، وابتلاهم الله -عزَّ وجلَّ- حيث كانت الحيتان يوم السبت تأتي شُرَّعًا علىٰ ظهر الماء كثيرة، وفي غير يوم السبت لا تأتي فضاق عليهم الأمر، وقالوا: كيف ندع هٰذه الحيتان؟! لـٰكنهم قالوا: إن الله حرَّم علينا أن نصيدها في يوم السبت؛ فلجأوا إلىٰ حيلة؛ فوضعوا شباكًا في يوم الجمعة؛ فإذا كان يوم السبت وجاءت الحيتان ودخلت في هٰذا الشباك انحبست بها، فإذا كان يوم الأحد جاءوا فأخذوها؛ فقالوا: إننا لم نأخذ الحيتان يوم السبت؛ وإنما أخذناها يوم الأحد ظنوا أنَّ هٰذا التحيل علىٰ محارم الله ينفعهم؛ ولكنه بالعكس؛ فإن الله تعالىٰ جعلهم قردة خاسئين؛ قال الله تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾[6].
ففي هذه القصة من العبر: أن من تحيل على محارم الله فإن حيلته لا تنفعه، وأن التحيل على المحارم من خصال اليهود.
وفيه أيضًا من العبر ما تدل عليه القصة في سورة الأعراف: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)﴾.
فقد انقسم أهل هٰذه القرية إلى ثلاثة أقسام: قسم اعتدوا و فعلوا ما حرم الله عليهم بهٰذه الحيلة، وقسم نهوهم عن هٰذا الأمر وأنكروا عليهم، وقسم سكتوا؛ بل ثبطوا الناهيين عن المنكر، وقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾؛ وقد بين الله -سبحانه وتعالىٰ- أنه أنجى الذين ينهون عن السوء، وأنه أخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، وسكت عن الطائفة الثالثة.
وفيه دليل علىٰ خطورة هٰذا الأمر؛ أي: علىٰ خطورة من كان ينهى الناهين عن السوء؛ فيقولون مثلاً: إن الناس لم يبالوا بكلامكم، ولم يأتمروا بالمعروف، ولم ينتهوا عن منكر، وما أشبه ذٰلك من التثبيط عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه أيضًا دليلٌ على أنه يجب على الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهىٰ عن المنكر سواء ظنَّ أنه ينفع أم لم ينفع، معذرة إلى الله، ولعل المنهي يتَّقي الله -عزَّ وجلَّ-.
حياك الله