تخطى إلى المحتوى

في عزلة عن المطر 2024.

في عزلة عن المطر

جلس في المقعد الخلفي المحاذي للنافذ، أراد أن ينام الدهر كله بعد يوم آخر من

العمل الشاق أغمض عينيه الثقيلتين ، هما أثقل من تلك الغيمة الداكنة التي تلوح بالأفق ، وما أن رنت الغفوة الأولى التي طالما انتظر حتى صعقه صوت الرعد الذي داهم عزلته عن الواقع كدوي انفجار.

التفت نحو النافذة , ليراقب المطر الذي يتبع الرعد ، لاحظ الناس تسرع بعشوائية كأسراب من النمل داهمتها أقدام (سانتا كلوز) تناول علبة السجائر من جيبه البعيدة ,

أشعل سيجارة, وتابع التأمل بالمطر الذي طالما عشق , فتهادت نظراته على فتاة تقف على الرصيف المقابل له ، والرياح التي تشوب قطرات المطر تداعب خصلات شعرها بنعومة ، وما هي إلا لحظات حتى بدى أشعثاً وأشتد وقع المطر.

– سبحان الله مع كل المطر الذي نثر الكحل على بعض وجهها من عينيها المتسعتين كأطراف الليل ما زالت أجمل من القمر ، ضمت يديها لبعضهما وأخذتهما إلى فمها

ثم أخذت تنفخ فيهما ، أحس بقلبه ينبض وكأنها أذابت عنه جليد الزمن.

قطعت كل أفكاره حافلة مرت بينهما ، أحس الناس منزعجين من دخان سيجارته الذي تصاعد كمصنعٍ لندني للكبريت.

– نعم أحبها بالقدر الذي يغنيني عن إكمال سيجارتي ، أطفأها ، ثم عاود التمعن ، تبادر إلى ذهنه أن ينزل من الحافلة ، يعطيها سترته ويصحبها إلى إحدى مقاهي المدينة الدافئة ، يحتسيان بعض القهوة الساخنة ، يتحدثان مطولا أما نافذة يرشقها المطر.

وكصفعة من ثلج أو نار ، حضرته ذكريات الماضي ، فمنذ أمد طويل هو أبعد من عشرين عقداً ، قرناً ، لا يهم كم ، المهم أن الذاكرة لم تحتو سوى أحلام ورديه مزقتها تجارب فاشلة ، كم بحث عن فتاة أحلامه ولكنه لم يجدها ، تنهد

– لم تخلق بعد.

وفجأة انتفض فهو رجل والرجل لا يقبل الهزيمة ولا اليأس ، استجمع ما تبقى لديه

من عثرات الزمن ، وبخطوات طفل لم يتجاوز العامين من عمره مضى إليها.

صرخ السائق: سوف تغادر الحافلة بعد قليل .

– لا يهم.

كانت ضربات قلبه تسبق كل خطوة يخطوها ، و ما أن وصل قريباً منها تنهد التنهيدة الأخيرة والتي تسبق الكلمة الأولى أخذ نفساً أعمق من البحر، ولكن اجتاح كل ذلك شاب وسيم الملامح .

يقول: آسف على التأخير.

الفتاه: ولا يهمك.

استقلا سيارة أجره ، لحظات حتى زالت الغشاوة عن واقع الدهشة , نظر للخلف فإذا بالحافلة قد غادرت ، وقف تحت المطر، أشعل سيجارة.

قال: لم تخلق بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.