والد جميل
ومنذ فترة من الزمان ليست بالقصير فقد تعود والد "جميل" على إدمان الخمر ، لذا أصبحتَ تراه في كثير من الأوقات سكران ثملاً ، وبسبب سكره المستمر هذا كان ينام حيثما طاب له المبيت .
لم يكن يستأجره أحد من أرباب العمل مهما كانت حاجته مهمة ومستعجلة ، لأنهم في الحقيقة لم يكونوا يأمنون سكراناً يكاد لا يفيق ، فضلاً عن أنه لا يكاد يستيقظ حتى يعود إلى النوم ثانية .
كان كلما ساء عمله التجأ إلى الشرب ،وكلما شرب نام ، وكلما نام ازداد العمل سوء.
وكان مساء كل يوم يعاهد نفسه على أن لا يذوق الخمر بعدها مرة ثانية ، ولكنه لم يكن ليفي بعهده قط .
(وماذا في كأس واحدة ) .. هكذا كان يبدأ جلسته مساء كل يوم على مائدة الخمر ، والكأس الواحدة تجر أختها ، وتتوالى الكؤوس ، وينسى هو عهده مع نفسه بل وينسى كل شئ بالمرة.
نفد صبر ابنه "جميل" وقرر أن يواجه والده في هذا الأمر ، وجاء – فعلا – في إحدى الأماسي وطلب منه أن يعطيه الحافلة ليعمل عليها ويكسب الرزق من ورائها.
رفع والده رأسه الثقيل ببطء وحاول بجهد أن يفتح عينيه ، وصرخ فيه:
– الحافلة ملكي ولن أعطيها لأحد .. ثم انك صغير!
– كلا يا أبي أنا لم اعد صغيراً ألا تراني قد كبرت وأصبحت شاباً؟!
أحدق والده النظر فيه وقال في نفسه :
– حقا إنه كبر وأصبح شاباً يافعاً ولكن لا .. لن أعطيه الحافلة .
– أنت طالب والأجدر بك أن تهتم بدروسك.
– لم أعد طالباً !
هزه كلام إبنه هذا فأفاق :
– ماذا تعني ؟ هل تركت المدرسة ؟
– لم أذهب إليها يا أبي منذ أسبوعين .. لقد تركتها .
فار الدم في عروق والده وازداد غضباً :
– ولكن لماذا ؟ لا .. لا يمكن هذا ! ـِلمَ لم تخبرني ؟ ألست بأبيك ؟!
– بلى أنت أبي ولكنك صرت منذ مدة لا تأتي إلى البيت ، ثم أن المدرسة تحتاج إلى مصاريف ، ولم يبق في يدنا فلس واحد !
وأيدته والدته فيما قاله ،..
فرد عليهما :
– ولكن لِمَ لا تطلبون مني ما تحتاجون إليه ؟
و فجأة مد يده في جيبه كمن يبحث عن شئ ، ولكنه لم يجد فيه شيئاً ، فقد صرف آخر فلس في الخمر هذا المساء. خجل من نفسه كل الخجل وضاق صدره بل ومادت به الأرض ، وطأطأ رأسه .
( لقد أصبح سبب شقاء عائلته نتيجة إدمانه للخمر) ثم راح يتمتم مع نفسه :
– يا لبؤسي وشقائي ، لكم اجتهدت وحاولت ومازلت ، أن أترك هذا السم ولكنني لم أستطع ولم أفلح. ولكن سأتركه.. أجل سأتركه مهما كلفني ذلك ، وسأتخلص من ذلك الشيطان اللعين . ثمة أمران متناقضان وعليه أن أختار أحدهما : أهلي والسم . سأرجح أهلي على قناني السُّم .
رفع رأسه بتثاقل وكانت قطرات الدمع تلتمع في مقلتيه وقال متنهدا – كمن يطلب العون :
– يا لبؤسي وشقائي !
قام من مكانه منتفضا وعلامات العزم تبدو على ملامحه ، وقال بلهجة كلها صدق وحزم :
– أعاهد الله ثم أعاهدكم بأن أتوب توبة نصوحا ، ولن أرجع إلى أم الخبائث بعد اليوم أبدا ، ولن أذوق منها قطرة بإذن الله.
وأدخل يده في جيب سترته وأخرج منه زجاجة خمر أعطاها لأبنه "جميل" وقال :
– خذ هذه يا بني واكسرها ، فقد أنفقت ما معي لهذه الزجاجة بدلاً من أن أنفقه عليكم … اكسرها فلا أريد أن أراها ثانية.
اكسرها فلن يدخل هذا البيت بعد اليوم قطرة منها قط .. اكسرها.. أجل اكسرها وثق بأنك لن تراني سكراناً بعدها أبدا .
كاد "جميل" يطير فرحاً.. فأخذ الزجاجة و أسرع بها خارجا كالريح.. وهناك حطمها بكل ما أوتي من قوة ، وقال ضاحكاً :
– سحقاً لك ، فلن تُسكري والدي ثانية وتباً لك ألف تب .
ورجع إلى البيت فرأى والده يبكي ، و أمه واقفة بجواره وتقول له :
– لا عليك .. فكلنا سنساعدك ، سنفعل ما تحتاجه إلى ترك الخمر ، لا تحزن على ما فات وعش اليوم و تهيأة للغد .. سنكون كما كنا ، وسنعيش كلنا سعداء .
– أجل سنكون سعداء .. سنكون سعداء !
احتضن إبنه بذراعيه وضمه إلى صدره بحنان وقال :
– ستذهب إلى المدرسة ، لتواصل دراستك أما أنا فسأعمل بكل جهد وأبذل ما في وسعي ، وستنال أنت شهادة عالية ، وستصبح مهندساً أو طيبياً إن شاء الله. وأنا سأصبح والد الدكتور "جميل".. عدني على ذلك .. فماذا تقول ؟!
فأجهش "جميل" بالبكاء من شدة فرحته :
– نعم أعدك يا أبي ..أعدك!
وقال أبوه مؤكداً :
– وأنا أعدك يا ولدي بأنني سأترك الخمر إلى الأبد !
هكذا بدأت السعادة تبسط جناحيها عليهم بعدما كانت تنتظرهم على شوق أحرّ من الجمر ..
– الرجاء إدراج موضوع واحد فقط في اليوم.