حياكم الرحمن جميعا
اليوم أنقل لكم قصة حقيقية حدثت في السعودية
بطلها شاب في مقتبل العمر "مشعل العبد الله"
قرأتها وأراها تسحق النقل والقراءة
ملاحظة : القصة منقولة – بتصرف
.
– 1 –
كانت نهاية صيف ساخن. كانت بالنسبة لي مجرد سفر واستمتاع وحياة رغيدة مليئة بكل ترف الدنيا،
ولم أكن أعلم بأن المتعة القاتلة ستتسبب بمصيبة كبيرة علي!
كانت نهاية الصيف
عندما قررت أنا ومجموعة من رفقاء السوء الذهاب لمشاهدة بعض المتهورين وهم يقومون بالتفحيط.
لم أكن أنوي الذهاب، لكن القدر ساقني إلى هناك.
كان منتصف الليل تماما.
وقفت بين مجموعة من الشباب أشاهد ذلك المتهور وهو يلعب بالسيارة يمينا وشمالا.
تارة أصفق له، وتارة أصوره بالجوال،
وفي نهاية الأمر لم أجد نفسي سوى مرميا على الأرض والتراب والغبار حولي في كل مكان!
حاول أصدقائي تحريكي من الأرض لكنهم خافوا علي من أن أصاب بشلل أو أصابة بليغة.
أخبرتهم بأني بخير، لكني أشعر أن ساقي قد انكسرت!
وليتها انكسرت!
كانت مليئة بالدماء، ولم أكن أستطيع تحريكها!
وانتظرنا الإسعاف الذي أتى بعد نصف ساعة من النزيف المتواصل لقدمي.
كنت مرقدا على ظهري، ولم أكن أستطيع رؤية رجلي،
وذهبت إلى المستشفى وأنا بكامل وعيي. لم أفقد لحظة واحدة منه!
أحس بكل قطرة دم تنزف، وبكل ألم وتشنج.
كان عقابا من الله -عز وجل- لي أن أحس بكل تلك الآلام!
– 2 –
وعند وصولي إلى المستشفى وبقائي لمدة ساعتين ما بين فحوصات وأشعات ونزيف متواصل.
قرر الطبيب إجراء عملية عاجلة، ولابد لي من الموافقة!
وقال لي بأن ساقي قد تبتر بسبب العملية.
وافقت فورا،
وبقيت 6 ساعات في غرفة العمليات.
وخرجت منها الساعة الرابعة عصرا إلى غرفة العناية المركزة.
وجدت أهلي جميعهم حولي.
أبي أمي أخواني وأخواتي الصغار.
حاولت الجلوس بمساعدتهم،
وبعد جهد جهيد تمكنت من رؤية ساقي.
كانت أسياخ الحديد مثبتة فيها، ومغطاة بالجبس من أولها إلى آخرها!
لكنها كانت موجودة، ولم أكن أستطيع تحريكها!
وبقيت أسبوعا كاملا في العناية المركزة،
وزملائي الذين كانوا موجودين معي وقت الحادث أتوا للسلام علي ودموعهم في أعينهم.
كنت أطمئنهم بأني لازلت حيا أرزق، ولم أخسر شيئا،
ولم أكن أعلم بالذي يخبئه القدر لي،
وفي العناية المركزة كان هناك شاب سعودي -لا أذكر اسمه- يأتيني كل لحظة ويسألني عن حالتي وإذا كنت بحاجة إلى شيء!
فأجيبه بالنفي،
وكانت هناك ممرضة مصرية تسميني بالكابتن ماجد. كانت لطيفة لأبعد حد،
وفي أحد الأيام صرخت بها وقلت بأني لا أريد تناول المضاد الحيوي ذي الطعم المر
قالت لي: إذا أردت أن تخرج من المستشفى فلابد أن تأخذه،
فصرخت بها: لماذا لا تتركيني أنام بسلام كباقي المرضى النائمين هناك؟!
نظرت إلي وضحكت ثم قالت:
احمد الله أنك لست نائما مثلهم، فكل هؤلاء في غيبوبة عميقة!
وفي نهاية الأسبوع قرروا إرسالي إلى الرياض حيث العلاج الأفضل والرعاية الجيدة،
وجهزوا طائرة الإخلاء الطبي الخاصة بنقلي إلى هناك.
عند وصولي إلى الرياض وجدت أعمامي وعماتي وأبناءهم وبناتهم في استقبالي عند بوابة المستشفى،
وعرفت كم أنا غالي في عيون هؤلاء،
وفي المستشفى تم إبلاغي بالخبر الأليم.
الاستشاري قال لي بأنه لايوجد أي أمل في شفاء رجلي، وأن بترها شيء لابد منه.
قلت له:
ليست لدي مشكلة مع موضوع البتر لكن هل ستتوقف الآلام التي أحس بها؟!
– باستعمال الإبر المهدئة ستخف الآلام قليلا لكن آخر العلاج الكي.
– وهل سأبقى برجل واحدة طوال حياتي؟!
– لا. توجد أطراف صناعية ستساعدك على المشي والركض والسباحة و و و …
قاطعته قائلا:
كل هذا لا يهمني. أريد طرفا صناعيا يساعدني على المشي وقيادة السيارة،
ولا أريد أي شيء آخر من الدنيا.
قال لي بعطف:
لماذا أنت متشائم؟ صدقني ستعود لحياتك الأولى بدون أي فرق!
لكن سنتمهل أسبوع لعل وعسى أن تحدث معجزة من السماء.
ومضت الأيام.
تنازلت عن كل شيء لحظتها مقابل أن أقف على قدمي.
تنازلت عن السباحة والركض والرياضة والسفر
كل ذلك لكي أستطيع أن أعود إلى طبيعتي!
وفي كل يوم يأتي شيخ ويقرأ على رجلي، وشيخ آخر يرش من ماء زمزم عليها.
لم أكن أحس بها نهائيا، ولا أستطيع تحريكها أو حتى تحريك أصبع واحد،
وعشت أسوأ لحظات حياتي في هذا الأسبوع!
من الإبر المهدئة التي أدمنت عليها،
والزيارات المتواصلة التي لا تنقطع من الأهل،
وزملائي رفقاء السوء الذين انقطعوا عني،
والنوم الذي لم أكن أعثر عليه إلا بواسطة المهدئات والأبر،
ووزني الذي نقص كثيرا بسبب انعدام الأكل نهائيا!
ووصلنا إلى نهاية الأسبوع
وكانت البداية لحياة أخرى
– 3 –
كانت نهاية الأسبوع توافق يوم الجمعة، وكان أبي وأخي وأختي موجودين معي منذ الصباح الباكر.
أتى الدكتور لرؤيتي وهو يسأل عن حالتي، وقلت له: الحمد لله على كل حال.
وأتى نهاية الأسبوع …
– متى ستكون العملية يا دكتور؟
– اصبر وربك كريم.
وما أن خرج الدكتور من عندي حتى بدأت أحس بذلك الألم الفظيع الذي لم أحس به من قبل،
وقلت لأبي : استدعِ الدكتور بسرعة.
وبعدها بدأت أصاب بالعمى الجزئي!
كنت أغمض عيني وأفتحها، فلا أرى إلا الظلام الدامس.
أحاول وأحاول وأحاول، ولكني لم أكن أرى شيئا.
أحسست أنها نهايتي، فبدأت بالتشهد لعل وعسى أن أكون من أموات المسلمين وأنا تحت رحمة رب العالمين،
ومرت حياتي أمامي بسرعة البرق وأنا أعمى!
كنت أرى نفسي منذ الطفولة وحتى يوم الحادث.
كلها مرت بسرعة والناس حولي تصرخ وتبكي،
وعندما أتى الدكتور قام بسحب السرير وهو يستدعي الممرضات لدفعه بسرعة عاجلة بعد أن كشف عن ساقي،
ووجد تورم كبير فيها نتيجة نزيف داخلي،
وكان الدكتور جالسا بجواري فوق السرير والممرضات يدفعنه بسرعة شديدة باتجاه غرفة العمليات،
وأظلمت الدنيا في وجهي.
عندما أفقت وجدت نفسي في غرفتي وأهلي وأقاربي مجتمعين حولي،
وكانوا كلهم يقولون لي: الحمد لله على سلامتك.
لقد ظننت أني قد مت لكني تأكدت بأني حي بسبب وجود المحلول الطبي والإبر حولي.
لم أكن أعلم ما الأمر الغريب؟
لأن أهلي كلهم لم يجتمعوا سويا في غرفتي من قبل!
ولم أعر الموضوع اهتماما،
وذهبوا جميعا وارتحت في سريري بعد أخذي لإبرتي المهدئة وخلدت إلى نوم عميق،
وعندما أفقت في الصباح وجدت أبي جالسا عندي،
سألني: كيف حالك الآن؟
– بخير.
كان عابسا ومكتئبا. لاشك وأن الدكتور قد حدد موعد العملية.
سألت أبي: لقد مر أكثر من أسبوع ولم يعطني الدكتور خبرا بخصوص موعد العملية؟
– أي عملية؟
– عملية البتر طبعا.
سكت أبي لبرهة، ولم يرد علي …
بعدها نزلت دمعة ساخنة من عينيه، وأجاب بأنهم قد انتهوا من الموضوع!!
ماذا؟!! كيف؟ وأين؟ ومتى؟!!!
عمليات عمليات عمليات
المكان : مدينة الرياض – مستشفى الحرس الوطني
التاريخ: 2 / 8 / 1445 هـ
الزمان : الرابعة عصرا
– 4 –
لا يمكن! مستحيل! معقول؟!
انتهوا من الموضوع. لاشك وأني أحلم!
كيف انتهوا من الموضوع؟!
رجلي موجودة. إني أراها أمامي.
لاشك وأني أحلم. لا يمكن أن يكون ما سمعته صحيح!
رددت على أبي وقلت:
انتهوا من ماذا؟! رجلي موجودة إنها تحت الغطاء.
أنا أحس بها!
لم يرد علي أبي. إنما أشاح بوجهه بعيدا عني.
وقتها عزمت على التأكد بنفسي.
لقد شككت بأن إحساسي يخدعني، فأنا أحس بأن قدمي موجودة. بل وأستطيع تحريكها أيضا،
ورفعت الغطاء، وبدأت أنظر.
شيء غريب! رجلي مبتورة فعلا. إني لا أرى سوى منتصف الساق ثم لايوجد شيء!
ولكن الإحساس موجود.
أحس بأنها تقرصني!
وأحس بأنها تتحرك،
ولكن لا يوجد شيء!
كانت كالصورة الناقصة!
ووضعوا لي مشدا يساعد الركبة على أن تبقى مستقيمة حتى لا تنثني،
وبعدها جاء الاستشاري الدكتور عبدالعزيز العماري
وقال لي: كيف حالك الآن يا ولدي؟
– رجلي تقرصني كثيرا يا دكتور، وأحس كأنها موجودة ولم تبتر!
– هذا شيء طبيعي، واسمه الطيف الخيالي. إن رجلك اتصلت بجسمك سنين طويلة، وعند فصلها فجأة لم يعتد الجسم بعد على عدم وجودها حتى يرسل
إشارات عصبية إليها، وعندما لا يجد إجابة سيعرف أن ذلك العضو غير موجود.
– الآن فهمت. إذن هذا شعور طبيعي!
وبدأت أسئلتي:
– ماذا حدث يا دكتور؟ وكيف بترتوها؟ هل بترتموها بمنشار؟!
كان الوضع لدي أكثر من طبيعي. لم يكن هناك شيء يضايقني أو يجعلني حزينا،
فأنا أكثر إنسان أؤمن بالقضاء والقدر، وبأن ما حصل لي شيء ومقدر من رب العالمين، بل أزداد سعادة عندما أعلم أنه ابتلاء من الله.
وبدأت الزيارات، وبدأت الحشود بالتوافد علي، ولم أكن أستطيع التحرك من الفراش أو تحريك ساقي نهائيا بأمر من الدكتور،
وذلك لأن المستشفى الأول قد أزال حوالي 70% من جلد الساق خلال محاولة إعادة توصيل الأوعية الدموية،
وانتهى عمل استشاري الجراحة والعظام، وبدأ عمل استشاري التجميل، وهنا عاد العذاب من جديد.
قرروا بأنه لابد من أخذ رقعة جلدية من الفخذ الأيسر ووضعها في الساق اليمنى لتغطيتها!
طبعا وافقت فليس هناك خيار آخر، وبدأنا العملية الأولى
واستغرقت 8 ساعات
تم قطع طبقة رقيقة من الفخذ الأيسر ووضعه في الساق اليمنى ثم لفه بالضماد،
وعندما عدت إلى غرفتي بدأت بالانهيار!
في السابق كنت أستطيع النوم على جانبي الأيمن وتحريك رجلي اليسرى، أما الآن فصرت أنام على ظهري دون تحريك أي من أرجلي كالمشلول تماما،
وعندما أقوم بتحريك رجلي اليسرى ولو قليلا أحس بآلام فظيعة بسبب عدم وجود الجلد. كان اللحم يحتك ببعضه بعضا
وبدأت بالانهيار جزئيا!
وصادف ذلك انتقالي إلى غرفة أخرى ضيقة غير التي كنت فيها، وكانت حالتي النفسية سيئة للغاية!
وبينما كنت أنقل إلى الغرفة الجديدة أتى أحد أبناء عمتي لزيارتي وقد كان خارج المملكة ولم يكن يعلم بما أصابني،
وعندما أتى تعطل السرير الكهربائي الذي كنت عليه،
وطلبوا مهندسا ليصلحه وأتى شاب سعودي لإصلاح السرير، وبينما هو يعمل كنت أحكي قصتي لابن عمتي وأنا متضايق
وأحس بآلام فظيعة في رجلي اليسرى،
وعندما انتهى الشاب من إصلاح السرير قال لي:
اعذرني على المقاطعة لكني استمعت لحديثكم وأريد أن أقول لك شيئا.
– تفضل.
– يوجد قسم في المستشفى يسمى العناية الطويلة يضعون فيه الأشخاص الميؤوسة حالتهم ولا أمل في علاجهم إلى أن يموتوا، وقد تعرفت على شاب هناك كان لديه من الإرادة
والعزيمة الشيء الكثير،
وكان مصابا بشلل نصفي وضعف عام في العضلات!
وكان إذا أراد الاتصال بالجوال يتصل باستخدام عظمة الرسغ الموجودة في الساعد للضغط على الأرقام!
سمعت ذلك! صدمت وذهلت! وحمدت الله على ما أنا فيه وأن الذي بي شيء من لا شيء!
وأعجبت بالشاب وطلبت منه الجلوس لكنه اعتذر لأشغاله، ووعدني بزيارة أخرى،
ونمت ذلك اليوم مرتاحا في انتظار العملية في الصباح.
طبعا كما تعرفون لابد من الانقطاع عن الأكل والشراب مدة لا تقل عن 8 ساعات
ودائما يعدونني بأن أدخل العملية في الصباح ولا أدخل غرفة العمليات إلا عصرا.
لقد قمت بـ 23 عملية ترقيع وتجميل وتنظيف للجرح حتى توقفت العمليات وأصبحوا يضعون الغيار لي في غرفتي. طلبت مرة من الدكتور أن أنظر إلى رجلي.
فقال لي: إن شكلها مفزع قليلا لكنها ستتحسن وسيصبح شكلها أفضل.
وكانت النظرة الأولى بعد البتر!
النظرة الأولى التي أرى فيها رجلي بدون أسياخ أو مسامير أو حتى ضماد.
كانت مفلطحة ومحمرة ورقعة الجلد واضحة وضوح الشمس.
سألته: هل ستبقى هكذا طوال العمر؟
– سيتحسن شكلها لكنها لن تكون مثل السابق.
إلى الآن -كما ترون- لم أخبركم بأني بكيت أو نزلت دمعة من عيني أو حتى تضايقت.
كل شيء عندي كان طبيعيا إلى أبعد حد
حتى أتى ذلك اليوم الذي انتهت فيه العمليات وعمليات الغيار، وأصبح الغيار شيئا عاديا أقوم به بنفسي بدون مساعدة
كان يوما كباقي الأيام.
طلبت من الطبيب أن أفك المشد الذي يبقي ركبتي مستقيمة لأنه يتعبني في النوم، فقال لي: لا مشكلة لكن ضعه عندما تستيقظ من النوم.
فتحت المشد، وبقيت أنظر إلى ساقي وهي ملفوفة بالضماد.
وأخذت أنظر وأنظر وأنظر وأفكر وأفكر وأفكر.
وذهبت بي الأفكار بعيدا…
قلت لنفسي: إن الباقي من الساق شيء قصير جدا، وبالتأكيد لا يصلح لتركيب طرف صناعي.
أخذت الفكرة تدور في رأسي وبدأت أحس بأني سأقف بساق واحدة طول عمري.
جربت الوقوف، وتمكنت من الوقوف بتوازن ضئيل،
وذهبت إلى الواجهة الزجاجية التي أرى منها الحديقة وأخذت أنظر إلى نفسي وأنا أقف برجل واحدة.
كان منظري بشعا!!
عدت إلى السرير وأخذت دموعي تنزل في صمت.
دموع حارة. لم أبكِ من قبل مثلما بكيت ذلك اليوم.
دخلت علي إحدى الممرضات وعندما شاهدتني أبكي ظنت أن بي ألماً ما. وسألتني: هل بك شيء؟
فلم أجب، فاستدعت الدكتور الذي أتى وشاهد حالتي هكذا وطلب إبرة مسكنة، وأخذتها ونمت.
– 5 –
صحوت في اليوم التالي
وكانت حالتي النفسية على مايرام وكأن شيئا لم يكن،
وبدأ أحد الأطباء في زيارتي، وقال لي:
– لا يوجد لدينا قسم للعلاج الطبيعي، ولابد من تحويلك إلى مستشفى آخر.
– أقترح علي مستشفى.
– لا أعرف مستشفى متخصص في العلاج الطبيعي للمبتورين.
فطلبت الاستشاري عبدالعزيز العماري الذي أتى وأفادني بأن مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية هي الأفضل في الشرق الأوسط فوافقت على الفور،
ولكنها مدينة خاصة لابد من دفع رسوم العلاج أو الحصول على أمر علاج يتكفل بدفعه أحد أصحاب السمو الأمراء،
وبدأت في العمل على هذا الموضوع وقمت بالعديد من الاتصالات حتى تمكنت من الحصول على أمر بالعلاج من سيدي صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلطان -حفظه الله-
وحين انتصف شهر رمضان طلب المستشفى مني
الخروج حتى يستفيد شخص آخر من السرير فرفضت الخروج حتى يأتي الفريق.
وأتى الفريق ورأوا حالتي وكتبوا التقرير وقالوا لي: سنتصل بك قريبا.
وقتها طلبت الخروج من المستشفى الذي كان كالفندق. لدي
غرفة خاصة وحمام خاص وتلفاز خاص وبلاي ستيشن وكمبيوتر محمول. كل شيء كان موفرا لي!
خرجت في آخر يوم من شهر رمضان المبارك وذهبت إلى المدينة عند أهلي.
خرجت من المستشفى على مشاية (Walker)
وكان المشي بها صعبا
وحالما وصلت إلى البيت اتصلت بزملائي وطلبت منهم زيارتي حيث أني في البيت،
وأتوا لزيارتي. كانوا ساكتين ومحرجين من الحديث معي، ولكني كنت طبيعيا لأبعد الحدود. أضحك وكأن شيئا لم يكن!
وبعدها تهامسوا فيما بينهم بأنهم يرغبوا في شراء عشاء لي ويأتون به إلى البيت لأنهم يرون أن خروجي من البيت صعب نوعا ما.
قلت لهم : هل تظنون بأني لن أخرج معكم؟ أنتم تحلمون. هذا البتر الذي في رجلي لم ولن يغير شيئا من طباعي وعاداتي أبدا أبدا. انتظروا قليلا.
دخلت إلى غرفتي وارتديت بنطلون جينز وتي شيرت أسود وحذاء رياضيا في ساق واحدة فقط! والساق الأخرى معلقة في الهواء! وقلت لأبي :
أنا ذاهب لتناول العشاء مع زملائي.
نظر إلي أبي وقال : لماذا لا ترتدي ثوبا واسعا أفضل من هذا؟
– أنا حر أرتدي ما يعجبني ولا يهمني كلام الناس ولا نظراتهم!
وخرجت وذهبت مع زملائي وتناولنا العشاء في هارديز والناس يجلسون حولي وينظرون إلي باستغراب وفضول،
وأنا لا تهمني نظراتهم!
وعدت إلى البيت وطلبت منهم أن نخرج سويا كل يوم كما كنا نفعل سابقا.
في اليوم التالي كان يوم العيد ولبست الثوب والشماغ وبقيت في المجلس أستقبل الضيوف والزوار وكأن شيئا لم يكن وكلهم يحمدون لي بالسلامة.
لم أهتم بنظراتهم ولا إلى استغراب أبنائهم،
وصرت أذهب إلى الأسواق وأتمشى ولا يمنعوني من الدخول كوني معاقا وأشاهد الناس والعالم كأي إنسان طبيعي ومشايتي تصدر صوتا يجذب الأنظار! وأنا… لا أهتم!
وانتهى شهر شوال وذي القعدة وأنا على هذا المنوال. أخرج وأذهب وأعود كما لو أني طبيعي لا ينقصني شيء! وزاد ذلك أن أبي تفهم وضعي ولم يحاول
مضايقتي بخصوص خروجي أو ملابسي.
وفي بداية ذي القعدة جاءني اتصال
وكانت تلك هي البداية.
البداية لحياة أخرى.
– 6 –
في صباح ذلك اليوم جاءني ذلك الاتصال. كان رقما غريبا ومميزا من الرياض.
شككت في أول الأمر، وكانت شكوكي على حق.
كان المتصل هو أحمد الحفظي من علاقات المرضى من مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية.
أخبرني بأنه علي المراجعة بتاريخ السابع من ذي القعدة لتحديد نوعية العلاج عند الدكتور، فأخبرته بأني سأكون موجودا -بإذن الله-، وأقفلت الخط.
أحسست براحة عجيبة، أخيرا وبعد طول انتظار حان الوقت لبدء العلاج.
ومر الأسبوع سريعا، وحجزت على رحلة الرياض قبلها بيوم، لي ولوالدي، وخلال الأسبوع أخبرني أحد الأصدقاء بأنني قد لا أضطر للنوم في المستشفى لأن علاجي قد يكون مجرد جلسات.
فتضايقت في أول الأمر، فأنا أريد أن أنام في المستشفى حتى يسهل علي أمر السكن.
ووصلت إلى الرياض واستأجرنا سيارة وحجزنا في إحدى الشقق القريبة من المستشفى،
ولم أنم تلك الليلة. لا أعلم لماذا؟ هل هي الرهبة؟ أم هو الخوف؟ أم هو الحماس للبدء في العلاج؟
وأتى الصباح وأخذنا بعض الإفطار واتجهنا إلى المستشفى،
ووصلنا إلى البوابة وأخبرناهم بأن لدينا موعدا فطلبوا منا التوجه لمبنى العيادات الرئيسية،
ووصلت عند المبنى وفتح لي أحد العاملين الباب وجلب كرسيا متحركا، وعندما رأيت الكرسي أحسست بالفرق.
كان كرسي أسود ذا إطارات سوداء ومطبوع عليه من الخلف (مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية).
كان شكله مميزا وفخما، ودخلت مبنى العيادات، ووجدت نافورة مبنية على شكل شعار المدينة (سأسميها من الآن المدينة) وفوقها صورة سيدي ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز
-حفظه الله- منظر رائع!
ودخلت إلى العيادة وهناك التقيت بالدكتور عبدالله ربابعه وهو استشاري العلاج الطبيعي بالمدينة، وبعد رؤية حالتي وقراءة التقارير قرر بأن علاجي سيكون على مدى شهرين أكون فيها منوما في المستشفى، وفي نهاية الشهرين سأخرج بالطرف الصناعي -بإذن الله-.
ارتحت كثيرا عندما علمت بأني سأنام في المستشفى.
وذهبنا إلى الغرفة.
مدينة سلطان بن عبدالعزيز مقسمة إلى 8 مباني،
وخلال ذهابي إلى مبنى 3 (حيث تقرر تنويمي) ذهبت بواسطة الجسر الذي يمر من فوق الحديقة الخضراء والنوافير والأنهار المائية الصناعية. كانت بالفعل جنة الله في أرضه ومنظر خلاب يأسر الروح.
وعند وصولي إلى الغرفة وجدت أني في فندق خمسة نجوم. أريكة مريحة، دولاب خشبي، سرير، تلفاز به العديد من القنوات، وحمام مجهز للمعاقين به كرسي للاستحمام. هذا بالإضافة إلى ديكور وألوان الغرفة التي تريح النفس.
وما أن جلسنا أنا وأبي في الغرفة حتى أتانا طعام الغداء، وكان شهيا لأبعد حد، وبعدها طلب أبي أن يذهب ليزور عمتي وبقيت لوحدي في الغرفة،
وجاء الدكتور المسؤول عن علاجي وهو نامق الخطيب وتفحص إصابتي وقال إني بإذن الله سأخرج من المستشفى وستكون خطة علاجي بدون تعقيدات،
وعندما خرج بقيت في غرفتي واسترخيت قليلا أتابع التلفاز. عندها طرق الباب طرقة غريبة، فتوقعت أنه أبي، ووجدت أمامي ذلك الوجه الذي لن أنساه ما حييت!
كانت تلك إخصائيتي رباب المسؤولة عن علاجي الطبيعي والتي أخذت تعاملني كما لو أني أخاها الصغير، وسعدت جدا بمقابلة هذه الإنسانة التي ستكون خطوتي الأولى للعودة إلى الحياة، وبدأت تسألني وتناقشني حول إصابتي، وأعطتني كتيبا إرشاديا حول الأطراف الصناعية وطريقتها وقالت لي بأنه قد تكون هنالك مشكلة، وهي أن البتر كان به خطأ وعليهم أن يقوموا بتصحيحه بعملية.
– لا مشكلة، فأنا أحب العمليات!
واستغربت ردي، فأخبرتها بأني قمت بـ 23 عملية ولن يضرني عملية أخرى.
– لابد من مناقشة الدكتور حول العملية، وهو الذي سيقرر موضوع العملية.
وأعطتني جدولا عن جلسات العلاج الطبيعي.
ونمت في ذلك اليوم وأنا سعيد بهذه المدينة التي أحس بأنها ستغير من حياتي، وكم كنت محقا!
– 7 –
في اليوم التالي تعرفت على الطاقم المسؤول عن علاجي ومتابعة حالتي، وكانوا أناسا في غاية اللطف ومتفانين في عملهم.
طبعا لابد من وجود أخصائي نفسي لعلاج المشاكل النفسية للمرضى ومن هذا المنطلق كان لي موعد مع أخصائيتي النفسية التي تفاجأت من نفسيتي التي لا تحتاج إلى علاج وذلك لقوة إيماني بالله وعزيمتي القوية، وأصبحت جلساتنا مجرد استشارات في أمور كثيرة.
في بدايات العلاج لم أكن ألتزم بمواعيد الجلسات وذلك بسبب نومي، حيث أني اعتدت السهر لساعات متأخرة وقد أغيب أحيانا، مما ضايق رباب كثيرا، ودائما ما توبخني بأدب.
كنت أحس بتأنيب الضمير وأحاول تعديل مواعيد نومي حتى تمكنت من ذلك، وأصبحت ملتزما بالعلاج،
وطوال بقائي في المدينة وأنا أسأل عن موعد تركيب الطرف الصناعي. كنت متحمسا ومتعاونا معهم.
وبعد أن ناقشت رباب الدكتور نامق قرروا أن يجربوا طرفا صناعيا علي وإذا فشلوا فسيحددوا موعد العملية.
كان الشباب كلما شاهدوا عزيمتي وإصراري في التمارين قالوا بأني سأخرج من المستشفى سريعا ولن يكون هناك أي مشاكل مع الطرف الصناعي.
ومرت الأيام سريعا وأتى الموعد المنتظر. في عيادة الأطراف الصناعية حيث سأجرب أول طرف صناعي لي،
وذهبت معي رباب إلى الموعد وجربت الطرف. كان الوقوف صعبا ومؤلما، فطلبت مني رباب عدم المشي بالطرف نهائيا والاكتفاء بلبسه وخلعه كل 4 ساعات،
واستمريت على ذلك، وصادف عودة أبي إلى الرياض حيث أتى إلى المستشفى وشاهدني بالطرف وسعد كثيرا،
ثم اتصلت بزملائي وهاتفت أمي وبشرتهم وسعدوا كثيرا، ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن!
لقد وجدت أن الموضوع مؤلم جدا، فطلبت مني رباب التوقف عن لبس الطرف ومحادثة الدكتور حول العملية، وتمت الموافقة على العملية، وطلبت مني رباب تسليم الطرف لهم، فاستأذنتها أن تسمح لي بلبسه ساعة واحدة فقط، حيث أني أنوي الذهاب مع الموظفين إلى الكافتيريا للغداء سويا ووافقت بشرط ألا أمشي به وأن أستخدم العكازين أو الكرسي المتحرك.
وأتى موعد الذهاب للكافتيريا. لبست بنطلون الجينز الطويل والحذاء الجميل وتحملت آلامي ومشيت بعكاز واحد حتى أحس ولو لمرة واحدة أني شخص طبيعي،
وفرح الشباب عندما شاهدوني هكذا، لكن حين
شاهدتني رباب غضبت مني كثيرا وأخذت الطرف ومنعتني من حضور التمارين.
بعدها ذهبت إليها في المكتب وتأسفت وقلت لها بأنه من سعادتي الغامرة تحملت الألم ومشيت بالطرف.
فقالت لي: نحن لا نريد أن تتدهور صحتك أكثر. صدقني ستعود كما كنت بالسابق، وسأعمل معك على ذلك.
وتحدد موعد العملية، ولم أخبر أبي عنها حتى لا يأتي ويكلف نفسه أعباء السفر خاصة أن العملية بسيطة ولن تأخذ وقتا طويلا،
واتصلت به قبل ساعتين من العملية وقلت له بأني سأدخل إلى غرفة العمليات فغضب وتضايق كثيرا مني لأني لم أخبره فقلت له بأن الموضوع بسيط ولا يحتاج إلى وجودك. فدعا لي بالتوفيق.
وذهبت إلى غرفة العمليات في الساعه الرابعة عصرا، وأخذت في الحديث مع طبيب التخدير فطلب مني الجلوس ووضع المخدة في حجري، وكان ذلك آخر ما أتذكره.
وبعد أن انتهت العملية واستيقظت طلبت من الدكتور أن يريني العظمة التي قصها! فأحضرها لي وقلت: هذا هو التذكار الوحيد الذي بقي من رجلي التي ذهبت!
وخلدت إلى نوم عميق.
– 8 –
عندما استيقظت أتت إحدى الممرضات وقالت لي إن رباب تنتظرني في صالة التمارين لبدء العلاج، فقلت لها بأني لا أستطيع الحركة من السرير ولا أريد علاجا اليوم!
فأتت رباب وقالت لي: إلى متى تريد البقاء في السرير؟ اجلس على الكرسي المتحرك واذهب إلى الصالة للتمارين. لا يوجد وقت للعب.
– ارحميني، لقد خرجت من غرفة العمليات منذ فترة وجيزة وأنا لا أستطيع أن أتحرك من على السرير.
– إذن تمارينك ستكون على السرير.
وبدأنا بعض التمارين لتقوية العضلات. لقد كانت حريصة جدا على القيام بواجباتهم على أتم وجه.
طبعا كانت نفسيتي على مايرام، فلم أتضايق أو أتعب من هذه المدينة، فمن حولي هنا رائعون بحق!
وبعدها جاءت إجازة الحج، وحسب نظام المستشفى فهو لا يسمح للمرضى بالخروج أكثر من ثلاثة أيام وهي الأربعاء والخميس والجمعة.
فأخبرت الدكتور رغبتي في السفر إلى أهلي بالمدينة المنورة، وأحتاج إلى إجازة لمدة أسبوعين على الأقل، لكنه لم يعطني أكثر من أسبوع فوافقت، وأتى أبي وأهلي الذين حزنوا كثيرا عندما علموا بأنهم قد أخذوا الطرف الصناعي مني.
وعدت إلى المدينة المنورة وأنا في صحة أفضل وحركة أقوى وجسم رائع بعد التمارين وجلسات العلاج، وخرجت مع زملائي الذين حزنوا أيضا لنفس السبب فقد أرادوا رؤيتي بالطرف فقلت لهم: إن شاء الله في المرة القادمة ولن تروا هذه العكاكيز مرة أخرى.
وصدق ظني وانتهى العيد، وحان موعد العودة إلى المستشفى، وبدأت رحلة أخرى من رحلات العلاج
أو كما أسميها
رحلة العودة إلى الحياة!
التاريخ : 13 / 12 / 1445 هـ
المكان : مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية
الزمان : بعد عيد الأضحى مباشرة من عام 1445 هـ
– 9 –
انتهى العيد بلا أحداث كثيرة. الفرق الوحيد هو عدم تمكني من مساعدة أبي في التعامل مع الأضاحي واكتفائي بالجلوس والمشاهدة. كان شعورا سيئا لكني تحملته على أي حال.
وحان موعد ذهابي إلى الرياض، وقررت عائلتي كاملة مرافقتي إلى هناك بالسيارة. كانت مسافة طويلة ولكنها رحلة ممتعة بصحبة الأهل،
وما أن اقتربت من المدينة حتى طلبت من أبي التوقف هناك وإنزالي فيها. حاول أهلي منعي من ذلك لكني رفضت.
اشتقت إلى تلك المدينة وحدائقها وإلى غرفتي الجميلة. اشتقت إلى جلسات العلاج واشتقت أكثر وأكثر إلى طرفي الصناعي الذي بقي في الغرفة ينتظرني حتى أعود إليه.
عدت إلى غرفتي وبقيت وحدي. كان المستشفى هادئا جدا، وأخذت أنظر إلى طرفي الصناعي وتذكرت بداياتي معه. كانت بداية سيئة لكن كانت كما يقولون: (لكل جواد كبوة). ربما كانت تلك مجرد عقبة في أول المشوار ولكنها ستزول بإذن الله.
نمت في فراشي واستيقظت مبكرا، ووجدت الجدول وطعام الإفطار بجانبي. أخذت أتناول إفطاري وبعدها توجهت إلى الصالة لبدء جلسة العلاج.
كانت رباب هناك بانتظاري، ولامتني بشدة لعدم قيامي بالتمارين في البيت، فقلت لها: التمارين ورائي ورائي حتى في الإجازة؟ ارحميني لأن الإجازة للراحة لا للشقاء!
– إذا أردت أن ترتاح وترجع مثل السابق يجب عليك أن تسمع كلامي.
– لا يوجد شيء يرجع مثل السابق! لكن الشيء المهم الذي أود أن أسألك عنه هو… هل سيكون في مشيتي عرج؟
– إذا سمعت كلامي وطبقت تعليماتي لن يكون عندك عرج -بإذن الله-.
أحسست براحة عجيبة لهذا الكلام.
– حسنا. ماذا عن الطرف يا رباب؟ متى سأستطيع استخدامه مرة أخرى؟
– تحتاج إلى شهر كامل من العلاج قبل أن تعاود استخدامه حتى تبرأ جروح العملية.
– شهر كامل! فترة طويلة وقد اقترب موعد الدراسة. ماذا أفعل؟ لا أريد الاعتذار عن الفصل الدراسي، ولن يوافق أبي أن أعود إلى الدراسة، وربما لن تسمح لي المدينة بالخروج للدراسة! ما الحل؟!