وغالب السور المدنية يكون فيها تفصيل أكثر من السور المكية؛ ويكون التفصيل فيها في فروع الإسلام دون أصوله؛ وتكون غالباً أقل شدة في الزجر، والوعظ، والوعيد؛ لأنها تخاطب قوماً كانوا مؤمنين موحدين قائمين بأصول الدين، ولم يبق إلا أن تُبَيَّن لهم فروع الدين ليعملوا بها؛ وتكون غالباً أطول آيات من السور المكية..
بسم الله الرحمن الرحيم
الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ
قوله تعالى: { الم } حروف هجائية: ثلاثة أحرف: ألِف، ولام، وميم؛ تقرأ لا على حسب الكتابة: "أَلَمْ"؛ ولكن على حسب اسم الحرف: "ألِفْ لامْ ميمْ"..
هذه الحروف الهجائية اختلف العلماء فيها، وفي الحكمة منها على أقوال كثيرة يمكن حصرها في أربعة أقوال
القول الأول: أن لها معنًى؛ واختلف أصحاب هذا القول في تعيينه: هل هو اسم لله عزّ وجلّ؛ أو اسم للسورة؛ أو أنه إشارة إلى مدة هذه الأمة؛ أو نحو ذلك؟
القول الثاني: هي حروف هجائية ليس لها معنًى إطلاقاً..
القول الثالث: لها معنًى الله أعلم به؛ فنجزم بأن لها معنًى؛ ولكن الله أعلم به؛ لأنهم يقولون: إن القرآن لا يمكن أن ينزل إلا بمعنى..
القول الرابع: التوقف، وألا نزيد على تلاوتها؛ ونقول: الله أعلم: أَلَها معنًى، أم لا؛ وإذا كان لها معنًى فلا ندري ما هو..
وأصح الأقوال فيها القول الثاني؛ وهو أنها حروف هجائية ليس لها معنًى على الإطلاق؛ وهذا مروي عن مجاهد؛ وحجة هذا القول: أن القرآن نزل بلغة العرب؛ وهذه الحروف ليس لها معنًى في اللغة العربية، مثل ما تقول: ألِف؛ باء؛ تاء؛ ثاء؛ جيم؛ حاء…؛ فهي كذلك حروف هجائية..
أما كونه تعالى اختار هذا الحرف دون غيره، ورتبها هذا الترتيب فهذا ما لا علم لنا به..
هذا بالنسبة لذات هذه الحروف؛ أما بالنسبة للحكمة منها فعلى قول من يعين لها معنًى فإن الحكمة منها: الدلالة على ذلك المعنى . مثل غيرها مما في القرآن..
وأما على قول من يقول: "ليس لها معنًى"؛ أو: "لها معنًى الله أعلم به"؛ أو: "يجب علينا أن نتوقف" فإن الحكمة عند هؤلاء على أرجح الأقوال . وهو الذي اختاره ابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره تلميذه الحافظ الذهبي، وجمع كثير من أهل العلم . هو الإشارة إلى بيان إعجاز القرآن العظيم، وأن هذا القرآن لم يأتِ بكلمات، أو بحروف خارجة عن نطاق البشر؛ وإنما هو من الحروف التي لا تعدو ما يتكلم به البشر؛ ومع ذلك فقد أعجزهم..
فهذا أبين في الإعجاز؛ لأنه لو كان في القرآن حروف أخرى لا يتكلم الناس بها لم يكن الإعجاز في ذلك واقعاً؛ لكنه بنفس الحروف التي يتكلم بها الناس . ومع هذا فقد أعجزهم .؛ فالحكمة منها ظهور إعجاز القرآن الكريم في أبلغ ما يكون من العبارة؛ قالوا: ويدل على ذلك أنه ما من سورة افتتحت بهذه الحروف إلا وللقرآن فيها ذكر؛ إلا بعض السور القليلة لم يذكر فيها القرآن؛ لكن ذُكر ما كان من خصائص القرآن:.
فمثلاً قوله تعالى: {كهيعص} [مريم: 1] ليس بعدها ذكر للقرآن؛ ولكن جاء في السورة خاصية من خصائص القرآن . وهي ذِكر قصص من كان قبلنا .: {ذكر رحمت ربك عبده زكريا…} (مريم: 2)
كذلك في سورة الروم قال تعالى في أولها: {الم * غلبت الروم} [الروم: 1، 2] ؛ فهذا الموضع أيضاً ليس فيه ذكر للقرآن؛ ولكن في السورة ذكر شيء من خصائص القرآن . وهو الإخبار عن المستقبل .: {غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} [الروم: 2 . 4)
وكذلك أيضاً قوله تعالى: {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 1، 2] ليس فيها ذكر القرآن؛ ولكن فيها شيء من القصص الذي هو أحد خصائص القرآن: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا…} (العنكبوت: 3)
فهذا القول الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره جمع من أهل العلم هو الراجح: أن الحكمة من هذا ظهور إعجاز القرآن في أبلغ صوره، حيث إن القرآن لم يأتِ بجديد من الحروف؛ ومع ذلك فإن أهل اللغة العربية عجزوا عن معارضته وهم البلغاء الفصحاء..
وقال بعضهم: إن الحكمة منها تنشيط السامعين؛ فإذا تلي القرآن، وقرئ قوله تعالى: { الم } كأنه تعالى يقول: أنصتوا؛ وذلك لأجل المشركين . حتى ينصتوا له …
ولكن هذا القول فيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لكان هذا في كل السور؛ مع أن أكثر السور غير مبتدئ بمثل هذه الحروف؛ وأيضاً لو كان كذلك ما صارت في السور المدنية . مثل سورة البقرة .؛ لأن السور المدنية ليس فيها أحد يلغو في القرآن؛ فالصواب أن الحكمة من ذلك هو ظهور إعجاز القرآن..
قوله تعالى: { ذلك الكتاب }: "ذا" اسم إشارة؛ واللام للبعد؛ فإذا كان المشار إليه بعيداً تأتي بهذه اللام التي نسميها "لام البعد"؛ أما الكاف فهي للخطاب؛ وهذه الكاف فيها ثلاث لغات:.
الأولى: مراعاة المخاطب؛ فإن كان مفرداً مذكراً فُتِحت؛ وإن كان مفرداً مؤنثاً كُسِرت، وإن كان مثنى قرنت بالميم، والألف: "ذلكما" ؛ وإن كان جمعاً مذكراً قرنت بالميم: "ذلكم"؛ وإن كان جمعاً مؤنثاً قرنت بالنون المشددة: "ذلكنَّ"؛ وهذه هي اللغة الفصحى..
اللغة الثانية: لزوم الفتح والإفراد مطلقاً، سواء خاطبت مذكراً، أو مؤنثاً، أو مثنى، أو جمعاً؛ فتقول للرجل: "ذلكَ" ؛ وللمرأة: "ذلكَ"؛ وللاثنين: "ذلكَ"؛ وللجماعة: "ذلكَ"..
اللغة الثالثة: أن تكون بالإفراد سواء كان المخاطب واحداً، أم أكثر . مفتوحة في المذكر مكسورة في المؤنث.؛ فتقول: "ذلكَ" إذا كان المخاطب مذكراً؛ وتقول: "ذلكِ" إذا كان مؤنثاً..
والخطاب في قوله تعالى: { ذلك } لكل مخاطب يصح أن يوجه إليه الخطاب؛ والمعنى: ذلك أيها الإنسان المخاطَب..
والمراد بـ{ الكتاب } القرآن؛ و{ الكتاب } بمعنى المكتوب؛ لأن "فِعال" كما تأتي مصدراً . مثل: قتال، ونضال . تأتي كذلك بمعنى اسم مفعول، مثل: بناء بمعنى مبني؛ وغراس بمعنى مغروس؛ فكذلك "كتاب" بمعنى مكتوب؛ فهو مكتوب عند الله؛ وهو أيضاً مكتوب بالصحف المكرمة، كما قال تعالى: {في صحف مكرمة * مرفوعة مطهَّرة * بأيدي سفرة} [عبس: 13 . 15] ؛ وهو مكتوب في الصحف التي بين أيدي الناس؛ وأشار إليه بأداة البعيد لعلوّ منزلته؛ لأنه أشرف كتاب، وأعظم كتاب..
قوله تعالى: { لا ريب فيه هدًى للمتقين }: أهل النحو يقولون: إنّ { لا } هنا نافية للجنس؛ و{ ريب } اسمها مبني على الفتح؛ لأنه مركب معها؛ فهي في محل نصب؛ ويقولون: إنّ { لا } النافية للجنس تفيد العموم في أقصى غايته . يعني تدل على العموم المطلق .، فتشمل القليل، والكثير؛ فإذاً القرآن ليس فيه ريب لا قليل، ولا كثير..
و "الريب" هو الشك؛ ولكن ليس مطلق الشك؛ بل الشك المصحوب بقلق لقوة الداعي الموجب للشك؛ أو لأن النفس لا تطمئن لهذا الشك؛ فهي قلقة منه . بخلاف مطلق الشك .؛ ولهذا من فسّر الريب بالشك فهذا تفسير تقريبي؛ لأن بينهما فرقاً..
والنفي هنا على بابه؛ فالجملة خبرية؛ هذا هو الراجح؛ وقيل: إنه بمعنى النهي . أي لا ترتابوا فيه .؛ والأول أبلغ؛ فإن قال قائل: ما وجه رجحانه؟
فالجواب: أن هذا ينبني على قاعدة هامة في فهم وتفسير القرآن: وهي أنه يجب علينا إجراء القرآن على ظاهره، وأن لا نصرفه عن الظاهر إلا بدليل، مثل قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] ، فهذه الآية ظاهرها خبر؛ لكن المراد بها الأمر؛ لأنه قد لا تتربص المطلقة؛ فما دمت تريد تفسير القرآن الكريم فيجب عليك أن تجريه على ظاهره إلا ما دلّ الدليل على خلافه؛ وذلك؛ لأن المفسر للقرآن شاهد على الله بأنه أراد به كذا، وكذا؛ وأنت لو فسّرت كلام بشر على خلاف ظاهره لَلامَكَ هذا المتكلم، وقال: "لماذا تحمل كلامي على خلاف ظاهره! ليس لك إلا الظاهر"؛ مع أنك لو فسرت كلام هذا الرجل على خلاف ظاهره لكان أهون لوماً مما لو فسرت كلام الله؛ لأن المتكلم . غير الله . ربما يخفى عليه المعنى، أو يعييه التعبير، أو يعبر بشيء ظاهره خلاف ما يريده، فتفسره أنت على ما تظن أنه يريده؛ أما كلام الله عزّ وجلّ فهو صادر عن علم، وبأبلغ كلام، وأفصحه؛ ولا يمكن أن يخفى على الله عزّ وجلّ ما يتضمنه كلامه؛ فيجب عليك أن تفسره بظاهره..
فقوله تعالى: { لا ريب فيه }: ظاهرها أنها جملة خبرية تفيد النفي؛ والمعنى: ليس فيه ريب أبداً؛ وقيل: إن الخبر هنا بمعنى النهي؛ فمعنى: { لا ريب فيه }: لا ترتابوا فيه؛ والذي أوجب أن يفسروا النفي بمعنى النهي قالوا: لأنه قد حصل فيه ريب من الكفار، والمنافقين؛ قال تعالى: {فهم في ريبهم يترددون} [التوبة: 45] ؛ فلا يستقيم النفي حينئذ؛ وتكون هذه القرينة الواقعية من ارتياب بعض الناس في القرآن قرينةً موجبة لصرف الخبر إلى النهي؛ ولكننا نقول: إن الله تعالى يتحدث عن القرآن من حيث هو قرآن . لا باعتبار من يتلى عليهم القرآن .؛ والقرآن من حيث هو قرآن لا ريب فيه؛ عندما أقول لك: "هذا الماء عذب" فهذا بحسب وصف الماء بقطع النظر عن كون هذا الماء في مذاق إنسان من الناس ليس عذباً؛ كون مذاق الماء العذب مراً عند بعض الناس فهذا لا يؤثر على طبيعة الماء العذب؛ وقد قال المتنبي:.
ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالا فما علينا من هؤلاء إذا كان القرآن عندهم محل ريبة؛ فإن القرآن في حد ذاته ليس محل ريبة؛ والله سبحانه وتعالى يصف القرآن من حيث هو قرآن؛ على أن كثيراً من الذين ادّعوا الارتياب كاذبون يقولون ذلك جحوداً، كما قال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33] ؛ فكثير منهم ربما لا يكون عنده ارتياب حقيقي في القرآن؛ ويكون في داخل نفسه يعرف أن هذا ليس بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يأتي بمثله؛ ولكن مع ذلك يجحدون، وينكرون..
وعلى هذا فالوجه الأول هو الوجه القوي الذي لا انفصام عنه . وهو أن الله تعالى وصف القرآن من حيث هو قرآن بقطع النظر عمن يُتلى عليهم هذا القرآن: أيرتابون، أم لا يرتابون فيه..
وقوله تعالى: { لا ريب فيه هدًى للمتقين }: وقف بعض القراء على قوله تعالى: { لا ريب }؛ وعليه فيكون خبر { لا } محذوفاً؛ والتقدير: لا ريب في ذلك؛ ويكون الجار والمجرور خبراً مقدماً، و{ هدًى } مبتدأً مؤخراً؛ ووقف بعضهم على قوله تعالى: { فيه }؛ وعليه فيكون الجار والمجرور خبر { لا }؛ ويكون قوله تعالى: { هدًى } خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: هو هدًى للمتقين..
و"التقوى":اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه..
2- ومنها: رفعة القرآن من جهة أنه قرآن مكتوب معتنٍ به؛ لقوله تعالى: { ذلك الكتاب }؛ وقد بيّنّا أنه مكتوب في ثلاثة مواضع: اللوح المحفوظ، والصحف التي بأيدي الملائكة، والمصاحف التي بأيدي الناس..
3- ومن فوائد الآية: أن هذا القرآن نزل من عند الله يقيناً؛ لقوله تعالى: ( لا ريب فيه )
4- ومنها: أن المهتدي بهذا القرآن هم المتقون؛ فكل من كان أتقى لله كان أقوى اهتداءً بالقرآن الكريم؛ لأنه عُلِّق الهدى بوصف؛ والحكم إذا عُلق بوصف كانت قوة الحكم بحسب ذلك الوصف المعلَّق عليه؛ لأن الوصف عبارة عن علة؛ وكلما قويت العلة قوي المعلول..
5- ومن فوائد الآية: فضيلة التقوى، وأنها من أسباب الاهتداء بالقرآن، والاهتداء بالقرآن يشمل الهداية العلمية، والهداية العملية؛ أي هداية الإرشاد، والتوفيق..
فإن قيل: ما الجمع بين قوله تعالى: { هدًى للمتقين }، وقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس وبينات من الهدى والفرقان}؟ (البقرة: 185) .
فالجواب: أن الهدى نوعان: عام، وخاص؛ أما العام فهو الشامل لجميع الناس وهو هداية العلم، والإرشاد؛ ومثاله قوله تعالى عن القرآن: {هدًى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185] ، وقوله تعالى عن ثمود: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17] ؛ وأما الخاص فهو هداية التوفيق : أي أن يوفق الله المرء للعمل بما علم؛ مثاله: قوله تعالى { هدًى للمتقين }، وقوله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدًى وشفاء} [فصلت: 44] ..
جزالك الله خير اختى ( شمس )
والله يكثر من امثلك
سوف اضيف رابط موضوعك للحلقه الصيفيه لما فيه من فائده..طبعا بعد اذنك
بعد أن ذكر الله عزّ وجلّ أن المتقين هم الذين ينتفعون ويهتدون بهذا الكتاب، بيَّن لنا صفات هؤلاء المتقين؛ فذكر في هذه الآية ست صفات:.
الأولى: الإيمان بالغيب في قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب }، أي يقرون بما غاب عنهم مما أخبر الله به عن نفسه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وغير ذلك مما أخبر الله به من أمور الغيب؛ وعلى هذا فـ{ الغيب } مصدر بمعنى اسم الفاعل: أي بمعنى: غائب..
الصفة الثانية: إقامة الصلاة في قوله تعالى: { ويقيمون الصلاة }، أي يقومون بها على وجه مستقيم، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمراد بـ{ الصلاة } هنا الجنس؛ فتعم الفريضة، والنافلة..
الصفة الثالثة: الإنفاق مما رزقهم الله في قوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون }، أي مما أعطيناهم من المال يخرجون؛ و "مِن" هنا يحتمل أن تكون للتبعيض، وأن تكون للبيان؛ ويتفرع على ذلك ما سيُبَيَّن في الفوائد . إن شاء الله تعالى …
.{ 4 } الصفة الرابعة قوله تعالى: { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك }، أي يؤمنون بجميع الكتب المنزلة؛ وبدأ بالقرآن مع أنه آخرها زمناً؛ لأنه مهيمن على الكتب السابقة ناسخ لها؛ والمراد بـ{ ما أنزل من قبلك } التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وموسى، وغيرها..
الصفة الخامسة: الإيقان بالآخرة في قوله تعالى: { وبالآخرة هم يوقنون }؛ والمراد بذلك البعث بعد الموت، وما يتبعه مما يكون يوم القيامة من الثواب، والعقاب، وغيرهما؛ وإنما نص على الإيقان بالآخرة مع دخوله في الإيمان بالغيب لأهميته؛ لأن الإيمان بها يحمل على فعل المأمور، وترك المحظور؛ و "الإيقان" هو الإيمان الذي لا يتطرق إليه شك..
.{ 5 } قوله تعالى: { أولئك }: المشار إليه ما تقدم ممن اتصفوا بالصفات الخمس؛ وأشار إليهم بصيغة البعد لعلوّ مرتبتهم؛ { على هدًى } أي على علم، وتوفيق؛ و{ على } للاستعلاء؛ وتفيد علوهم على هذا الهدى، وسيرهم عليه، كأنهم يسيرون على طريق واضح بيّن؛ فليس عندهم شك؛ تجدهم يُقبلون على الأعمال الصالحة وكأن سراجاً أمامهم يهتدون به: تجدهم مثلاً ينظرون في أسرار شريعة الله، وحِكَمها، فيعلمون منها ما يخفى على كثير من الناس؛ وتجدهم أيضاً عندما ينظرون إلى القضاء والقدر كأنما يشاهدون الأمر في مصلحتهم حتى وإن أصيبوا بما يضرهم أو يسوءهم، يرون أن ذلك من مصلحتهم؛ لأن الله قد أنار لهم الطريق؛ فهم على هدًى من ربهم وكأن الهدى مركب ينجون به من الهلاك، أو سفينة ينجون بها من الغرق؛ فهم متمكنون غاية التمكن من الهدى؛ لأنهم عليه؛ و{ من ربهم } أي خالقهم المدبر لأمورهم؛ والربوبية هنا خاصة متضمنة للتربية الخاصة التي فيها سعادة الدنيا، والآخرة..
قوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون }: الجملة مبتدأ وخبر، بينهما ضمير الفصل الدالّ على التوكيد، والحصر؛ وأعيد اسم الإشارة تأكيداً لما يفيده اسم الإشارة الأول من علوّ المرتبة، والعناية التامة بهم كأنهم حضروا بين يدي المتكلم؛ وفيه الفصل بين الغاية، والوسيلة؛ فالغاية: الفلاح؛ ووسيلته: ما سبق؛ و "الفلاح" هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب؛ فهي كلمة جامعة لانتفاء جميع الشرور، وحصول جميع الخير.
تنبــــيه:
من المعروف عند أهل العلم أن العطف يقتضي المغايرة . أي أن المعطوف غير المعطوف عليه .؛ وقد ذكرنا أن هذه المعطوفات أوصاف للمتقين وهو موصوف واحد؛ فكيف تكون المغايرة؟
والجواب: أن التغاير يكون في الذوات كما لو قلت: "قدم زيد، وعمرو"؛ ويكون في الصفات كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدَّر فهدى * والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 . 4] ؛ قالوا: والفائدة من ذلك أن هذا يقتضي تقرير الوصف الأول . كأنه قال: "أتصف بهذا، وزيادة …
الفوائد من الآيات :
1 – من فوائد الآية: أن من أوصاف المتقين الإيمان بالغيب؛ لأن الإيمان بالمُشاهَد المحسوس ليس بإيمان؛ لأن المحسوس لا يمكن إنكاره..
2 – ومنها: أن من أوصاف المتقين إقامة الصلاة؛ وهو عام لفرضها، ونفلها..
ويتفرع على ذلك: الترغيب في إقامة الصلاة؛ لأنها من صفات المتقين؛ وإقامتها أن يأتي بها مستقيمة على الوجه المطلوب في خشوعها، وقيامها، وقعودها، وركوعها، وسجودها، وغير ذلك..
3 – ومن فوائد الآيات: أن من أوصاف المتقين الإنفاق مما رزقهم الله؛ وهذا يشمل الإنفاق الواجب كالزكاة، وإنفاقَ التطوع كالصدقات، والإنفاقِ في سبل الخير..
4 – ومنها: أن صدقة الغاصب باطلة؛ لقوله تعالى: { ومما رزقناهم }؛ لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به، فلا تقبل صدقته..
5 – ومنها: أن الإنفاق غير الزكاة لا يتقدر بشيء معين؛ لإطلاق الآية، سواء قلنا: إن "مِن" للتبعيض؛ أو للبيان..
ويتفرع على هذا جواز إنفاق جميع المال في طرق الخير، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه حين تصدق بجميع ماله ؛ لكن هذا مشروط بما إذا لم يترتب عليه ترك واجب من الإنفاق على الأهل، ونحوهم؛ فإن ترتب عليه ذلك فالواجب مقدم على التطوع..
6- ومن فوائد الآية: ذم البخل؛ ووجهه أن الله مدح المنفقين؛ فإذا لم يكن إنفاق فلا مدح؛ والبخل خلق ذميم حذر الله سبحانه وتعالى منه في عدة آيات..
تنـــبيه:
لم يذكر الله مصرف الإنفاق أين يكون؛ لكنه تعالى ذكر في آيات أخرى أن الإنفاق الممدوح ما كان في سبيل الله من غير إسراف، ولا تقتير، كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67] ..
7 -ومن فوائد الآية: أن من أوصاف المتقين الإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله.
8 – ومنها: أن من أوصاف المتقين الإيقان بالآخرة على ما سبق بيانه في التفسير..
9 – ومنها: أهمية الإيمان بالآخرة؛ لأن الإيمان بها هو الذي يبعث على العمل؛ ولهذا يقرن الله تعالى دائماً الإيمان به عزّ وجلّ، وباليوم الآخر؛ أما من لم يؤمن بالآخرة فليس لديه باعث على العمل؛ إنما يعمل لدنياه فقط: يعتدي ما دام يرى أن ذلك مصلحة في دنياه: يسرق مثلاً؛ يتمتع بشهوته؛ يكذب؛ يغش…؛ لأنه لا يؤمن بالآخرة؛ فالإيمان بالآخرة حقيقة هو الباعث على العمل..
10 – ومنها: سلامة هؤلاء في منهجهم؛ لقوله تعالى: ( أولئك على هدًى من ربهم ).
11 -ومنها: أن ربوبية الله عزّ وجلّ تكون خاصة، وعامة؛ وقد اجتمعا في قوله تعالى عن سحرة فرعون: {آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} (الأعراف: 121، 122)
12 – ومنها: أن مآل هؤلاء هو الفلاح؛ لقوله تعالى: ( وأولئك هم المفلحون )
13 – ومنها: أن الفلاح مرتب على الاتصاف بما ذُكر؛ فإن اختلَّت صفة منها نقص من الفلاح بقدر ما اختل من تلك الصفات؛ لأن الصحيح من قول أهل السنة والجماعة، والذي دلّ عليه العقل والنقل، أن الإيمان يزيد، وينقص، ويتجزأ؛ ولولا ذلك ما كان في الجنات درجات: هناك رتب كما جاء في الحديث: "إن أهل الجنة ليتراءون أصحاب الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق؛ قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال صلى الله عليه وسلم لا؛ والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين"(1) ، أي ليست خاصة بالأنبياء
ثم ذكر الله قسماً آخر . وهم الكافرون الخلَّص .؛ ففي هذه السورة العظيمة ابتدأ الله تعالى فيها بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنون الخلَّص؛ ثم الكافرون الخلَّص؛ ثم المؤمنون بألسنتهم دون قلوبهم؛ فبدأ بالطيب، ثم الخبيث، ثم الأخبث؛ إذاً الطيب: هم المتقون المتصفون بهذه الصفات؛ والخبيث: الكفار؛ والأخبث: المنافقون..
.{ 6 } قوله تعالى: { سواء } أي مستوٍ؛ وهي إما أن تكون خبر { إن } في قوله تعالى: { إن الذين كفروا }؛ ويكون قوله تعالى: { أأنذرتهم } فاعلاً بـ{ سواء } مسبوكاً بمصدر؛ والتقدير: سواء عليهم إنذارُك، وعدمُه؛ وإما أن تكون { سواء } خبراً مقدماً، و{ أأنذرتهم } مبتدأً مؤخراً؛ والجملة خبر { إن }؛ والأول أولى؛ لأنه يجعل الجملة جملة واحدة؛ وهنا انسبك قوله تعالى: { أأنذرتهم } بمصدر مع أنه ليس فيه حرف مصدري؛ لكنهم يقولون: إن همزة الاستفهام التي للتسوية يجوز أن تسبك، ومدخولها بمصدر..
قوله تعالى: { إن الذين كفروا } أي بما يجب الإيمان به..
قوله تعالى: { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }: هذا تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. لا اعتذاراً للكفار .، ولا تيئيساً له صلى الله عليه وسلم و "الإنذار" هو الإعلام المقرون بالتخويف؛ والرسول صلى الله عليه وسلم بشير، ونذير؛ بشير معلم بما يسر بالنسبة للمؤمنين؛ نذير معلم بما يسوء بالنسبة للكافرين؛ فإنذار النبي صلى الله عليه وسلم وعدمه بالنسبة لهؤلاء الكفار المعاندين، والمخاصمين . الذين تبين لهم الحق، ولكن جحدوه . مستوٍ عليهم..
وقوله تعالى: { لا يؤمنون }: هذا محط الفائدة في نفي التساوي . أي إنهم أنذرتهم أم لم تنذرهم . لا يؤمنون؛ وتعليل ذلك قوله تعالى: ( ختم الله على قلوبهم )
و "الختم" : الطبع؛ و"الطبع" هو أن الإنسان إذا أغلق شيئاً ختم عليه من أجل ألا يخرج منه شيء، ولا يدخل إليه شيء؛ وهكذا فهؤلاء . والعياذ بالله . قلوبهم مختوم عليها لا يصدر منها خير، ولا يصل إليها خير..
.{ 7 } قوله تعالى: { وعلى سمعهم } أي وختم على سمعهم، فهي معطوفة على قوله تعالى: { على قلوبهم }؛ والختم على الأذن: أن لا تسمع خيراً تنتفع به..
قوله تعالى: { وعلى أبصارهم غشاوة }: الواو للاستئناف؛ فالجملة مستقلة عما قبلها؛ فهي مبتدأ، وخبر مقدم؛ ويحتمل أن تكون الواو عاطفة، لكن عطف جملة على جملة؛ و{ غشاوة } أي غطاء يحول بينها وبين النظر إلى الحق؛ ولو نظرت لم تنتفع..
قوله تعالى: { ولهم } أي لهؤلاء الكفار الذين بقوا على كفرهم { عذاب عظيم }: وهو عذاب النار؛ وعظمه الله تعالى؛ لأنه لا يوجد أشد من عذاب النار..
انتهى الكلام على الصنف الثاني من أصناف الخلق، وهم الكفار الخُلَّص الصرحاء..
الفوائد:
1 – من فوائد الآيتين: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم حين يردُّه الكفار، ولا يَقبلون دعوته..
2 -ومنها: أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان المنذِر والداعي؛ لأنه لا يستفيد . قد ختم الله على قلبه .، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] ، وقال تعالى: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [الزمر: 19] يعني هؤلاء لهم النار؛ انتهى أمرهم، ولا يمكن أن تنقذهم..
3- ومنها: أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة، ولا بالإقبال على الله تعالى فإن فيه شبهاً من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ، ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله..
4 – ومنها: أن محل الوعي القلوب؛ لقوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم } يعني لا يصل إليها الخير..
5 – ومنها: أن طرق الهدى إما بالسمع؛ وإما بالبصر: لأن الهدى قد يكون بالسمع، وقد يكون بالبصر؛ بالسمع فيما يقال؛ وبالبصر فيما يشاهد؛ وهكذا آيات الله عزّ وجلّ تكون مقروءة مسموعة؛ وتكون بيّنة مشهودة..
6 – ومنها: وعيد هؤلاء الكفار بالعذاب العظيم..
مسألة:.
إذا قال قائل: هل هذا الختم له سبب من عند أنفسهم، أو مجرد ابتلاء وامتحان من الله عزّ وجلّ؟
فالجواب: أن له سبباً؛ كما قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ، وقال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية(المائدة: 13)
قوله تعالى: { ومن الناس }: { من } للتبعيض؛ أي: وبعض الناس؛ ولم يصفهم الله تعالى بوصف . لا بإيمان، ولا بكفر .؛ لأنهم كما وصفهم الله تعالى في سورة النساء: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 143] ؛ و{ الناس } أصلها الأناس؛ لكن لكثرة الاستعمال حذفت الهمزة تخفيفاً، كما قالوا في "خير"، و"شر": إن أصلهما: "أخير"، و"أشر"؛ لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال؛ وسُموا أناساً: من الأُنس؛ لأن بعضهم يأنس بعضاً، ويركن إليه؛ ولهذا يقولون: "الإنسان مدني بالطبع"؛ بمعنى: أنه يحب المدنية . يعني الاجتماع، وعدم التفرق …
قوله تعالى: { من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } أي يقول بلسانه . بدليل قوله تعالى: { وما هم بمؤمنين } أي بقلوبهم .؛ وسبق معنى الإيمان بالله، وباليوم الآخر..
الفوائد :
1 – من فوائد الآية: بلاغة القرآن؛ بل فصاحة القرآن في التقسيم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ابتدأ هذه السورة بالمؤمنين الخلَّص، ثم الكفار الخلَّص، ثم بالمنافقين؛ وذلك؛ لأن التقسيم مما يزيد الإنسان معرفة، وفهماً..
2 – ومنها: أن القول باللسان لا ينفع الإنسان؛ لقوله تعالى: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)
3 – ومنها: أن المنافقين ليسوا بمؤمنين . وإن قالوا: إنهم مؤمنون .؛ لقوله تعالى: { وما هم بمؤمنين }؛ ولكن هل هم مسلمون؟ إن أريد بالإسلام الاستسلام الظاهر فهم مسلمون؛ وإن أريد بالإسلام إسلام القلب والبدن فليسوا بمسلمين..
4 – ومنها: أن الإيمان لا بد أن يتطابق عليه القلب، واللسان..
ووجه الدلالة: أن هؤلاء قالوا: "آمنا" بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم؛ فصح نفي الإيمان عنهم؛ لأن الإيمان باللسان ليس بشيء..
التفسير :
.{ 9 } قوله تعالى: { يخادعون الله } أي بإظهار إسلامهم الذي يعصمون به دماءهم، وأموالهم..
قوله تعالى: { والذين آمنوا } معطوف على لفظ الجلالة؛ والمعنى: ويخدعون الذين آمنوا بإظهار الإسلام، وإبطان الكفر، فيظن المؤمنون أنهم صادقون..
قوله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم } أي ما يخدع هؤلاء المنافقون إلا أنفسهم، حيث منَّوها الأماني الكاذبة..
قوله تعالى: { وما يشعرون } أي ما يشعر هؤلاء أن خداعهم على أنفسهم مع أنهم يباشرونه؛ ولكن لا يُحِسُّون به، كما تقول: "مَرَّ بي فلان ولم أشعر به"..
الفوائد :
1 – من فوائد الآية: مكر المنافقين، وأنهم أهل مكر، وخديعة؛ لقوله تعالى: { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم }؛ ولهذا قال الله تعالى في سورة المنافقين: {هم العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4] ؛ فحصر العداوة فيهم؛ لأنهم مخادعون..
2 – ومنها: التحفظ من المنافقين؛ لأنه إذا قيل لك: "فلان يخدع" فإنك تزداد تحفظاً منها؛ وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون يقظاً حذراً، فلا ينخدع بمثل هؤلاء..
فإن قال قائل: كيف نعرف المنافق حتى نكون حذرين منه؟
فالجواب: نعرفه بأن نتتبع أقواله، وأفعاله: هل هي متطابقة، أو متناقضة؟ فإذا علمنا أن هذا الرجل يتملق لنا، ويظهر أنه يحب الإسلام، ويحب الدين، لكن إذا غاب عنا نسمع عنه بتأكد أنه يحارب الدين عرفنا أنه منافق؛ فيجب علينا أن نحذر منه..
3 – ومن فوائد الآية: أن المكر السيئ لا يحيق إلّا بأهله؛ فهم يخادعون الله، ويظنون أنهم قد نجحوا، أو غلبوا؛ ولكن في الحقيقة أن الخداع عائد عليهم؛ لقوله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم }: فالحصر هنا يدل على أن خداعهم هذا لا يضر الله تعالى شيئاً، ولا رسوله، ولا المؤمنين..
4 – ومنها: أن العمل السيئ قد يُعمي البصيرة؛ فلا يشعر الإنسان بالأمور الظاهرة؛ لقوله تعالى: { وما يشعرون } أي ما يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم؛ و "الشعور" أخص من العلم؛ فهو العلم بأمور دقيقة خفية؛ ولهذا قيل: إنه مأخوذ من الشَّعر؛ والشعر دقيق؛ فهؤلاء الذين يخادعون الله، والرسول، والمؤمنين لو أنهم تأملوا حق التأمل لعرفوا أنهم يخدعون أنفسهم، لكن لا شعور عندهم في ذلك؛ لأن الله تعالى قد أعمى بصائرهم . والعياذ بالله .، فلا يشعرون بهذا الأمر.
.{ 10 } قوله تعالى: { في قلوبهم مرض }: هذه الجملة جملة اسمية تدل على مكث وتمكنُّ هذا المرض في قلوبهم؛ ولكنه مرض على وجه قليل أثّر بهم حتى بلغوا النفاق؛ ومن أجل هذا المرض قال سبحانه وتعالى: { فزادهم الله مرضاً }: الفاء هنا عاطفة؛ ولكنها تفيد معنى السببية: زادهم الله مرضاً على مرضهم؛ لأنهم . والعياذ بالله . يريدون الكفر؛ وهذه الإرادة مرض أدى بهم إلى زيادة المرض؛ لأن الإرادات التي في القلوب عبارة عن صلاح القلوب، أو فسادها؛ فإذا كان القلب يريد خيراً فهو دليل على سلامته، وصحته؛ وإذا كان يريد الشر فهو دليل على مرضه، وعلته..
وهؤلاء قلوبهم تريد الكفر؛ لأنهم يقولون لشياطينهم إذا خلوا إليهم: {إنا معكم إنما نحن مستهزئون} [البقرة: 14] ، أي بهؤلاء المؤمنين السذج . على زعمهم . ويرون أن المؤمنين ليسوا بشيء، وأن العِلْية من القوم هم الكفار؛ ولهذا جاء التعبير بـ {إنا معكم} [البقرة: 14] الذي يفيد المصاحبة، والملازمة..
فهذا مرض زادهم الله به مرضاً إلى مرضهم حتى بلغوا إلى موت القلوب، وعدم إحساسها، وشعورها..
قوله تعالى في مجازاتهم: { ولهم عذاب } أي عقوبة؛ { أليم } أي مؤلم؛ فهو شديد، وعظيم، وكثير؛ لأن الأليم قد يكون مؤلماً لقوته، وشدته: فضربة واحدة بقوة تؤلم الإنسان؛ وقد يكون مؤلماً لكثرته: فقد يكون ضرباً خفيفاً؛ ولكن إذا كثر، وتوالى آلَم؛ وقد اجتمع في هؤلاء المنافقين الأمران؛ لأنهم في الدرك الأسفل من النار . وهذا ألم حسي .؛ وقال تعالى في أهل النار: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة: 20] ، وهذا ألم قلبي يحصل بتوبيخهم..
قوله تعالى: { بما كانوا يكذبون }: الباء للسببية . أي بسبب كذبهم .، أو تكذيبهم؛ و "ما" مصدرية تؤول وما بعدها بمصدر؛ فيكون التقدير: بكونهم كاذبين؛ أو: بكونهم مكذبين؛ لأن في الآية قراءتين؛ الأولى: بفتح الياء، وسكون الكاف، وكسر الذال مخففة؛ ومعناها: يَكْذِبون بقولهم: آمنا بالله، وباليوم الآخر . وما هم بمؤمنين .؛ والقراءة الثانية: بضم الياء، وفتح الكاف، وكسر الذال مشددة؛ ومعناها: يُكَذِّبون الله، ورسوله؛ وقد اجتمع الوصفان في المنافقين؛ فهم كاذبون مكذِّبون..
الفوائد:
1 – من فوائد الآية: أن الإنسان إذا لم يكن له إقبال على الحق، وكان قلبه مريضاً فإنه يعاقب بزيادة المرض؛ لقوله تعالى: { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً }؛ وهذا المرض الذي في قلوب المنافقين: شبهات، وشهوات؛ فمنهم من علم الحق، لكن لم يُرِده؛ ومنهم من اشتبه عليه؛ وقد قال الله تعالى في سورة النساء: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلًا} [النساء: 137] ، وقال تعالى في سورة المنافقين: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3] ..
2 – ومن فوائد الآية: أن أسباب إضلال اللَّهِ العبدَ هو من العبد؛ لقوله تعالى: { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً }؛ ومثل ذلك قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ، وقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} [الأنعام: 110] ، وقوله تعالى: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} [المائدة: 49] ..
3 -ومنها: أن المعاصي والفسوق، تزيد وتنقص، كما أن الإيمان يزيد وينقص؛ لقوله تعالى: { فزادهم الله مرضاً }؛ والزيادة لا تُعقل إلا في مقابلة النقص؛ فكما أن الإيمان يزيد وينقص، كذلك الفسق يزيد، وينقص؛ والمرض يزيد، وينقص..
4 – ومنها: الوعيد الشديد للمنافقين؛ لقوله تعالى: ( ولهم عذاب أليم )
5 – ومنها: أن العقوبات لا تكون إلا بأسباب . أي أن الله لا يعذب أحداً إلا بذنب .؛ لقوله تعالى:
( بما كانوا يكذبون )
6 – ومنها: أن هؤلاء المنافقين جمعوا بين الكذب، والتكذيب؛ وهذا شر الأحوال..
7 -ومنها: ذم الكذب، وأنه سبب للعقوبة؛ فإن الكذب من أقبح الخصال؛ وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكذب من خصال المنافقين، فقال صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب…"(1) الحديث؛ والكذب مذموم شرعاً، ومذموم عادة، ومذموم فطرة أيضاً..
مسألة :-
إن قيل: كيف يكون خداعهم لله وهو يعلم ما في قلوبهم؟
فالجواب: أنهم إذا أظهروا إسلامهم فكأنما خادعوا الله؛ لأنهم حينئذ تُجرى عليهم أحكام الإسلام، فيلوذون بحكم الله . تبارك وتعالى . حيث عصموا دماءهم وأموالهم بذلك..