المفردات:
الحمد: الشكر، أو الثناء باللسان على الجميل الاختياري.
رب: مالك الشيء الذي يرعاه ويهتم بتربيته وإصلاح شئونه.
العالمين: جمع عالم، والعالم مجموعة من الموجودات المختلفة تشترك في صفة من الصفات سواء كانت الصفة حقيقية أو انتزاعية أو اعتبارية، كعالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات.
الحمد: إلفات إلى الجانب المضيء من الحياة.
للحياة جانبان: جانب مظلم وجانب مضيء. الجانب المظلم يتمثل في الفقر والمرض والكوارث التي تحل بالفرد أو بالمجتمع، وتدخل عليه الحزن والكآبة. والجانب المضيء يتمثل في الغنى والصحة والانتصارات التي يحققها الفرد في الحياة ونحو ذلك. وهذان الجانبان متشابكان في الحياة.. فلا يمكن أن يخلو منهما فرد أو مجتمع أبداً.
فالدنيا – كما يقول الشاعر:
حلاوتهـا ممزوجـة بمـرارة وراحتهـا مقرونـة بعنـاء
وهنالك أفراد يركزون النظر على الجانـب المظلم من الحياة، فهم لا يرون البعد الإيجابي في الحياة، وإنما يركزون النظر على الجوانب السلبية، وذلك ما يستتبع مضاعفات خطيرة على:
أولاً: نفس الإنسان، فلا يستمتع مثل هذا الفرد بما في الحياة من نعم، ولا بما منحه الله تعالى من طيبات، بل يظل دائم الكآبة والحزن. يقول الشاعر:
ليس من مـات فاستراح بميت إنمـا الميت ميت الأحيـاء
إنما الميـت من يعيـش كئيباً كـاسفاً باله قليـل الرجـاء
ثانياً: وحيث إن النفس مؤثرة في البدن – كما ثبت ذلك في علم النفس وفي علم الطب حيث أن الحالات النفسية للإنسان تنعكس على الأداء الفسيولوجي للأعضاء – لذا فإن هذا الفرد يصاب بأمراض جسدية لا يجد عنها خلاصاً.
ثالثاً: وتنعكس هذه الحالة على سلوك الإنساني الخارجي، فيكون شخصاً سيء الأخلاق، عنيف النزعة، لا يألف ولا يُؤلف.
أما الذي يركز النظر على الجانب الإيجابي من الحياة فإنه على العكس سيكون مرتاح النفس صحيح الجسم حسن العشرة، متحملاً لما في الحياة من متاعب وآلام.
ينقل أن كسرى سخط على بوذر، وكان وزيراً له، فحبسه في بيت مظلم وأمر أن يصفّد بالحديد، فبقى أياماً على تلك الحال. فأرسل كسرى إليه من يسأله عن حاله؟ فجاء الرسول فوجده منشرح الصدر مطمئن النفس. فقال له: "أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال!"
فقال بوذر: "اصطنعت معجوناً مركباً من أخلاط معينة واستعملتها."
وهذا المعجون هو الذي أبقاني على ما ترون!"
قال الرسول: "صف لنا هذه الأخلاط لعلنا ننتفع بها عند البلوى."
فقال: "نعم. أما الخلط الأول: فالثقة بالله عز وجل.
وأما الثاني: فكل مقدر كائن.
وأما الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتحن.
وأما الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزع.
وأما الخامس: فقد يكون أشد مما أنا فيه.
وأما السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج."
فبلغ ما قاله كسرى، فأطلقه وأعزه1. هذا مع أن كسرى خيّر بوذر بأن ينتخب في خلال مدة سجنه: طعاماً واحداً، وملبساً واحداً، ومكاناً واحداً، لا يتعدها إلى غيرها. فاختار من الطعام: الحليب.
ومن الملبس: الفرو.
ومن المكان: السرداب.
فسأله كسرى عن علة هذا الاختيار؟
فقال بوذرجمهر: "أما الحليب فإنه طعام وشراب، وأما الفرو فلأنه لباس الصيف والشتاء، إن لبُس هذا الجانب كان لباس الصيف، وإن لبس من الجانب الآخر كان لباس الشتاء. وأما السرداب فلأنه حار في الشتاء وبارد في الصيف."
وفي الحديث: أن موسى (عليه السلام) قال لله تعالى: "أرني أحـب خلقك إليك وأكثرهم لك عبادة."
فأمره الله تعالى أن ينتهي إلى قرية على ساحل بحر وأخبره أنه يجده في مكان قد سماه له، فوصل (عليه السلام) إلى ذلك المكان، فوجد رجلاً مجذوماً مقعداً أبرص يسبّح لله تعالى.
فقال موسى (عليه السلام): "يا جبرئيل <جبرائيل> أين الرجل الذي سألت ربي أن يُرِيني إياه."
فقال جبرئيل <جبرائيل>: "هو يا كليم الله هذا."
فقال موسى (عليه السلام): "يا جبرئيل <جبرائيل> إني كنت أحب أن أراه صواماً قواماً!"
فقال جبرئيل <جبرائيل>: "هذا أحب إلى الله تعالى وأعبد له من الصوام القوام، وقد أُمِرت /أي أمرني الله تعالى/، بإذهاب عينيه، فاسمع ما يقول." فأشار جبرئيل إلى عينيه فسالتا على خديه.
فقال الرجل /مخاطباً الله تعالى/: "متعتني بهما حيث شئت، وسلبتني إياهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك طول الأمل يا بارّ يا وصول."
فقال له موسى(عليه السلام): "يا عبد الله إني رجل مجاب الدعوة، فإن أحببت أن أدعو لك الله تعالى يرد عليك ما ذهب من جوارحك، ويبريك من العلة فَعَلْتُ."
فقال الرجل (رحمة الله عليه): "لا أُريد شيئاً من ذلك، اختياره لي أحب إليّ من اختياري لنفسي."
فقال له موسى (عليه السلام): "سمعتك تقول: ‘يا بارّ يا وصول،’ ما هذا البر والصلة الواصلان إليك من ربك؟"
فقال: "ما أحد في هذا البلد يعرفه غيري أو يعبده غيري،" فراح موسى (عليه السلام) متعجباً وقال: "هذا أعبد أهل الدنيا"1.
وعلى كل حال فإن تكرار المسلم لكلمة "الحمد لله" كل يوم عشر مرات على الأقل في صلواته الخمس المفروضة إلفات إلى الجانب المضيء من الحياة، ولهذا الإلفات من الآثار النفسية والجسدية والاجتماعية ما لا يخفى، وقد اتضح بعضها من خلال هذا البحث.
هذا مضافاً إلى أن تذكر النعم الإلهية التي تغمرنا في كل لحظة "يدفع الإنسان على طريق العبودية، لأن الإنسان مفطور على أن يبحث عن صاحب النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه، من هنا فإن علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأولية لهذا العلم إلى وجوب شكر المنعم باعتباره أمراً فطرياً وعقلياً دافعاً إلى معرفة الله."