أحب مكارم الأخلاق جهدي****** وأكره أن أعاب وأن أعيبا
وأصفح عن سباب الناس حلما ***وشر الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ******ومن حقر الرجال فلن يهابا
فالحلم من أشرف الأخلاق ، وأحقها بذوي الألباب ، لما فيه من سلامة العرض ، وراحة الجسد ، واجتلاب الحمد ، وقد قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – : أول عوض الحليم عن حلمه ، أن الناس أنصاره ، وحد الحلم : ضبط النفس عن هيجان الغضب ، وهذا يكون عن باعث وسبب . واسباب الحلم الباعثة على ضبط النفس عشرة :
أحدها : الرحمة للجهال :
وذلك من خير يوافق رقة ، وقد قيل في منثور الحكم : من أوكد أسباب الحلم رحمة الجهال . وقال أبو الدرداء لرجل أسمعه كلاما : ياهذا لا تغرقن في سبنا ، ودع للصلح موضعا ، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا ، بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه . وشتم رجل الشعبي فقال : إن كنت كما قلت فغفر الله لي ، وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك . واغتاظت عائشة رضي الله عنها على خادم لها ، ثم رجعت إلى نفسها ، فقالت : لله در التقوى ، ماتركت لذي غيظ شفاء . وقسم معاوية رضي الله عنه قطفا ، فأعطى شيخا من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه فحلف أن يضرب بها رأس معاوية ، فأتاه فأخبره ، فقال له معاوية : أوف بنذرك ، وليرفق الشيخ بالشيخ .
والثاني من أسبابه : القدرة على الانتصار :
وذلك من سعة الصدر وحسن الثقة ، وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : إذا قدرت عدوك، فاجعل العفو شكرا للقدرة عليه ) وقال بعض الحكماء : ليس من الكرم عقوبة من لايجد امتناعا من السطوة . وقال بعض البلغاء : أحسن المكارم عفو المقتدر ، وجود المفتقر .
والثالث من أسبابه : الترفع عن السباب :
وذلك من شرف النفس ، وعلو الهمة ، ككما قالت الحكماء : شرف النفس أن تحمل المكاره ، كما تحمل المكارم ، وقد قيل : أن الله -سبحانه وتعالى – سمى يحيى – عليه السلام -سيدا لحلمه . وقد قال الشاعر :
لايبلغ المجد أقوام وإن كرموا ******حتى يذلوا -وإن عزوا – لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة ******لاصفح ذل ولكن صفح أحلام
وذلك عن ضرب من الكبر والاعجاب ، كما حكي عن مصعب بن الزبير : أنه لما ولي العراق ، جلس يوما لعطاء الجند ، وأمر مناديه فنادى : ابن عمرو ابن جرموز ؟ وهو الذي قتل أباه الزبير ، فقال له : أيها الأمير ، إنه قد تباعد في الأرض ، فقال : أويظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله ، فليظهر آمنا ، ليأخذ عطاءه موفرا . فعد الناس ذلك من مستحسن الكبر . ومثل ذلك قول بعض الزعماء في شعره :
أوكلما طن الذباب طردته *****إن الذباب إذن علي كريم
وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لايجيبه ، فقال : والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه ، وفي مثله يقول الشاعر :
نجا بك لؤمك منجى الذباب*****حمته مقاديره أن ينالا
وأسمع رجل ابن هبيرة ، فأعرض عنه ، فقال له الرجل : إياك أعني ، فقال له : وعنك أعرض ، وفي مثله يقول الشاعر :
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ***** عرض عززت به وأنت ذليل
وقال عمرو بن علي :
إذا نطق السفيه فلا تجبه ***** فخير من إجابته السكوت
سكت عن السفيه فظن أني ****عييت عن الجواب وما عييت
وهذا يكون من صيانة النفس ، وكمال المروءة ، وقد قال بعض الحكماء : احتمال السفيه خير من التحلي بصورته ، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته . وقال بعض الأدباء : ما أفحش حليم ، ولا أوحش كريم ، وقال لقيط بن زرارة :
وقل لبني سعد فمالي ومالكم *****ترقون مني ما استطعت وأعتق
أغركمو أني بأحسن شيمة *****بصير وأني بالفواحش أخرق
وإن تك قد ساببتني فقهرتني*****هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق
والسادس من أسبابه : التفضل على السباب :
وهذا يكون من الكرم وحب التألف ، كما قيل للاسكندر : إن فلانا وفلانا ينقصانك ويثلبانك ، فلو عاقبتهما ، فقال : هما بعد العقوبة أعذر في تنقصي وثلبي ، فكان هذا تفضلا منه وتألفا ، وقد حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال : ماعاداني أحد قط ، إلا أخذت في أمره بإحى ثلاث خصال : إن كان أعلى مني عرفت له قدره ، وإن كان دوني رفعت قدري عنه ، وإن كان نظيري تفضلت عليه ، فأخذه الخليل ، فنظمه شعرا ، فقال :
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ****وإن كثرت منه إلي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة *****شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف قدره ****وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فأحلم دائبا ****أصون به عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا***تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم
والسابع من أسبابه : استكفاف الساب ، وقطع السباب :
وهذا يكون من الحزم ، كما حكي أن رجلا قال لضرار بن القعقاع : والله لو قلت واحدة لسمعت عشرا ، فقال له ضرار: والله لو قلت عشرا لم تسمع واحدة .
وحكي أن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه – قال لعامر بن مرة الزهري : من أحمق الناس ؟ قال: من ظن أنه أعقل الناس ،قال : صدقت ، فمن أعقل الناس ؟ قال : من لم يتجاوز الصمت في عقوبة الجهال . وقال الشعبي : ما أدركت أمي فأبرها ، ولكن لا أسب احدا فيسبها . وقال بعض الحكماء : في إعراضك صون أعراضك . وقال بعض الشعراء :
وفي الحلم ردع للسفيه عن الأذى*****وفي الخرق إغراء فلا تك أخرق
فتندم إذ لا تنفعك ندامة *****كما ندم المغبون لما تفرقا
وقال آخر :
قل مابدا لك من زور ومن كذب*******حلمي أصم وأذني غير صماء
والثامن من أسبابه : الخوف من العقوبة على الجواب :
وهذا يكون من ضعف النفس ، وربما أوجبه الرأي واقتضاه الحزم ، وقد قيل في منثور الحكم : الحلم حجاب الآفات . وقال الشاعر :
أرفق إذا خفت من ذي هفوة خرقا *****ليس الحكيم لمن في أمره خرق
والتاسع من أسبابه : الرعاية ليد سالفة ، وحرمة لازمة :
وهذا يكون من الوفاء ، وحسن العهد ، وقد قيل في منثور الحكم : أكرم الشيم أرعاها للذمم . وقال الشاعر :
إن الوفاء على الكريم فريضة *****واللؤم مقرون بذي الإخلاف
وترى الكريم لمن يعاشر منصفا *****وترى اللئيم مجانب الإنصاف
وهذا يكون من الدهاء، وقد قيل في منثور الحكم : من ظهر غضبه قل كيده ، وقال بعض الأدباء : غضب الجاهل في قوله ، وغضب العاقل في فعله . وقال بعض الحكماء : إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعته جوابا ، وأوجعته عقابا ، وقال إياس بن قتادة :
تعاقب أيدينا ويحلم رأينا **** ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وقال بعض الشعراء :
وللكف عن شتم اللئيم تكرما ****أضر له من شتمه حين يشتم
فهذه عشرة أسباب تدعو إلى الحلم ، وبعض الأسباب أفضل من بعض ، وليس غذا كان بعض أسبابه مفضولا به ، مايقتضي أن تكون نتيجته من الحلم مذمومة ، وإنما الأولى بالإنسان أن يدعوه للحلم أفضل أسبابه ، وإن كان الحلم كله فضلا ، و‘ن عدا عن أحد هذه الأسباب كان ذلا ولم يكن حلما ، لأننا ذكرنا في حد الحلم أنه ضبط النفس عند هيجان الغضب ، فإذا فقد الغضب لسماع ما يغضب ، كان ذلك من ذل النفس ، وقلة الحمية ، وقد قالت الحكماء : ثلاثة لايعرفون إلا في ثلاثة مواطن ، لا يعرف الجواد إلا في العسرة ، والشجاع إلا في الحرب ، والحليم إلا في الغضب ، وقال الشاعر :
ليست الأحلام في حال الرضا *****إنما الأحلام في حال الغضب
وقال آخر :
من يدعي الحلم أغضبه لتعرفه*****لايعرف الحلم إلا ساعة الغضب
وأنشد النابغة الجعدي بحضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له *****بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولاخير في جهل إذا لم يكن له ****حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
لم ينكر -صلى الله عليه وسلم – قوله عليه ، ومن فقد الغضب في الأشياء المغضبة حتى استوى حالتاه قبل الإغضاب وبعده فقد عدم من فضائ النفس الشجاعة والأنفة والحمية والغيرة والدفاع والأخذ بالثأر ، لأنه خصال مركبة من الغضب ، فإذا عدمها الإنسان هن بها ، ولم يكن لباقي فضائله في النفوس موضع ، ولا لوفور حلمه في القلوب موضع ، وقد قال المنصور : إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة ، وقال بعض الحكماء : العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم ،وقال عمرو بن العاص : أكرموا سفهاءكم فإنهم يقونكم العار والشنار ، وقال مصعب بن الزبير : ماقل سفهاء قوم إلا ذلوا . وقال أبو تمام الطائي:
والحرب تركب رأسها في مشهد ****عدل السفيه به بألف حليم
وليس هذا القول إغراء بتحكم الغضب والانقياد إليه عند حدوث مايغضب ، فيكسب بالانقياد للغضب من الرذائل أكثر مما يكسبه عدم الغضب من الفضائل ، ولكن غذا ثار به الغضب عند هجوم ما يغضبه ، كف ثورته بحزمه ، وأطفأ ثائرته بحلمه ، ووكل من استحق المقابلة غلى غيره ، ولايعدم مسيء مكافئا ، كما لن يعدم محسن مجازيا ، والعرب تقول : دخل بيتا ماخرج منه.
وعجبتني الابيات اللي حطيتيهم
احب مكارم الاخلاق..واكره ان اعاب وان اعيبا
واصفح عن سباب الناس حلما.. وشر الناس من يهوى السباب
ومن هاب الرجال تهيبوه ..ومن حقر الرجال فلن يهابا