السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
( لحظة موت النبى..وقوله: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)
_____________________________________
عن أنس رضي الله عنه قال: لما ثَقُل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشَّاه، فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كَرْبَ أباه. فقال: ((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)). فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب رباه دعاه، يا أبتاه مَن جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه فلما دُفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحْثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ [رواه البخاري].
الشرح
قال الإمام النووي- رحمه الله تعالى- فيما رواه عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-
_أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه.
((جعل يتغشاه الكرب)) أي: من شدة ما يصيبه جعل يُغشى عليه من الكرب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يُشدَّد عليه الوعك والمرض، كان يوعك كما يوعك الرَّجُلان من الناس.
_والحكمة في هذا ، من أجل أن ينال صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الصبر.فإن الصبر منزلة عالية، لا ينال إلا بامتحان واختبار من الله- عز وجل- لأنه لا صبر إلا على مكروه.
فإذا لم يُصب الإنسان بشيء يكره فكيف يعرف صبره،
ولهذا قال الله تعالى:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين﴾ [محمد:31]
_فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوعك كما يوعك الرَّجُلان من الناس.
فجعل يتغشاه الكرب، فتقول فاطمة- رضي الله عنها- ((وا كرب أباه)) تتوجع له من كربه، لأنها امرأة ، والمرأة بطبعها شديدة العاطفة والتأثر..
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (( لا كرب على أبيك بعد اليوم)) لأنه صلى الله عليه وسلم لما انتقل من الدنيا انتقل إلى الرفيق الأعلى، كما كان صلى الله عليه وسلم – وهو يغشاه الموت- يقول ((اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى )).. (أخرجه البخاري)وينظر إلى سقف البيت صلى الله عليه وسلم . فهل سيكون كرب بعد الدنيا وما فيها؟_توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، فجعلت، رضي الله عنها- تندبه، لكنه ندب خفيف، لا يدل على التسخط من قضاء الله وقدره.
ومعنى الندب
ندَب الميِّتَ عدَّد محاسِنَه ، وبكاه كأنّه يسمعه { اى رثاه}.قاموس المعانى
_قولها((أجاب ربا دعاه)) لأن الله – سبحانه وتعالى- هو الذي بيده ملكوت كل شيء، آجال الخلق بيده، تصريف الخلق بيده، كل شيء إلى الله، إلى الله المنتهى وإليه الرجعى.
فأجاب داعي الله، وهو أنه صلى الله عليه وسلم إذا توفي صار كغيره من المؤمنين، يصعد بروحه حتى توقف بين يدي الله- عز وجل- فوق السماء السابعة. فقالت : وا أبتاه، أجابَ ربَّا دعاه.
_وقولها: (( وا أبتاه جنة الفردوس مأواه)) صلى الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام أعلى الخلق منزلة في الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( اسألوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو)) (أخرجه مسلم).
_ ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم مأواه جنة الفردوس، وجنة الفردوس هي أعلى درجات الجنة، وسقفها الذي فوقها عرش الرب جل جلاله، والنبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجة منها.
_قولها : ((يا أبتاه إلى جبريل ننعاه)) النعي: هو الإخبار بموت الميت، وقالت : إننا ننعاه إلى جبريل لأن جبريل هو الذي كان يأتيه بالوحي صباحاً ومساء.
فإذا فقد النبي عليه الصلاة والسلام ؛ فُقد نزول جبريل عليه الصلاة والسلام إلى الأرض بالوحي؛ لأن الوحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم .
_ثم لما حُمل ودفن قالت رضي الله عنها: ((أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟)) يعني من شدة وجْدها عليه، وحزنها ، ومعرفتها بأن الصحابة- رضي الله عنهم- قد ملأ قلوبهم محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فهل طابت؟
_والجواب: أنها طابت؛ لن هذا ما أراد الله- عز وجل- وهو شرع الله، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام يُفدى بكل الأرض لفداه الصحابة رضي الله عنهم.
_لكن الله – سبحانه- هو الذي له الحكم، وإليه المرجع، وكما قال الله تعالى في كتابه: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر:30،31] .
__________________________________________________ _________________
الفوائد:
**في هذا الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيرة من البشر، يمرض ويجوع، ويعطش،ويبرد ، ويحتر وجميع الأمور البشرية تعتري النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال صلى الله عليه وسلم (( إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون)) (خرجه البخاري).
**وفيه: رد على هؤلاء القوم الذين يُشركون بالرسول صلى الله عليه وسلم ؛ يدعون الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويستغيثون به وهو في قبره، بل إن بعضهم- والعياذ بالله- لا يسأل الله تعالى ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كأن الذي يجيب هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولقد ضلوا في دينهم وسفهوا في عقولهم.فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعا فكيف يملك لغيره؟!
قال الله تعال آمراً نبيه ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ بل هو عبد من عباد الله؛ ولهذا قال: ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [الأنعام: 50 ] .
وقال الله- سبحانه- له أيضا ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا﴾
أي: هذه وظيفتي﴿مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ﴾ [الجـن21ـ23]،
_ ولما أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214]، دعا قرابته صلى الله عليه وسلم وجعل ينادي إلى أن قال: ((يا فاطمة بنت محمد ، سَليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً)) (أخرجه البخاري) إلى هذا الحد!! ابنته؛ التي هي بضعة منه والتي يُريبه ما رابها يقول لها: لا أغني عنك من الله شيئاً.
_فهذا دليل على أن من سواها من باب أولى.
ففيه ضلال هؤلاء الذين يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم تجدهم في المسجد النبوي عند الدعاء يتجهون إلى القبر، ويصمدون أمام القبر كصمودهم أمام الله في الصلاة أو أشد.
**وفي هذا الحديث : دليل على أنه لا بأس بالندب اليسير إذا لم يكن مؤذنا بالتسخط على الله عز وجل، لأن فاطمة تكلمت بكلمات عند موت النبي عليه الصلاة والسلام،لكنه لا ينم عن اعتراض على قدر الله عز وجل.
**وفيه دليل: على أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها بقيت بعد موته ولم يبق من أولاده بعده إلا فاطمة،كل أولاده من بنين وبنات ماتوا في حياته صلى الله عليه وسلم. بقيت فاطمة ، ولكن ليس لها ميراث، لا هيَ، ولا زوجاته، ولا عمه العباس، ولا أحد من عصبته؛ لأن الأنبياء لا يُورثون،كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة))(أحمد في المسند (2/463) والحديث في الصحيحين بلفظ: ((لا نورث، ما تركنا صدقة)).
_وهذا من حكمة الله – عز وجل- لأنهم لو ورَّثوا لقال من يقول : إن هؤلاء جاءوا بالرسالة يطلبون ملْكا يورث من بعدهم؛ ولكن الله – عز وجل- منع ذلك.
فالأنبياء لا يورثون ، بل ما يتركونه يكون صدقة يصرف للمستحقين له والله الموفق.
شرح رياض الصالحين للامام النووى بتعليق للشيخ ابن العثيمين
ذكرنا الله وايَّاكم