نعم.. يتفشى الظلم.. القوي يفتك بالضعيف، والقادر يسلب حق العاجز،
والغالب يريق دم المغلوب، والحاكم يهضم حق المحكوم، والكبير يقهر الضعيف،
ولا مـخرج مـن هـذا الهـرج والمـرج إلا العـدل؛ فما مـفهوم العـدل؟ وما أنـواعـه؟
1- العدل الحقيقي
مفهوم العدل الحقيقي يقوم على ثلاثة أركان: "إعطاء كل ذي حق حقه، وإن خيرًا فخير،
وإن شرًّا فشر، ومن غير تفريق بين أحد"، وهذا هو مفهوم
العدل في الإسلام، حتى تختفي الصور الكريهة في المجتمعات، وإن حدث تهاون في أي جزء من
هذه المفاهيم الثلاثة حدث خلل في العدل، ولذلك فهي
دوائر متداخلة، فلا يصح إعطاء كل ذي حق حقه مثلاً في الخير فقط وليس في العقاب!!
كما لا يصح إعطاء كل ذي حق حقه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا
فشر، ولكن بترك الكبير والشريف، وتطبيقه فقط على الضعيف والمقهور والعاجز،
فالكل سواسية، لا تفريق بين المستحقين.
وحاجتنا إلى العدل في كل لحظة.. فقد بعث الله الرسل وأنزل الكتب لإقامة العدل،
والـدليل في قولـه تعـالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (أي العدل) (الحديد: من الآية 25)،
وقد شبه الله تعالى العدل بالميزان؛ فهو لا يختل أبدًا فالخلل من الناس،
ولذلك: فهو سبب للسعادة، فالإنسان يتألم من سلب حقوقه،
وهو كذلك يأمن المجتمعات من الدمار والهلاك، فكل مناحي التشريع
ترتبط بصفة العدل في: (نظام الإدارة- نظام الحكم- نظام القضاء-
نظام الأسرة- نظام الاقتصاد- نظام الاجتماع- السلوك).
2- كيف نحقق العدل؟!
1- عدل في الدنيا: يقول تعالى:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)
(الحديد: من الآية 25)،
فعلى مر الزمان جاء الأنبياء والرسل ليدفعوا الظلم عن الناس،
ويمنعوا ضرره، وينشروا العدل، ويكفي أن أول جريمة على الأرض
وأول معصية في الوجود، أودت بحياة إنسان بريء على وجه الأرض.
2- عدل في الآخرة: وهو الذي استأثر به الله تعالى يوم القيامة،
فلا يفلت الظالم من عقاب جرائمه وإن أفلت منها في الدنيا،
فإن الله يمهل ولا يهمل، وكذلك فالعادل لا يُحرم من أجره شيئًا،
والذي أعاده الله له جزاء تحمله ولقاء صبره لقوله تعالى:
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)
(الأنبياء: من الآية 47).
3- عدل في الواقع: عدل شامل.. يدخل تحت هذا المعنى جميع الموجودات،
من الإنسان بغض النظر عن دينه وفكره وخصومته ومحاربته؛ لقوله تعالى:
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا) (المائدة: من الآية 8)،
وكذلك الحيوان؛ فقد أقر وأمر الإسلام بعدم ظلمه من حبس
أو تعذيب أو تجويع أو حتى تحميله فوق طاقته،
ولقد حفظ المسلمون قصة المرأة المؤمنة التي دخلت النار في هرة
حبستها، وكذلك المرأة البغي التي دخلت الجنة في كلب قدمت له
شربة ماء فأنقذته من الموت،
وكذلك الكون كله قائم على العدل، فلا الشمس تتقدم على القمر،
ولا الليل بسابق النهار، حتى حركة أجهزة الإنسان
وانفعالاته وردود أفعاله قائمة على العدل.
وعدل خاص بالإنسان.. سواء كان في علاقته مع نفسه
أو مع الناس أو في دولته، فعدله مع نفسه: يوازن بين العقل والغضب
والشهوة، سواء كان العدل ذاتيًّا نابعًا من كيانه أو أثرًا من الخارج
كعلم أو معرفة أو إدراك أو اقتداء،
وتتـجلى صور العـدل مع النفس في عدة صور، مثل:
العدل بين الجسد والروح، والعدل بين العقل والفكر،
والعدل بين العمل والكسل والعدل في الأخذ والعطاء.
وعدله مع الناس.. نعـني به الاعتدال في الحقوق والواجـبات،
في البيع والـشراء، والحكم والقضاء، في الشهادة والأمانات،
في المنع والعطاء، سواء كان أبًا أو زوجًا أو حاكمًا،
والأدلة: يقول تعالى :
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)
(النساء: من الآية 58).
وعدله في دولته.. يعمل على استقرار واطمئنان المجتمع،
وحافز على العمل والإنتاج، ونماء العمران وكثرة الخيرات والأرزاق،
والثقة بين أفراد المجتمع،
يقول ابن خلدون:
"اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم
في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها
انتهابها بين أيديهم، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض
الرعايا عن السعي في الاكتساب والعمران"،
ولذلك فالبديل- كما نرى اليوم- إذا اختفى العدل هو الثورات والانتفاضات،
مثل: غضبة الانتفاضة أمام الظلم الصهيوني،
وغضبة الشعوب المحتلة ضد محتليها،
وأخيرًا: ثورات الشعوب لرفع الظلم الواقع عليها
من أنظمتها المستبدة الظالمة.