يوم شاقٌّ مليء بالعمل مرّ على أمي.. ألقت بنفسها على الأريكة تحاول جمع شتات قواها المنهارة.. ركضت إلى حضنها الذي يشعرني بالأمان.. احتضنتها بينما أتمنى أن تزول هذه الكرة المعلقة في بطن أمي سريعاً.. لا أدري ما هي بالضبط؛ لكن أمي تقول أن بداخلها طفلاً صغيراً سيكون أخي يوماً ما؛ كما أن يزيد ويمنى أخوة سيكون هو أخي..
-هيا يا صغيرتي.. حان وقت النوم..
ركضت بسرعة نحوَ السرير الكبير الذي يجمعني بأمي كل ليلة.. غطتني أمي بغطائها المورّد الذي يبقيني دافئة حتى قبيل الفجر.. بدأتْ تقرأ علي المعوذات ككل ليلة؛ ثم تنفث على وجهي وجسمي وتنفث على نفسها.. سألت أمي:
-أمي.. ما هي حكاية اليوم؟
– إنها عن سمر..
قاطعتها فاردة أصابع يدي الخمس..
-ذات الأربع سنوات؟!
جمعت أمي كفي بين يديها الناعمتين.. مبقية الخنصر والبنصر والوسطى والسبابة بينما أطبقت على الإبهام..
-بل هكذا يا سمر.. هذه أربعة..
بدأت أمي حكايتها المعتادة.. والتي عادة ما أكون بطلتها كل ليلة..
-كانت سمر فتاة مؤدبة تطيع والدها ووالدتها وتلعب بهدوء مع أخوتها يزيد ويمنى………
وتفوتني البقية.. لأنني أكون قد ذهبت في نوم عميق..
استيقظت في وقت متأخر كالعادة.. فلا أستيقظ إلا قبل موعد الرسوم المتحركة إلا بنصف ساعة؛ على العكس من يزيد ويمنى الذين يستيقظون –مجبرين- مع أوّل خيوط الفجر ذاهبين إلى المدرسة.. شعرت بالحر يلف المكان.. غريب؛ أين أمي؟!.. لقد فات موعد الرسوم المتحركة ولم توقظني أمي كالعادة.. نزلت إلى الأسفل.. بيتنا ملئ بالنساء.. حتى في الصالة التي تجمعنا بأبي هناك نساء!! أناس لم أرهم من قبل.. نظرات الاستعطاف أراها في أعينهم.. الكل يمسح على رأسي وكأنني أذنبت ذنباً.. شعرت بالخوف يملؤ قلبي.. ناديت بملء فيّ:
-أمي!! أمي!!
احتضنتني الخالة أم يزيد وهي تبكي.. بينما سيدة أخرى تقول لها اِرفقي بها؛ إنها يتيمة..
-خالتي.. أين أمي؟!
بكت خالتي أكثر.. وشدتني بقوة أكبر إلى حضنها..
-خالتي.. هل هناك ما يؤذيك؟ أين أمي؟! ومَن كل هؤلاء؟؟! أين أمي يا خالتي؟!!
أمسكت بوجهي بين يديها محاولة جذب انتباه عقلي -المشغول بأمي- لها..
– أمك قد رحلت يا سمر..
– رحلت!! أين رحلت؟؟ كان من المفترض أن توقظني حتى نشاهد الرسوم المتحركة سوياً!! أين ذهبت يا خالتي؟؟ ولم تبكين؟!
– أمك ماتت يا سمر.. ماتت وهي تلد أخاك..
– ماتت!! ماذا يعني أنها ماتت؟؟ لا يهم ما حصل أريد أن أرى أمي يا خالتي.. خذيني إلى هناك.. أنت تعرفين المكان أليس كذلك؟ هيا يا خالتي..
– سمر.. لا نستطيع أن نذهب إليها.. لقد ذهبت أمك بلا عودة..
– كلا.. أمي ستعود.. كانت قد وعدتني أن نلعب اليوم معاً.. قالت لي أنها ستشتري لي دمية جديدة لها بيت كبير.. سأذهب إليها وحدي..
أفلتّ من بين يدي خالتي أم يزيد.. ركضت خارجة من البيت بكل ما أوتيت من قوة وذهبت إلى الشارع الكبير.. ذلك الشارع الذي كم من المرات منعتني أمي من اللعب فيه.. أين هي اليوم تمنعني خوفاً علي من السيارات المسرعة.. وقفت تحت الشجرة الكبيرة التي اعتدت الجلوس تحتها مع يزيد حتى نشتري الحلوى والمثلجات من ذلك العجوز.. صرخت بأعلى صوتي.. أمــي.. أمــي.. وبكاء وانقطاع في النفس ينتابني.. لا أحد حولي يحميني.. أمــي.. أين أنتِ؟!.. أمــي.. عودي يا أمــي.. لن أعصي لكِ أمراً.. فقط عودي لي يا أمــي..
أحسست بيد كبيرة غليظة تحط على كتفي.. التفتّ بكل رعب.. إنه أبي.. ارتميت في حضنه وأنفاسي تتقطع.. تعلّقت به بكل قوة.. أبي أين أمي؟! نشيج يصدر من أبي بينما يحتضنني بقوة أكثر..
-أبي لم تركتني أمي؟؟ سآخذ الدواء بكل هدوء بعد اليوم فقط أريدها أن ترجع مرة أخرى..
يا إلهي.. كم هو مؤلم أن تفارق من تحب.. عشت مع أمي سنين جميلة.. لم تكن يوماً أو يومين حتى أنساها سريعاً.. لقد كانت أربع سنوات من عمري.. جمعتني مع منبع الحنان.. لك أن تتخيل ألم الفراق بعد اجتماع دام لأربع سنوات..
-=-=-=-
مرت ثلاثة أعوام.. التحقت بعدها بالمدرسة.. كل الأطفال معهم أمهاتهم إلا أنا؛ ترافقني خالتي أم يزيد.. أصبحت مع مرور الأيام أكثر وِحدة وانطواءً.. نظرات العطف تدور من حولي.. الكل يقول للآخر: ارفقوا بها؛ إنها يتيمة..
يتيمة.. يتيمة.. يتيمة.. وصف التصق بي وكأنه مطبوع على جبيني.. لِمَ يناديني الكل باليتيمة؟! أهناك ما هو مختلف!! هل هناك شيء في وجهي يجعلهم ينادونني باليتيمة؟! أخذت كرسي أمي.. وقفت عليه أقلب نظري في المرآة التي تعكس وجهي.. لا شيء مختلف؟ سوى وجه دائري وشعر مقسوم بالمنتصف ومضفّر حتى آخره تزينه لفافة بيضاء من المطاط.. إذن؛ لهذا يسمونني اليتيمة؟! لكن يمنى تعمل نفس الشيء في شعرها!!
بدأت أستسيغ مسمى اليتيمة الذي نعتوني به.. على الرغم من أنه اسم لا أفهمه لكنه بات عادياً بالنسبة لي.. ومع هذا مؤلم أيضاً.. خاصة بعد ذلك الكفّ الذي ضربتني إياه أم أماني يوم أن نجحت في السنة الثالثة وكسبت المركز الأول فتشاجرت معي أماني على الهدية الكبيرة حتى مزقت غلافها اللامع وضربتها غضباً.. فما كان جزائي سوى كفّ آخر مؤلم انطبع على خدي مرددة:
-لم يبقَ إلا الأيتام يضربون أبناءنا!!
مرة أخرى أسمع لفظ اليتيمة!! عدت إلى البيت باكية وارتميت على سريري.. أجهشت بالبكاء منادية أمي بين كل فترة وأخرى.. وغطست في نوم عميق..
أشعة الشمس تشق طريقها نحو غرفتي بكل كسل.. قمت متراخية..
رأيت وجهي في المرآة.. نفس الوجه المستدير غير أنه بلا خطّ يقسّم شعري من المنتصف..
لفت نظري وجود لفافة كبيرة على منضدتي مغلفة بورق لامع عليها بطاقة صغيرة..
حررته: صدى (ابنة الرجل)
16-3-2017
الموافق 24 محرم 1445هـ
قصتك رغم انها مؤلمة وابكيتني فيها sid sid خصوصا عند بعض الكلمات التي خطتها يديك لكنك ابدعت كالعادة فجزاك الله الف خير
وراااائعه ياصدوووو كالعادة
بارك الله فيك وفي قلمك
وراجعه ..
بس أكيد عشانها من يدك .. أكيد حلوه
راجعه
روعه روعه .. روووووووووووعه .. بتعب وأنا أقول رائعه ..
أبدعتِ ياصدى .. كالعاده ..
——–
بس هذا الرد حسيت إن الخاله ماعندها أسلوب
(( أمك ماتت يا سمر.. ماتت وهي تلد أخاك ))
حرام عليها .. بنت صغيره كذا تقولها <<<< اندمجت
وإلا هذا …
قهرررررررررررني
(( -لم يبقَ إلا الأيتام يضربون أبناءنا!! ))
لو إن الحرمه قدامي .. كان وريتها الشغل
فبارك الله فيكِ
رائعة رائعة ياصدى
اندمج جدا مع القصص التي تكتيبيها
بارك الله فيك عزيزتي
والله قراتها وعيوني دمعت
بارك الله في الانامل التي خطت القصه
قرأتها لك في مجلة الاسرة ..