بقلم: محمود القلعاوي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
إنها إرادة الإيمان وقوة اليقين.. هذه الإرادة التي تعتبر من أعظم أسرار النجاح في الدنيا والآخرة على السواء.. إرادة تجعلنا نطلب معالي الأمور.. تجعلنا نناطح السحاب.. تجعلنا لا نرضى بسفاسف الأمور.. يقول الشاعر المسلم في ذلك:
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرًا (1)
ويقول آخر:
إذا ما كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم (2)
أستاذ العمالقة
لما نزل قوله تعالى: ﴿قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)﴾ (المزمل).. فإذا به- صلى الله عليه وسلم- يقوم فلا يقعد حتى تشفق عليه خديجة- رضي الله عنها- فتدعوه إلى أن يستريح ولو قليلاً، فيقول: "مضى عهد النوم يا خديجة" وظلَّ هذا شأنه إلى أن لقيَ ربَّه (4).
من جيل العمالقة
وهذا صلاح الدين الأيوبي- رحمه الله- القائد العظيم يسيطر عليه همُّ الأقصى الأسير، فلا يعرف الضحك له طريقًا؛ لهمِّه الذي أهمَّه، ويقول: "إني لأستحي من الله أن يراني أضحك وبيت المقدس في أيدي الصليبيين"، فأكرمه الله بتحرير بيت المقدس على يديه (5).
اتركوه لعل الله يرزقه الشهادة
ويحدثنا التاريخ عن إرادة أحد هؤلاء العمالقة عمرو بن الجموح- رضي الله عنه- حين جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- عند خروجه إلى غزوة أُحُد يشكو إليه أبناءَه الذين يمنعونه من الخروج، قائلين له: "لقد عذرك الله"- وكان ذلك بسب عرج في رجله- ونحن نقاتل عنك، وإني يا رسول الله أحبُّ أن أجاهدَ معك فأُستَشهد فأدخل الجنة فأطأ بعرجتي هذه الجنة".
فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم- لأبنائه: "اتركوه، لعل الله يرزقه الشهادة"، وخرج معهم إلى أحد .. وهنالك نال ما كان يتمناه الشهادة في سبيل الله (6).
لست أبالي
دخل حبيب بن زيد إلى مسيلمة يدعوه إلى التوحيد، فأخذ مسيلمة يقطعه بالسيف قطعةً قطعةً، فما أنَّ ولا صاح ولا اهتزَّ حتى لقِيَ ربَّه شهيدًا، ورُفع خبيب بن عدي على مشنقة الموت، فأنشد:
فلست أبالي حين أُقتل مسلمًا على أيِّ جنبٍ كان في الله مصرعي
لحظة الصراع
هذه الإرادة التي هي من أعظم أسباب النجاح والسرور في الدنيا والآخرة، التي جعلت سحرة فرعون يقفون أمام هذه القوة الغاشمة قوة فرعون الطاغية.. إن القوة الأرضية كلها ضئيلة ضئيلة.. الحياة الأرضية كلها زهيدة زهيدة.. وكانت قد تفتَّحت لهذه القلوب آفاق مشرقة وضيئة لا تبالي أن تنظر بعدها إلى الأرض وما فيها من متاع تافه.. ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)﴾ (طه).
إنها لمسة الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعبُدُ فرعون وتعدُّ القربى منه مغنمًا يتسابق إليه المتسابقون، فإذا هي بعدَ لحظةٍ تواجهه بكل قوة (7).
لو أخَّرت الوقت حتى ترتاح
ذهب طالبٌ من بلاد الإسلام يدرس في الغرب، وفي لندن تحديدًا، فسكن مع أسرة بريطانية غير مسلمة في مسكن واحد، وكان متدينًا حريصًا على الصلاة في وقتها، وكان يستيقظ لصلاة الفجر، فيذهب إلى صنبور الماء ويتوضأ وكان الجوُّ باردًا والماء باردًا، ثم يذهب إلى المسجد ليصلي لربه، وكانت عجوزٌ في البيت تلاحظه دائمًا، فسألته بعد أيام: ماذا تفعل؟! قال: أمرني ديني أن أفعل ذلك، قالت: فلو أخَّرت الوقت الباكر حتى ترتاح في نومك ثم تستيقظ!! قال: لكن ربي لا يقبل مني إذا أخَّرت الصلاة عن وقتها فهزَّت رأسها، وقالت: إرادة تكسر الحديد!!
فأين إرادتك؟!
فأين إرادتك من هذه الإرادة الفولاذية..؟ أين إرادتك من إرادة تكسر الحديد..؟ من إرادة تخرُّ أمامها الجبال!!
———-
المصادر
1،2،5 مفاهيم تربوية (الجزء الثالث) لفضيلة الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب.
4-5 صفات سلوكية وتربوية للأستاذ/ محمد عبد الحليم حامد.
7-6 في ظلال القرآن (الجزء الرابع) للأستاذ الشهيد/ سيد قطب.