يطيب لي أن أقدم لك
قصة الخليفة العادل
عمر بن عبدالعزيز
وشعراء عصره
لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم، فمر بهم رجاء بن حيوة فقال له جرير
يا أيها الرجل المرخي عمامته
هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئا، فمر بهم عدي بن أرطاة، فقال له جرير منشدا:
يا أيها الراكب المزجي مطيته
هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه
أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لاقيت مغفرة
قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك، وسهامهم مسمومة، وأقوالهم نافذة. فقال: ويحك يا عدي! مالي وللشعراء. فقال: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه، فأعطاه حلة. فقال له عمر: أتروي منها شيئا؟ قال: نعم. فأنشده:
رأيتك يا خير البرية كلها
نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا
عن الحق لما أصبح الحق مظلما
لونورت بالبرهان أمرا مدلسا
وأطفأت بالقرآن نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا
وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه
وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا
وكان مكان الله أعلى وأعظما
فقال عمر: ويحك يا عدي! من بالباب منهم؟ فقال: عمر بن أبي ربيعة فقال: أليس هو الذي يقول:
ثم نبهتها فهبت كعابا
طفلة ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت
ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعد جئت تسري
تتخطى إلى رءوس النيام
ما تجشمت ما تريد من الأمر
ولا جئت طارقا لخصام
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم وستر على نفسه! لا يدخل علي والله أبدا، فمن بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب – يعني الفرزدق – فقال عمر: أو ليس هو الذي يقول:
هما دلتاني من ثمانين قامة
كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا
أحي يرجى أم قتيل نحاذره
لا يطأ والله بساطي وهو كاذب،فمن سواه بالباب؟ قال: الأخطل. قال: أو ليس هو الذي يقول:
ولست بصائم رمضان طوعا
ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنسا بكور
إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائر بيتا بعيدا
بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو
قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا
وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا فهل بالباب سوى من ذكرت؟ قال: نعم، الأحوص قال: أليس هو الذي يقول:
الله بيني وبين سيدها
يفر مني بها وأتبعه
فما هو دون من ذكرت، فمن ههنا غيره؟ قال: جميل بن معمر. قال: الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت
يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب
إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحا! والله لا يدخل علي أبدا، فهل بالباب أحد سوى ذلك؟ قال: نعم، جرير قال: أما إنه الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لابد فأذن لجرير. فأذن له فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمدا
جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه
حتى ارعوى وأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا
والنفس مولعة بحب العاجل
فقال له عمر: ويحك يا جرير! اتق الله فيما تقول. ثم إن جريرا استأذن عمر في الإنشاد فلم يأذن له ولم ينهه، فأنشده قصيدة طويلة يمدحه بها، فقال له: ويحك يا جرير! لا أرى لك فيها ههنا حقا. فقال: إني مسكين وابن سبيل. فقال إنا ولينا هذا الأمر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم، أخذت أم عبد الله مائة، وابنها مائة، وقد بقيت مائة. فأمر له بها، ثم خرج على الشعراء، فقالوا: ما وراءك يا جرير؟ فقال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين، وهو يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء وإني عنه لراض. ثم أنشأ يقول:
رأيت رقي الشيطان لا تستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيا
شكرا لكم لتفضلكم بالمطالعة
أخيكم