وارتجال مناقب أهل البيت والأئمة، عند الشيعة
ولكن هذه المعتقدات عن الإمامة والأئمة لا تعارض الإعجاب والحب للنبي فحسب، بل إنها تضادّه وتتصادم معه، فكانت النتيجة الطبيعة والنفسية أن الشيعة لم يتمكنوا من تأليف كتاب قوي مؤثر في السيرة النبوية، ولا أن شعراءهم النابغين وفقوا إلى نظم ببويات قوية مؤثرة، ومدائح نبوية تتجلى فيها العاطفة القلبية في المديح الشعري للنبي ، وتتدفق فيها القريحة الوقادة، كما نرى ذلك في شعر المراثي ومناقب أهل البيت وتصوير ما حدث في كربلاء، بأسلوب ساحر وشاعرية بليغة، ولا نبغ فيهم شاعر للمديح يضاهي شعراء الهند الذين علا كعبهم في شعر المديح، دع عنك شعراء الفارسية في المديح النبوي مثل القدسي والجامي، وهذا ما يقتضيه القياس، وهي قضية معلومة، ومن المناسب في هذه المناسبة أن أنقل ما قلته في رحلتي إلى إيران في كتاب ((من نهر كابل إلى نهر اليرموك)):
((إننا شعرنا في كل مجتمع ينتمي إلى الطريقة الإمامية أن الصلة العاطفية، والحماس الداخلي في حب أهل البيت وتعظيم الأئمة، الذين كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى، لا يشك في ذلك مسلم، كاد يشغل كل فراغ في النفس والعاطفة، والعقل والضمير، ويخشى أن يكون قد أخذ الشيء الكثير من حق النبوة التي هي مصدر كل خير وسعادة، ومن شخصية الرسول الأعظم الذي نال به أهل البيت الشرف، واستحقوا الحب والتعظيم، وإنه نما وازدهر على حساب الصلة العميقة التي يجب أن تكون بين المسلم ونبيه e .
وقد ظهر ذلك الأثر الشعر الذي قاله شعراء إيران في مدح النبي e وفيما قالوا في مناقب أهل البيت، وخاصة في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وسيدنا حسين بن علي، فيفوق الثاني الأول في قوة العاطفة والتعبير عن القلب، والقدرة الشعرية وفيض الخاطر وتدفق القريحة، لمسنا هذا الفرق في الشعر الذي قاله شعراء أردوا في الهند من الجعفريين، والشعر الذي قالوه في المديح النبوي، ولمسناه في الشعر الفارسي، ورأينا هذا الفرق في الكتب التي ألفت في السيرة النبوية وفي مناقب أهل البيت كما وكيفاً، ورأيناه في الفرق الواسع بين العناية بالمشاهد والعناية بالمساجد، وبين الشوق إلى السفر إلى النجف وكربلاء (والعتبات العاليات)والسفر إلى الحرمين الشريفين .
إنني أعترف بأنه لا يخلو من رد فعل لما وقع من بعض علماء أهل السنة، والمتحمسين من هذه الفرقة في بعض العصور والأوساط، من التقصير في التنويه بفضل أهل البيت وما لهم من حقوق على المسلمين، ولكنه أكثر من رد فعل، وعلى كل فقد اتجه تيار الحب والحماسة الدينية والعاطفة الفياضة إلى هذا المركز الروحي، وأحاطت به هالات التقديس، وأهيلت عليه نعوت وصفات، أخشى أن تكون قد جعلت الإمامية منافسة للنبوة أو مشاركة لها في كثير من الصفات . (1)
=======
(1) مقتطف من كتاب (من نهر كابل إلى اليرموك) ص 89 _ 90 .
بالرغم من هذه المعتقدات والتصريحات الغالية نحو أئمة أهل البيت ، التي تقرر أنهم أناس فوق البشر ، وتخلع عليهم من بعض النواحي صفات الألوهية ، تصورهم كتب الشيعة بما يشير أنهم كانوا فاقدي الشحاعة والجراءة في إظهار الحق ، بما فيهم أسد الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والعياذ بالله ، وكانوا يعيشون في خوف من المخاوف والأخطار ، ويتبعون سياسة المصالح وإخفاء الحق ، ويعتمدون على سلاح ((التقية)) لا كوسيلة موقتة وسلاح شخصي ، بل باعتبارها عبادة وذريعة للتقرب إلى الله تعالى (1) ، وهم يستغلون هذا السلاح في مناسبة وغير مناسبة ، ويبعدون الأمة المحمدية عن تعاليم النبوة الحقيقة ، كما أنهم يحرمون الدين العزة والغلبة بمواجهة بعض الأخطار في سبيل ذلك ، إن صورة هؤلاء الأئمة العظام التي تصورها الكتب التي ألفت في مناقبهم وفضائلهم – أعاذهم الله تعالى – لا تختلف إطلاقاً عن صورة الماسونية (Masons Free) وجمعية إخوان الصفا (2) ، وصورة المنظمات السرية التي توجد في بلاد ودول مختلفة ، ولا تثور في النفس بدراستها والاطلاع عليها روح الطموح والعزيمة ، والمغامرة والمخاطرة لنشر الذين وتغليب الإسلام ، تلك الروح الغالية التي غيرت مجرى التاريخ والأحداث في عهود مظلمة متعددة وأوضاع شاذة خلال أربعة عشر قرناً من تاريخ الإسلام ، وأرغمت التاريخ على أن ينحو نحواً جديداً .
بالعكس من ذلك ، فإن الروايات التاريخية الكثيرة تدل على علو همة أفراد أهل البيت الكبار ، وأخذهم بالعزيمة ، وحرصهم الشديد على اجتماع كلمة المسلمين وانتظام شملهم ، ومما يدل على ذلك ما روي عن البابكي (2) أحد أصحاب زيد بن علي ، قال : خرجنا مع زيد بن علي إلى مكة ، فلما كان نصف الليل واستقرت الثريا ، فقال : يا بابكي أما ترى هذه الثريا ، أترى أحداً ينالها ؟ قلت : لا ! قال : والله لوددت أن يدي ملصقة بها ، فأقع إلى الأرض أو حيث أقع ، فأقطع قطعة قطعة ، وأن الله أصلح بين أمة محمد e .
يصور الكتّاب الإماميون والمتشيعون لهم سادة أهل البيت كأنهم لا هم لهم في الحياة ولا شغل إلا انتزاع الخلافة من أيدي المغتصبين لها ، وعندهم غيظ على وقوعها في أيدي الغاصبين الظالمين ، قد أصبح لهم الشغل الشاغل والخاطر المستولي على أعصابهم وتفكيرهم ، لا شأن لهم بالمجتمع الإسلامي المعاصر الذي تكون بجهود جدهم – صلوات الله وسلامه عليه – ودعوته وتربيته ، وبهدايته وتوجيهه الديني ، ولا شأن لهم بالعبادة والزهادة والإرشاد إلى طرائق الحق ، ودعاء الخلق إلى الله .
ولكن التاريخ الذي لم يصطبغ بصبغة طائفية يصورهم تصويراً أجمل وأجدر بمكانتهم في الدين وشرف الانتساب إلى رسول الله e نسباً واقتداءً ، وهناك مقتطفات مما جاء في وصف سيدنا جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم ، يقول المؤرخون :
(قد اتصف الإمام الصادق التقي بنبل المقصد وسمو الغاية ، والتجرد في طلب الحقيقة من كل هوى ، أو عرض من أعراض الدنيا ، فما طلب أمراً دنيوياً ، وما طلب أمراً تتأشبه الشهوات أو تحف به الشبهات ، بل طلب الحقائق النيرة الواضحة وطلب الحق ، لا يبغي به بديلاً) (3)
ويصف الإمام مالك حاله فيقول :
((كنت آتي جعفر بن محمد وكان كثير التبسم ، فإذا ذكر عنده النبي اخضر واصفر ، ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال : إما مصلياً ، وإما صائماً ، وإما يقرأ القرآن ، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله e إلا على طهارة ، ولا يتكلم فيما لا يعنيه ، وكان من العباد والزهاد الذين يخشون الله)) (4)
رُوي أن الإمام جعفر الصادق قال ((إياكم والخصومة في الدين ، فإنها تحدث الشك وتورث النفاق)) ورويت هذه الكلمة مسندة إلى أبيه الإمام محمد الباقر . هذه الأخبار وغيرها الذي يشبهها كثير ، هي في جملتها تومئ إلى أن الإمام الصادق ما كان يتجه إلى الانتقاض على الحكام ، لأنه لا يعتقد أنها تؤدي إلى إقامة الحق وخفض الباطل ، إذ إن الأهواء قد تحكمت .(5)
إن سادة أهل البيت وكبرائهم وسادتهم قد اتصفوا بترفع النفس وعلو الهمة والاشتغال بمعالي الأمور دون سفاسفها ، وبقوة الشكيمة ورباط الجأش ، وإيثار اليد السفلى ، وكانوا في سعة الحلم وبعد الأناة كالجبال الراسيات ، فإذا جد الجد وكان لا بد من خوض المعركة ، ثاروا كالليوث ، يصدق عليهم ما قاله الشاعر الأموي الحطيئة (م 59) بدلاً ممن قال فيه هذا الشعر البليغ الذي يستحق أن يعد من غرر المديح ودرره في الشعر العربي :
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا *** وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها *** وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى *** بنى لهم آباؤهم وبنى الجد
================
(1) ينمي إلى الإمام الصادق أنه قال لصاحبه ومريده الصادق سلمان ( يا سلمان إنكم على دين من كتمه أعزه الله ومن أذاعه أذله الله )وكذلك يروى قول الإمام الباقر (إن أحب أصحابي إليّ وأورعهم وأتقاهم أكتمهم لحديثنا) أصول الكافي ص 485 – 486 حتى وجاء فيه (إن تسعة من عشرة 9/10 من الدين
((تقية)) ومن لا يعمل بالتقية فليس عنده من الدين شئ ص 482
(2) كانت جمعية سرية لحملة الأراء الفلسفية الحرة (وفيهم عدد من الأطباء) في العهد العباسي ، وكانوا قد أطلقوا عليهم لقب ((إخوان الصفا)) كانت بغداد مقرهم في القرن الرابع الهجري ، كان هؤلاء يجتمعون بسرية ، ويتبادلون يجتمعون في أوقات خاصة دون أن يحضرهم أي شخص أجنبي ، إنهم كانوا فلسفتهم في صورة 52 رسالة تعرف برسائل إخوان الصفا ، أما محررو هذه الرسائل فقد كتموا أسماءهم ، ولقد كان المعتزلة ومن على شاكلتهم يأخذون نقول هذه الرسائل ويحملونها إلى الأقطار الإسلامية بطريق سري ، وقد طبعت في ليبزج في 1883م .
(3) اسمه عبد الله بن مسلم بن بابك (مقاتل الطالبيين) ص 129 .
(4) مقاتل الطالبيين ص 129
(5) الإمام الصادق للعلامة أبو زهرة ص 76 .
(6)أيضا 77
(7)أيضاً