إنَّ الحَمـدَ لله ، نحمـدَه ونستعينُ به ونستغفره ونستهديه ، ونعـوذُ باللهِ تعالى من شرورِ أنفسِنا ، وسيئاتِ أعمالِنا ، مَن يهـدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَه ، ومَن يُضلِل فلا هادىَ لَه ، وأشهـدُ أنْ لا إلَهَ إلاّ اللهُ وحـدَه لا شريكَ له ، وأشهـدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورسولُه .
ثُمَّ أمَّا بعـد ؛
الغُـربَة كلمـةٌ ما أقساها على النَّفْس .
كم عِشناها ، وذُقنا مرارتَها .
ولم نمُرُّ بها وحـدنا ، لكنْ سبق وأنْ عاشها قبلنا نبيُّنا محمدٌ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم _ وصحابتُه _ رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين .
فـ نحنُ في زمن الغُـربـة الثاني .
ورغم ما نُعانيه مِن آلامٍ وأحزانٍ في هـذا الزمن ،
إلاَّ أنَّ ما يُصبِّرنا هو قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (( طُوبَى للغُرَبَاء )) .
فـ أسألُ اللهَ جلَّ وعلا أن يُدخلنا جنته بغُربتنا .
و هُنا نعيشُ أيَّامًا مع كلماتٍ مُؤثِّرة وجميلة فـرَّغتُها من شريطٍ
عنوانُه : زَمَـنُ الغُـربَـة
للشيخ : محمـود المصري
فجزى اللهُ شيخنا خيـر الجزاءِ على كلماتِه .
= لم أُفرِّغ الشريطَ كاملاً ، لكنِّي فرَّغتُ جُزءًا كبيرًا منه =
فـ مَن ستعيشُ معي تلك اللحظاتِ التي تُخفِّفُ شيئًا من غُربتنا ..؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ) . رواه مسلم
قال السندي في حاشية ابن ماجه :
(غَرِيبًا) أَيْ لِقِلَّةِ أَهْله وَأَصْل الْغَرِيب الْبَعِيد مِنْ الْوَطَن ( وَسَيَعُودُ غَرِيبًا ) بِقِلَّةِ مَنْ يَقُوم بِهِ وَيُعِين عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَهْله كَثِيرًا (فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) الْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ ، و"طُوبَى" تُفَسَّر بِالْجَنَّةِ وَبِشَجَرَةٍ عَظِيمَة فِيهَا . وَفِيهِ تَنْبِيه عَلَى أَنَّ نُصْرَة الإِسْلام وَالْقِيَام بِأَمْرِهِ يَصِير مُحْتَاجًا إِلَى التَّغَرُّب عَنْ الأَوْطَان وَالصَّبْر عَلَى مَشَاقّ الْغُرْبَة كَمَا كَانَ فِي أَوَّل الأَمْر اهـ .
بارك الله فيك
::
جزاكم الله خير
بانتظارك اختي
فنحن نعيش غربة حقيقة
كان الله بالعون وثبتنا
أسعـد بقُربكن .
ولـذا ، لَكَأنِّي الآن أنظرُ إلى الحبيبِ محمدٍ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – هو وأصحابِه ، وهم يتسلَّلُون خِفيةً إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم خوفًا مِن بَطش المُشركين بهم في هذا الوقت ، ولا حول ولا قوةَ إلَّا بالله .
بل لَكَأنِّي أنظرُ إلى النبىِّ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – مرةً أخرى وهو يطوفُ في أسواق الحَجيج ويُنادي على الناس ويقول : مَن يُؤويني ؟ مَن ينصرني حتى أُبلِّغَ رسالةَ رَبِّي وله الجنة ؟
وتـدورُ عجلةُ الزمان ، ويعيشُ المسلمون أيضًا في هذا الزمان غُربةً كأشدِّ ما تكون ، حتى وصف النبىُّ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – حالَ الغُرباء في هذا الزمان ، فقال – كما في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود بإسنادٍ صحيح – قال : (( سيأتي على الناسِ سنواتٌ خدَّاعات ، يُصدَّقُ فيها الكاذِب ، ويُكذَّبُ فيها الصَّادِق ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِن ، ويُخوَّنُ فيها الأمين ، وينطِقُ فيها الرُّوَيْبِضَة )) ، قيل : وما الرُّوَيْبِضَةُ يا رسولَ الله ؟ قال : (( الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلَّمُ في أمر العامَّة )) ، ولا حولَ ولا قوة إلَّا بالله .
~
إنَّنا نعيشُ زمانًا اجتمعت فيه جُلُّ أنواعِ الغُربـة ، زمانًا يَمُرُّ فيه الرجلُ بقبرِ الرجل فيتمنَّى أن يكونَ مكانَه ، زمانًا صارت فيه السُّنَّةُ بِدعَة والبِدعَةُ سُنَّة ، زمانًا تطاول فيه اليهودُ الأقزام على هؤلاءِ الأفاضِل مِن المُوَحِّدين مِن أتباعِ سيد المرسلين صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم .
إنِّـي تذكَّـرتُ والذِّكـرَى مُؤرِّقَـةٌ .. مجـدًا تليـدًا بأيدينـا أضعنـاهُ
أَنَّى اتَّجهتَ إلى الإسـلامِ في بلَـدٍ .. تجـدهُ كالطيـرِ مقصوصًا جناحاهُ
كـم صرَّفتنـا يـدٌ كُنَّـا نُصرِّفُهـا .. وبـاتَ يملِكُنـا شعـبٌ ملكنـاهُ
استرشـدَ الغـربُ بالماضي فأرشـدَهُ .. ونحنُ كـان لنا مـاضٍ نسيناهُ
إنَّـا مشينـا وراءَ الغـربِ نقبِسُ مِـن .. ضيائِـهِ فأصابتنـا شظايـاهُ
باللهِ سَلْ خلفَ بحرِ الرُّومِ عن عـربٍ .. بالأمسِ كانوا هُنا واليومَ قد تاهُوا
وانزِلْ دِمشقَ وساءِل صخـرَ مَسجِدِها .. عَمَّن بناهُ لعـلَّ الصخـرَ ينعاهُ
هـذي معالِـمُ خُـرْسٌ كُـلُّ واحـدةٍ .. مِنهُنَّ قامـت خطيبًا فاغِـرًا فـاهُ
اللهُ يعلـمُ ما خلَّفتُ سيرتَهـم .. يومـًا وأخطأ دمـعُ العيـنِ مجــراهُ
يا مَن يـرى عُمَـرًا تكسـوهُ بُرْدَتُـهُ .. والزَّيْتُ أُدْمٌ لهُ والكُـوخُ مأواهُ
يهتَـزُّ كِسـرَى على كُرسِيِّهِ فَرقـًا .. مِن خوفِـهِ ومُلوكُ الـرُّومِ تخشاهُ
يا رَبِّ فابعـث لنا مِـن مِثلِهـم نَفَـرًا .. يُشيِّـدونَ لنا مجـدًا أضعنـاهُ
زمانًا أصبح فيه الحليمُ حيرانًا .. زمانًا أصبح فيه المُوَحِّدونَ في غُربـةٍ لا يعلمُها إلَّا اللهُ جَلَّ وعَلا .
فكثيرٌ مِن الناسِ لَمَّا أراد أن يَدفعَ تِلكَ الغُربـةَ ، ما كان منه إلاَّ أنْ انسلخ مِن دينهِ كُلاًّ وجُزءًا وكَمّاً وكيفًا ، مِن أجل إرضاءِ الناس مِن حولِه ، حتَّى يعيشَ سالِمًا مُعافىً في تِلكَ الدُّنيا التي لا تُساوي عند اللهِ جَناحَ بعوضة .
أمَّا المُؤمِنُ الذي لامَسَ الإيمانُ شِغافَ قلبهِ فهو يعلمُ أنَّه في سِجن ، وأنَّه ينتظرُ الإفراجَ في جنَّةِ الرَّحمَن ، كما قال سيِّدُ الأولين والآخِرين _ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم _ كما في صحيح مسلم : (( الدُّنيا سِجنُ المؤمِن جنَّةُ الكافِر )) ، ولذا وَضَّحَ النبىُّ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – تِلكَ الغُربـةَ التي نعيشها الآن ، فقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : (( بـدأ الإسـلامُ غريبًا ، وسيعودُ غريبًا كما بـدأ ، فطُوبَى للغُرَبَاء )) .. عِند الطَّبَرانِىِّ بإسنادٍ حَسَن : قيل مَن الغُربَاءُ يا رسولَ الله ؟ قال : (( الذين يَصلُحونَ إذا فَسَدَ الناس )) .. وعند التِّرْمِذِىِّ بإسنادٍ حَسَن : قيل مَن الغُرَبَاءُ يا رسولَ الله ؟ قال : (( الذين يُصلِحونَ ما أفسدَ الناسُ مِن بعدي مِن أُمَّتي )) .. وعند أحمد بِسَنَدٍ صحيح : قيل مَن الغُرَباءُ يا رسولَ الله ؟ قال : (( أُناسٌ صالِحونَ في أُناسِ سُوءٍ كثير ، مَن يَعصيهم أكثر مِمَّن يُطيعُهم )) .
تَدَبَّـر معي ما قاله ابنُ مسعودٍ _ كما في الحديثِ الذي رواه الحاكِمُ بِسَنَدٍ صحيحٍ _ مُوَضِّحًا غُربةَ أصحابِ النبىِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم ، قال ابنُ مسعود : ‹‹ أوَّلُ مَن أظهَرَ الإسلامَ سَبعة : رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وأبو بكر ، وعَمَّار ، وأُمُّه سُمَيَّة ، وصُهَيْب ، وبِلال ، والمِقداد . فأمَّا رسولُ اللهِ فمنعه اللهُ بعَمِّه ( أى حماه اللهُ بِعَمِّه ) ، وأمَّا أبو بكر فمنعه اللهُ بقومِه ، وأمَّا سائِرُهم فلقد أخذهم المُشرِكونَ وألبسوهم أدرُعَ الحديد ، وصهرورهم في الشمس ، فما منهم مِن أحدٍ إلاَّ وقد واتاهم على ما أرادوا إلاَّ بِلال ، فإنَّه هانت عليه نفسُهُ للهِ ، وعُذِّبَ في سبيل اللهِ عذابًا شديدًا ، فكانوا يجرُّونَه على رمضاء مكة ويضعون الصخورَ العظيمةَ على صدره ، وهو يقولُ نشيدَه الخالِد : أَحَـدٌ أَحَـد ›› ، فيمُرُّ أبو بكرٍ _ رضى اللهُ عنه وأرضاه _ ويقولُ له : يُنجِّيكَ اللهُ الواحِدُ الأحد . ولم يكتفِ أبو بكرٍ بتِلكَ الكلمات الطيبةِ الجميلة ، وإنَّما ذهب وصفَّى التجارات وجَمَعَ الأموالَ مِن أجل أنْ يشترىَ العبيدَ والأرِقَّاء ، ليُعتقهم مِن أجل رَبِّ الأرضِ والسماء ، خشيةَ أن يُفتَنوا في دينهم . فلَمَّا أَعتق أبو بكرٍ بِلالاً ، قام المُنافِقون وقالوا : واللهِ ما أعتق أبو بكرٍ بِلالاً إلاَّ ليدٍ كانت عنده . فسكت أبو بكرٍ ، وتولَّى الرَّدَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِن فوق سبع سماوات ، فنزل جبريلُ يَشُقُّ السَّبع الطِّباق بقُرآنٍ يُتلَى إلى يومِ القِيامة : ﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ الليل/19-21 .
والحَقُّ جَلَّ وعَلا يُخبِرُ دائِمًا وأبدًا أنَّ أهلَ الغُربةِ قِلَّةٌ قليلةٌ ، وثُلَّةٌ ميمونةٌ ثابتةٌ على التوحيد وعلى العقيدة للهِ جَلَّ وعَلا ، وما ضرَّهم أنَّهم قليل ، فَحَسْبُكَ أن تكونَ مُنفردًا في كون ، حتى لو كَفَر الكونُ كُلُّهُ بالله .. أَجَلْ واللهِ ..
فـ هـذا نـوحٌ عليه السَّلام ، لَمَّا دعا قومَه ألفَ سنةٍ إلاَّ خمسين عامًا ، فما كان منهم إلاَّ أن كفروا ، وما آمن معه إلاَّ ثُلَّةٌ قليلة ، قيل إنهم ثمانون رجلاً ، وقيل إنَّهم ثلاثة عشر رجلاً ، فعلى قول إنَّهم ثمانون رجلاً ، تخيَّل أنَّه لم يُؤمن معه باللهِ جَلَّ وعَلا إلاَّ ثمانون رجلاً في 950 سنة .. ولَمَّا جاء الأمرُ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لنوحٍ عليه السَّلام : ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾ هود/36-37 ، فبدأ نـوحٌ _ عليه السَّلام _ يصنعُ الفُلْكَ ، سفينةٌ يصنعُها نـوحٌ _ عليه السَّلام _ في صحراء شاسعة ، وكُلَّما مَرَّ عليه ملأٌ مِن قومِهِ _ ليسوا مِن الأعراب ، بل مِن قومِهِ ومِن عشيرتِهِ ، بل ومِن أهلِهِ _ كانت زوجُه تَمُرُّ عليه فتسخرُ منه ، وكان ابنُه يُمُرُّ عليه ويسخرُ منه ، وكُلَّما مَرَّ عليه ملأٌ مِن قومِهِ سخِروا منه .. وبدأ نـوحٌ _ عليه السَّلام _ يشعرُ بالغُربةِ الشديدةِ بين هذا الحُطامِ المُتناثِر مِن الكُفر الذي عَمَّ الأرضَ كُلَّها ، وإذا بالحَقِّ جَلَّ وعَلا يأتيهِ بالنَّصرِ ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها .. ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ القمر/10 ، انتصِر أنتَ لدينِكَ يا رَبّ . أنا ما أُريدُ نُصرةً لنفسي . أنا ما أُريدُ إلاَّ نُصرةَ التوحيدِ والعقيدة ، ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ﴾ القمر/11-14 ، فَجَبَرَ اللهُ كَسْرَه في تلك الغُربة بأنْ نجَّاهُ ومَن معه مِن المُوَحِّدين في تلك السفينةِ ، سفينةِ النَّجاة ، سفينة نـوحٍ عليه السَّلام .