نعيش في هذه الأزمنة فتناً كبيرة ، ومتغيرات خطيرة ، تعصف بنا كعصف الريح العاتية بالورقة اليابسة , فتن تمر على العباد كقطع الليل المظلم ، تتبدل فيها الأحوال وتتغير فيها النفوس ، وتضيق بها صدور أهل الحق , وقد اخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن وقوع الفتن وعمومها وشدة خطرها ، فقال عليه الصلاة والسلام : (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً , ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، ومن يشرف لها تستشرفه ، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به) ، وهذه بعض الأدلة التي تدل على كثرة الفتن ، وتتابعها ، وعموم البلوى بها ، وأنه لا يكاد يسلم منها أحد , وهذا يفيد أن المسلم بحاجة إلى الثبات على الدين والحرص على القيم الإسلامية والفطرة السليمة والتصدي لهذه الفتن ، والثبات يحتاجه حتى الأنبياء والرسل، قال تعالى : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول في سجوده : (اللهم مثبت القلوب ثبت قلبي على طاعتك) فإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يهتم بطلب الثبات ويدعو الله تعالى به في سجوده ، فالناس أولى وأحرى إلى ذلك.
ومن أعظم الأسباب في تحقيق الثبات على الدين أن يعتصم المسلم بالكتاب والسنة ، فإنهما الأصل , وأساس الخير ، وحزام الأمان من الضلال بعد الهدى ومن الحور بعد الكور ، فمن اعتصم بهما فقد هُدي ، ومن استمسك بهما فقد فاز وأفلح ، وقد ضمن الله – تعالى – لمن تمسك بهما أنه لا يضل ولا يشقى ، قال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) , وقد لخص الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله تعالى- حقيقة الاعتصام بالقرآن العظيم بقوله : ( وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ، ومعقولاتهم ، وأذواقهم , وكشوفاتهم , ومواجيدهم , فمن لم يكن كذلك فهو مُنسل من هذا الاعتصام فالدين كله في الاعتصام به وبحبله ، علماً وعملاً ، وإخلاصاً واستعانةً ، ومتابعةً ، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة ) , وقد أجمع المسلمون أنه لا مخرج للعبد من الفتن المتلاحقة والبلايا المتعاقبة إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة ، وأجمعوا على أن من أعظم أسباب حلول الفتن مخالفة الكتاب والسنة ،كما قال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وختاماً … فإن الواجب على المسلمين الإقبال على القرآن الكريم والسنة المطهرة قراءةً وحفظاً وتعلماً وتدبراً وتعليماً والتحاكم إليهما ، ونبذ جميع الأعراف والتقاليد والعادات والأنظمة المخالفة لهما وتقديمهما على كل شيء ، وجعلهما حكماً عند التنازع والاختلاف ، فلا نقدم عليهما رأياً ولا نظاماً ولا سياسةً ولا عقلاً ولا شهوةً ولا مذهباً ، ولا أي شيء ، كما قال تعالى : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) , ويجب على طائفة – بقدر الكفاية – من علماء المسلمين وطلاب العلم المتمكنين ببذل الأوقات واستخدام شتى الوسائل في بث أخبار اليقين بنصر الدين , والإهتمام ببناء النفوس , وتربيتها التربية الإيمانية السلفية ؛ لمواجهة المرحلة المستقبلية لهذه الأمة . والحرص التام على نشر جهاد الكلمة والبيان بالحكمة البالغة والحجة الدامغة لكتم الأفواه التي تنادي إلى نبذ الكتاب والسنة والإقبال على هدي الغرب الكافر والسير وراؤهم حذو القذة بالقذة ، وهل هؤلاء المنادين الناعقين إلا دعاة للفتنة على أبواب جهنم ؟!