عني الإسلام بعمارة الأرض ورعاية الكون عناية خاصة وأولاها اهتماما مشهودا، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون وهيأ فيه الظروف المثلى للحياة
السعيدة المستقرة، ثم استخلف فيه الإنسان ليقوم بإعماره على الوجه الأكمل الذي يحقق به مرضاة ربه وخدمة بني جنسه وخدمة الكون من حوله؛ قال
تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}.. [هود : 61].
وعندما عرض القرآن قصة بدء الخليقة والنشأة الأولى أشار – في سياق ذلك – إلى أن أكبر مهدد لاستمرار الحياة الطبيعية على هذا الكوكب الوليد إنما
يأتي من سفك الدماء والإفساد في الأرض؛ يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}.. [البقرة : 30]؛ فالإفساد – الذي هو ضد الإعمار – أكبر خطر يتهدد الحياة، وهو البند الأول من المهددات التي استشعرها الملائكة
الكرام أثناء الحوار عن الأرض وخليفتها، ومن ثم فقد حذر المولى تعالى أشد تحذير من هذه الماحقة المدمرة؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}..
[المائدة : 64]، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.. [البقرة : 205]، وقال: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.. [البقرة : 60]، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلَاحِهَا}.. [الأعراف : 56]، وجرم إراقة الدماء – بغير حق – أيما تجريم وحرم الاعتداء على الممتلكات الخاصة أو على مالكيها .
وفي سياق التشريع القانوني وضعت أشد عقوبة وأقساها في الإسلام ضد المفسدين في الأرض يقول تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ }.. [المائدة : 33]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سألني الحجاج قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال قلت: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم،
وقد اصفرت ألوانهم وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم
ألوانهم وانخمصت بطونهم عمدوا إلى الراعي فقتلوه واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا).. [أصله في صحيح البخاري (برقم : 5253)] .
هذا في سياق من يقطعون الطريق أمام إعمار الأرض وازدهارها أما عن الوسائل والمشاركة المباشرة في إعمار الأرض فتشريعات الإسلام مليئة
بالتقعيد والتنظير لإعمار الكون بأفضل منهج متوازن يحقق الاستقرار النفسي والروحي للكون وساكنيه، فقد حث أبلغ الحث على بذل الجهد واستفراغ
الوسع في إعمار الأرض حتى في أحلك الظروف، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وفى يد أحدكم
فسيلة (نخلة صغيرة) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) [أخرجه أحمد (3/191)، والبخارى فى الأدب المفرد (1/168)]، وحثّ على
الزراعة وتشجير الأرض منعا للتلوّث؛ ونشراً للخضرة والخير، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه
طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة).. [ رواه البخاري (2/ 817)]، وعند مسلم: (ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة،
وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة).. [أخرجه مسلم (3/1188، رقم
1552)] .
وفي سياق الحفاظ على البيئة الطبيعية وما فيها من حيوان وطير وردت جملة من نصوص الوحي تؤكد هذه المعاني، وينبه بعض الباحثين إلى سبق
الإسلام إلى المناداة بمفهوم المحميات الطبيعية بصورة أكثر شمولا مما تعارفت عليه البشرية اليوم، من حيث إنّه لا يقتصر على حماية الطير أو
الحيوانات فحسب، بل يشمل أمورا كثيرة؛ مستشهدا لذلك بجعل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنوّرة محمية طبيعية؛ حيث قال: (اللهمّ إنّ
إبراهيم حرّم مكة، وإنّي أحرّم المدينة، حرام ما بين حرّتيها، وحماها كلّه، لا يختلى خلاها (لا يقطع نباتها)، ولا ينفّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن
أشار بها، ولا تقطع منها شجرة، إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال…).. [أخرجه أحمد في المسند (1/119)] .
وحارب الإسلام السلبية في كل مظاهرها وسحب عنها كل مبررات الشرعية؛ فبدَّع الترهب والاعتزال والانسحاب من الحياة العامة، وضاعف الأجر
بالعمل، وحث على الضرب في الأرض والمشي في مناكبها، وحذر من الطرق المؤدية إلى تبديد الحضارات وتلاشي عمرانها وهلاك الأمم، كذلك جعلت
تشريعات الإسلام إعمار الأرض المهملة سببا مباشرا لتملكها في ما يعرف عند الفقهاء بإحياء المُوات، وحرمت تقطيع الأشجار أو حرقها إلا لضرورة
ملحة، وفرع الفقهاء حديثا – استنادا لأصول الشريعة وضوابطها – أنه لا يجوز استخدام الأسلحة الكيمائية والجرثومية والنووية لما تحدثه من دمار
شامل على مساحات واسعة تطال آثاره كل إنسان دون تمييز بين مقاتل وغير مقاتل، وتهلك الحيوان، والنبات، وأضرارها تبقى أجيالا عديدة، ولأنها
تهلك الحرث والنسل وتفسد في الأرض .
والمتأمل في فقه العمارة في الإسلام يجده فقها راقيا يتناول الإعمار من أبعاده كلها وعلى كل المستويات؛ فقد بدأ بإعمار أهم كائن في الكون والذي لا
شك أنه أكبر مؤثر في ما حوله من كائنات ألا وهو الإنسان، فاهتم بإعمار نفس الإنسان أولا، وتزكية إيمانه قبل كل شيء وتعزيز روح التضحية
والجهاد في النفس الإنسانية حتى تسمو إلى عوالم الإيثار، وقد أخبر سبحانه وتعالى أن هذا الإعمار لا يعدله حتى إعمار أفضل بيت من بيوت الله في
الأرض؛ قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}.. [التوبة: 19]؛
فالإعمار المعنوي للنفوس هو الأساس الذي ينبني عليه إعمار الأرض ولا يمكن أن نؤسس لحضارة إنسانية وارفة الظلال إلا بإعمار وتزكية الجانب
الخلقي والإنساني فيها، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا
أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.. [الروم : 9] .