كنت في مزرعتي خارج المدينة بعيداً عن أعين الملاقيف خاصة أم خالد. لقد مللت منها ومن نصائحها المزعجة، فأنا ما زلت شاباً.
كنت منكباً على جهاز الكمبيوتر لا أفارقه، ولم أكن أشعر بالوقت فهو أرخص شيء عندي.
كانت الساعة الثانية ليلاً، وكان يخيّم المكان هدوء عجيب، لا أسمع إلاّ قرع أصابعي على مفاتيح الحروف، أرسل رسائل الحب إلى كل مكان!! أحدّث هذه وتلك!! أنتقل من موقع إلى آخر… أستمتع برؤية…………!!! أحاول اختراق أجهزة غيري لكن فشلت!! قد أنجح هذه المرّة.
فجأة طُرق الباب طرقاً لا يذكرك إلا بصوت الرعود، هكذا والله. تجمدت الدماء في عروقي، سقطت من فوق المقعد، انسكب الشاي على الجهاز، أقفلته، وكدت أن أسقطه من شدة ارتباكي.
حدّقت في الباب الذي يهتز من الضرب. من يطرق بابي؟! وفي هذا الوقت؟! وبهذا العنف؟! انقطع تفكيري بضرب آخر أعنف من الذي قبله، كأنه يقول: افتح الباب وإلا سوف أحطمه.
زاد رعبي… إن الطارق لا يتكلم!! ولو تكلم لخفف ذلك علي. ألم أقفل باب المزرعة؟ بلى، والأسبوع الماضي ركبت قفلاً جديداً. من هذا؟ وكيف دخل؟ ومن أين دخل؟.
ولم يوقفني عن التفكير سوى صوت الباب وهو يضرب بعنف. اقتربت من الباب وجسمي يرتجف من الرعب، وقدماي تعجزان عن حملي، فمن ذا الذي ينتظرني خلف الباب؟! هل أفتح الباب؟! كيف أفتحه وأنا لا أعلم من الطارق؟!! ربما يكون سارقاً؟ ولكن هل يطرق السارق الأبواب؟ ربما يكون……؟! أعوذ بالله.. سوف أفتحه وليكن ما يكن.
مددت يداي المرتجفتان إلى الباب، رفعت المقبض ودفعته إلى اليمين، ففتح الباب. كان وجهه غريباً، لم أره من قبل، يظهر عليه أنه من خارج المدينة. سألني غاضباً:
– لماذا لم تفتح الباب بسرعة؟
عجيب أهكذا، بلا مقدمات، لقد أرعبتني، كدت أموت من الرعب. ما زلت أحدث نفسي، بلعت ريقي، وقلت له:
– من أنت؟!
– ليس مهماً أن تعرف من أنا؟! أرغب في الدخول.
ولم ينتظر إجابتي، جلس على المقعد، وأخذ ينظر إلى الغرفة، كأنه يعرفني من قبل ويعرف هذا المكان.
– كأس ماء لو سمحت.
ارتحت قليلاً لأدبه، جلبت له الماء وشربه. كانت نظراته لي مخيفة. قال لي:
– يا بدر قم وجهز نفسك؟
كيف عرف اسمي؟ ثم أجهز نفسي لأي شيء؟ ومن أنت حتى تأمرني؟ سألت نفسي، ثم سألته:
– ما فهمت وش تريد؟
صرخ في وجهي صرخة اهتز لها الوادي والله، لم أسمع كتلك الصرخة في حياتي، صرخ قائلاً:
– قم والبس فسوف تذهب معي.
تشجعت وسألته:
– إلى أين؟
– إلى أين؟ (باستهتار) قم وسوف ترى.
كان وجهه كئيباً، وحواجبه الكبيرة وحدها تخيف الشجعان، فكيف بي وأنا من أجبن الناس؟! لبست ملابسي كان الارتباك بادياً عليّ، كنت أرتدي ملابسي وكأني طفل صغير يحتاج لأمه كي تُلبسه!!.
يا الله… من هذا الرجل؟! وماذا يريد؟! كدت أفقد صوابي… وكيف عرفني؟! آه ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. وقفت بين يديه مطأطأ الرأس، كأني مجرم بين يدي قاضٍ يوشك أن يحكم عليه. قام كأنه أسد، وقال لي:
– اتبعني.
خرج من الباب تبعته، وبت أنظر حولي كأني تائه يبحث عن شيء، نظرت إلى باب المزرعة لعله كسره؟! لكن كل شيء طبيعي؟! كيف دخل إذن؟!.
رفعت رأسي إلى السماء، كانت النجوم تملأ السماء. لم ينظر إلي، كان واثقاً أني لن أتردد في لحاقه. كان يمشي مشي الواثق الخبير ويعرف ما حوله، وأنا لم أره في حياتي!! إنه أمر محير!!.
كنت أنظر حولي لعلي أجد أحداً من الناس أستغيث به من هذه الورطة، ولكن هيهات.. بدأ في صعود الجبل، وكنت ألهث وراءه من التعب، تمنيت لو يريحني قليلاً، لكن لا جرأة لي لأخبره!.
وبينما نحن نصعد الجبل بدأت أشعر بدفء تحوّل بعد ذلك إلى حرارة تكاد تحرق جسدي، وكلما نقترب من قمة الجبل كانت الحرارة تزيد، كدت أذوب من شدة الحر. وصل القمة قبلي، ناداني..
– بدر تعال… اقترب؟
كنت أمشي مرتجفاً خلفه وأرقبه، فلما وصلت رأيت شيئاً لم أره في حياتي. رأيت ظلاماً عظيماً بمد البصر، بل إني لا أرى منتهاه. كان يخرج من هذا الظلام لهب يرتفع في السماء ثم ينخفض. رأيت ناراً تخرج منه، أقسم إنها تحطم أي شيء يقف أمامها. ترى من يصبر عليها؟! ومن أشعلها؟!.
نظرت عن يمين هذه الظلمة فرأيت بشراً أعجز عن حصرهم، كانوا عراة لا شيء يسترهم رجالاً ونساءً، أي والله حتى النساء!!. كانوا يموجون كموج البحار من كثرتهم وحيرتهم!! وكانوا يصرخون صراخاً يصم الآذان!! ووسط ذهولي سمعت ذلك الرجل يناديني:
– بدر.
نظرت إليه وكدت أبكي، قال لي:
– هيا انزل.
– إلى أين؟
– انزل إلى هؤلاء الناس.
– ولماذا؟ ماذا فعلت حتى أكون معهم؟
– قلت لك انزل ولا تناقشني.
توسلت إليه ولكنه جرني حتى أنزلني من الجبل، ثم ألقى بي بينهم. والله ما نظروا إلي وما اهتموا لأمري فكل واحد منهم مشغول بنفسه. أخذت أصرخ وأنادي وكلما أمسكت واحداً منهم هرب مني. أردت أن أعرف أين أنا؟ ومن هؤلاء البشر؟!
فكرت أن أرجع إلى الجبل، فلما خرجت من ذلك الزحام رأيت رجالاً أشداء، ضخام الأجسام، تعلو وجوههم الكآبة، ويحملون مطارق لو ضربوا بها الجبال لانهدّت، يمنعون الناس من الخروج. احترت، نظرت حولي، صرخت وصرخت وأنا أقول:
– يا الله… أين أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وماذا فعلت؟
التفت رأيت أحداً أعرفه أخيراً!! إنّها أمي!! صحت:
– أمي… أمي.
والله ما التفتت إلي، مشيت في الزحام أدفع هذا وأركل هذا، أريد أن أصل إلى أمي، فلما دنوت منها التفتت إلي، ونظرت إلي نظرة لم أعهدها!! كانت أماً حانية. كانت تقول لي:
– بدر لو صار عمرك خمسين سنة ستظل ابني الصغير!!.
كانت تداعبني وتلاطفني كأني ابن ثلاث سنين، آه… ما الذي غيرها؟ أمسكت بها، وقلت لها:
– أمي أنا بدر ألم تعرفيني؟
ردت علي…
– بدر هل تستطيع أن تنفعني بشيء؟
– أمي سؤالك غريب؟ أنا ابنك بدر… اطلبي ما شئتِ يا غالية.
– بدر أريد منك أن تعطيني من حسناتك فأنا بحاجة لها.
– حسنات.. أي حسنات يا أمي؟!
– بدر هل أنت مجنون؟ إنّها القيامة!! أنقذ نفسك إن استطعت.
أجبتها ذاهلاً…
– هل ما تقولينه حقاً؟! آه يا ويلي… آه ماذا سأفعل؟!
هربت وتركتني وما ضمتني أو رحمتني. عند ذلك شعرت بما يشعر الناس، إنها ساعة الحساب، إنها الساعة. صرت أبكي وأصرخ وأندب نفسي.. آه كم ضيعت من عمري!!.
الآن يا بدر تعرف جزاء عملك، الآن يا بدر تنال ما جنته يداك. تذكرت ذنوبي وما كنت أفعله في الدنيا. حاولت أن أتذكر هل لدي حسنات لعلي أتسلى بها؟! ولكن هيهات. آه تذكرت ما كنت أفعله قبل قليل من رؤية ومحادثة واختراق، لا لم أتمكّن من ذلك. آه… ليتني لم أفعل ولكن الآن لن ينفعني الندم أي والله.
قطع تفكيري من يصيح في الناس..
– أيها الناس هذا رسول الله محمد اذهبوا إليه.
فماج الناس بي كما يموج الغريق في البحر وصاروا يمشون خلف الصوت، لم أستطع أن أرى شيئاً. كان الناس كأنهم قطيع هائل، يسيرون مرة يميناً ومرة شمالاً يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبينما نحن نسير رأيت أولئك الرجال الأشداء وهم يدفعون الناس دفعاً شديداً، والناس تحاول الهرب، ولكن هيهات!! كل من حاول الهرب ضربوه على وجهه بتلك المطارق.
صار الناس يتساقطون في تلك الظلمة العظيمة، ورأيت بعضهم يجر رجليه فيلقى فيها، ولكن هناك من يسير من فوقها؟! أي والله.. يسيرون فوقها بسرعة عجيبة. ولا أدري إلى أين يسيرون؟! غير أني كنت أرى في آخر تلك الظلمة من بعيد نوراً يصل إليه أولئك الذين يمشون على الجسر.
كنت أقترب من تلك الظلمة شيئاً فشيئاً، والناس يصرخون كلهم لا يريد الدخول فيها فعلمت أنها النار!! نعم إنها جهنم التي أخبرنا عنها ربنا في كتابه. إنها التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ماذا ينفعني علمي بذلك الآن؟! فها أنا ذا أجر إليها!! صرخت وصرخت…
– النار… النار… النار… النار…
– بدر… بدر… بدر… ماذا بك؟
قفزت من فوق السرير وأنا أنظر حولي.
– بدر وش فيك؟!
نظرت إليها، كانت زوجتي، واصلت سؤالها:
– وش فيك باسم الله عليك؟!.
– ما في شيء ما في شيء.
– بس كنت تصرخ النار النار!! أكيد شفت كابوس، باسم الله عليك..
كنت أتصبب عرقاً لهول ما رأيت، قمت من سريري، توجّهت إلى غرفة أبنائي… أضأت النور، كانوا نائمين دخلت إليهم قبلتهم واحداً واحداً.
كانت أم خالد على الباب تنظر مستغربة!!
– وش فيك يا بو خالد؟
أشرت إليها بالسكوت حتى لا يستيقظ الأولاد، أطفأت النور وأغلقت الباب بهدوء. جلست في الصالة، أحضرت لي كوب ماء. شربت الماء، ذكرتني برودته بشدة الحر الذي رأيته في منامي. ذكرت الله واستغفرته، ثم خاطبتها قائلاً:
– أم خالد…
– سم يا عمري..
– أبيج من اليوم ورايح تعاونيني على فعل الخير..
– بو خالد ما في داعي تقول هالحجي… إن شاء الله ما يجي منّك إلاّ الخير…
– كاسر خاطرج؟!
– لا تقول هالكلام، أنت زوجي وأبو عيالي..
قاطعتها…
– خلاص كل اللي أريده أنج تساعديني…
ردّت بهدوئها وحنانها المعهود…
– بو خالد وش زين هالكلام!!
– أنا أعيش في غفلة يا أم خالد… وأدعو الله أنّه يتوب علي.
– الحمد لله اللي بصرك.
– الحمد لله… والله يثبتنا على الخير -إن شاء الله-.
فهل من معتبر قبل فوات الأوان؟!!
منقول – بتصرّف
جزاك الله خير شمس الضحى
فعلا قصة مؤثرة وبها العبرة
اللهم احسن خاتمتنا .. اللهم آمين
جزاك الله خيرا أخيتي….
جزاك الله خيرا أخيتي….
يوم لا ينفع مال و لا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.
أدعوا لأمواتكم في الصلاة و تصدقوا عنهم…و الله هو الغفور الرحيم.
جـزاك الله خــيـر وكـثـر الله من أمــثـالك
وشــكـراً للأمــيـرة أم عـبـد الـرحمـن على أروع كـلآم كـتـبـتـه وربي يســاعـدنا على فـعل الـخـير