جلس في المقعد الخلفي المحاذي للنافذ، أراد أن ينام الدهر كله بعد يوم آخر من
العمل الشاق أغمض عينيه الثقيلتين ، هما أثقل من تلك الغيمة الداكنة التي تلوح بالأفق ، وما أن رنت الغفوة الأولى التي طالما انتظر حتى صعقه صوت الرعد الذي داهم عزلته عن الواقع كدوي انفجار.
التفت نحو النافذة , ليراقب المطر الذي يتبع الرعد ، لاحظ الناس تسرع بعشوائية كأسراب من النمل داهمتها أقدام (سانتا كلوز) تناول علبة السجائر من جيبه البعيدة ,
أشعل سيجارة, وتابع التأمل بالمطر الذي طالما عشق , فتهادت نظراته على فتاة تقف على الرصيف المقابل له ، والرياح التي تشوب قطرات المطر تداعب خصلات شعرها بنعومة ، وما هي إلا لحظات حتى بدى أشعثاً وأشتد وقع المطر.
– سبحان الله مع كل المطر الذي نثر الكحل على بعض وجهها من عينيها المتسعتين كأطراف الليل ما زالت أجمل من القمر ، ضمت يديها لبعضهما وأخذتهما إلى فمها
ثم أخذت تنفخ فيهما ، أحس بقلبه ينبض وكأنها أذابت عنه جليد الزمن.
قطعت كل أفكاره حافلة مرت بينهما ، أحس الناس منزعجين من دخان سيجارته الذي تصاعد كمصنعٍ لندني للكبريت.
– نعم أحبها بالقدر الذي يغنيني عن إكمال سيجارتي ، أطفأها ، ثم عاود التمعن ، تبادر إلى ذهنه أن ينزل من الحافلة ، يعطيها سترته ويصحبها إلى إحدى مقاهي المدينة الدافئة ، يحتسيان بعض القهوة الساخنة ، يتحدثان مطولا أما نافذة يرشقها المطر.
وكصفعة من ثلج أو نار ، حضرته ذكريات الماضي ، فمنذ أمد طويل هو أبعد من عشرين عقداً ، قرناً ، لا يهم كم ، المهم أن الذاكرة لم تحتو سوى أحلام ورديه مزقتها تجارب فاشلة ، كم بحث عن فتاة أحلامه ولكنه لم يجدها ، تنهد
– لم تخلق بعد.
وفجأة انتفض فهو رجل والرجل لا يقبل الهزيمة ولا اليأس ، استجمع ما تبقى لديه
من عثرات الزمن ، وبخطوات طفل لم يتجاوز العامين من عمره مضى إليها.
صرخ السائق: سوف تغادر الحافلة بعد قليل .
– لا يهم.
كانت ضربات قلبه تسبق كل خطوة يخطوها ، و ما أن وصل قريباً منها تنهد التنهيدة الأخيرة والتي تسبق الكلمة الأولى أخذ نفساً أعمق من البحر، ولكن اجتاح كل ذلك شاب وسيم الملامح .
يقول: آسف على التأخير.
الفتاه: ولا يهمك.
استقلا سيارة أجره ، لحظات حتى زالت الغشاوة عن واقع الدهشة , نظر للخلف فإذا بالحافلة قد غادرت ، وقف تحت المطر، أشعل سيجارة.
قال: لم تخلق بعد.