ما إن عاد من دفن سليمان . حتى بدأ يباشر مهامه . نادى مولاه مزاحم أن يسارع إليه بقرطاس ودواة وقلم .
إنها المسؤولية الموصولة بالله , لن تدعه ينام أو ينعم . فكتب كتبه إلى الأمصار بالعزل للولاة الظالمين وعودة الجيوش المرهقة . وهكذا بدأ أول ليلة بالتغيير السريع الحاسم .
في اليوم التالي يأخذ طريقه إلى السرادق فيقدمون له الجياد المطهمة والمواكب الفخمة فيرتجف منها , ويقول : ما هذا ؟
قالوا : هي مراكب الخليفة الجديد !! فيقول : يا مزاحم ! ضم ّ َ هذه إلى بيت المال !
حتى إذا وصل السرادق وجده كإيوان كسرى . قال : يا مزاحم ! ضُمَّ هذا إلى بيت المال ! ثم دعا بحسير ففرشه على الأرض وجلس عليه .
ثم أحضروا له الطيلسانات المزركشة وهي ثياب الخليفة . فارتجف منها ,
وقال : يا مزاحم ! ضُم ّ هذه إلى بيت المال .
ثم عرضت عليه الجواري ليختار ما يشاء ! فقفز إليهن يسألهن واحدة واحدة :
من أنت ِ ؟ ولمن كنت ِ ؟ وما بلدك ؟ حتى إذا فرغ قال : يا مزاحم : تول ّ َ
أمرهن جميعا ً , وأرجع كل واحدة منهن إلى أرضها وذويها .
ثم منع الحراس أن يسيروا بين يديه , ومنع الناس أن يقوموا له .
ومنع الخطباء أن يدعوا له على المنابر يوم الجمعة . مع جواز ذلك ولكنه أسقط كل حق لشخصه .
إن المعجزات التي شهدتها أيامه المباركات كانت ثمرة لأمرين التزم بهما في إخبات شديد :
أولهما : الولاء المطلق للدين .
ثانيهما : الولاء المطلق للأمة .
فأما ولاءه للدين فقد كان من إيمانه بعظمة الدين . وأن هذا الدين هو فردوس حياته .
قال له أحدهم : جزاك الله عن الإسلام خيرا ً . فقال : بل جزى الله الإسلام عني خيرا !
وأما ولاؤه للأمة فقد كان امتدادا ً لولائه للدين . ذلك الدين الذي استوصى بالإنسان وولاه كل اهتمامه .
لقد حرص أن يُفهِم َ الناس انه لا يأتيهم بجديد من المبادئ والنظم . فكل ذلك موجود في قرآنهم ودينهم . كل ما أتاهم به هو روح المسؤولية الورعة الصادقة .
لقد قال لهم : " لست بخيركم .. إنما أنا رجل ٌ منكم .. غير أني أثقلكم حملاً " .
وهكذا كانت الخلافة عنده تكليفا ً لا تشريفا ..
لقد كان عقله مع كل شيخ وأرملة … مع كل مريض ومجهود .. مظلوم وأسير .. يتيم ومقهور .. غارم وعاطل ..
قبعوا جميعهم في ضميره الحي يجلجلون بحاجاتهم وشكاواهم .. فاحتوته المسؤولية في خضمها ………………..
فنسي نفسه ……. وأهله …………. ودنياه ………… وعالمه
كان يخيل ُ إليه وكأن النار لم تخلق إلا له .
يعبر عن ذلك أفضل تعبير خادم له . رآه عمر يسحب برذونه . فسأله عمر :
كيف حال الناس ؟ فقال الخادم : كل الناس في راحة إلا أنت وأنا وهذا البرذون !
حرم نفسه وأهله مباهج الدنيا حتى حلالها . كانت زوجته فاطمة تقول : "
ياليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين …… فوالله ما رأينا سرورا ً مذ دخلت علينا "
وهي فاطمة بنت عبد الملك : بنت الخليفة وأخت الخلفاء وزوجة الخليفة .
لقد جرد الأمراءَ الأمويين من كل ثرواتهم وممتلكاتهم ودفع بها إلى بيت المال . ثم ألغى لهم مخصصات الأمراء , ومخصصات حرسهم وخدمهم ,
ولما قال له بعض أصفيائه : " يا أمير المؤمنين : " ألا تخاف غوائل قومك ؟ قال :
أبيوم ٍ سوى يوم القيامة تخوفونني ؟؟ فكل خوف أتقيه دونيوم القيامة لاوقيتُه ! "
لقد ذابت كل عوائق الدنيا أمام أنفاس إخلاصه الحار المتوقد .
وقبل ان يبدأ بهم بدأ بنفسه . فلم يترك لنفسه شيئا . حتى أرض فدك التي
ورثها من أبيه ,, حتى جواهر زوجته أودعها بيت المال . .
وأبى أن يأخذ حتى عطاء بيت المال . بل عاش على دخل أرض صغيرة له . مائتا دينار في العام .
كان دخله السنوي قبل الخلافة أربعين ألف دينار !!!
مائتا دينار في العام دخل حاكم أغنى وأعظم الامبراطوريات في عصره . !!!
وهكذا صار كل الناس أحسن حالا ً منه .
لقد وضع المال في مكانه الصحيح فوضع الضرائب عن الناس . وخفف عن كاهلهم الأعباء .
أرسل كتبه إلى ولاته :
" لا بد لكل مسلم من :
مسكن يأوي إليه .. وخادم يكفيه مهنته .. وفرس يجاهد عليه عدوه .. وأثاث في بيته ..فوفروا ذلك كله .. ومن كان غارما ً فاقضوا عنه دينه " .
خصص لكل مريض أو مريضين ممرضا .
ومع ذلك فاض المال لأن الخليفة عفّ َ فعفّت الرعية .
كان الأغنياء يخرجون زكاة أموالهم فلا يجدون فقيرا ً يأخذها .. ربما لأن نفوسهم ارتقت وعزت وسمت ,,
ذلك أن عدل عمر لم يكف ِ الناس حاجاتهم ,, وإنما ملأهم شعورا ً بالكرامة والقناعة .
كل ذلك في ظل العدل واحترام إنسانية الإنسان .
رفع الضرائب عن أهل الذمة إلا ما شرعه الله بحقهم ، أقام العدل على الجميع مسلمين ونصارى .
عندما توفي قال عنه ليو الثالث وهو خصم عنيد للمسلمين :
" مات والله ملك عادل ليس لعدله مثيل "
كتب إليه واليه على خراسان يستأذنه ان يرخص له باستخدام بعض القوة والعنف مع أهلها قائلا ً في رسالته للخليفة : " إنهم لا يصلحهم إلا السيف والسوط " ……….
فكان رد التقي الحازم : " كذبت َ .. بل يصلحهم العدل والحق ,,, فابسط ذلك فيهم ,, واعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين " .
كان همه أن ينشر الرحمة والعدل والأمان .
ولقد أثبت الأمان الذي ساد أيام خلافته صدق كلامه في أن الناس يصلحهم العدل وليس السوط .
كتب إليه حاكم الموصل يستأذنه في قمع حرورية الموصل ( فرقة من الخوارج ) الذين يسيحون في الأرض ناشرين آراءهم وأفكارهم .
فأرسل إليه يقول :
إذا رأوا أن يسيحوا في البلاد في غير أذى لأهل الذمة وفي غير أذى للأمة فليذهبوا حيث شاؤوا ! وإن نالوا أحدا ً من المسلمين أو من أهل الذمة بسوء فحاكموهم إلى الله .
لقد أرهق الخوارج الأمويين في ثوراتهم قبله . فلما جاء وأخذهم بحسن الحوار وإطلاق الحرية همدوا وخمدت ثوراتهم ولم يقوموا إلا بعد موته .
كان يحث الولاة على رحمة الناس . ويقول لهم : إنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيا ً ! ألا إن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم .
كان إذا اشتكى إليه بعض الناس من أحد الولاة , أرسل فورا ً إلى الوالي يقول : قد كثر شاكوك وقلّ شاكروك فإما اعتدلت َ وإما اعتزلت .
بل إنه أطلقها دعوة عامة مفتوحة بلا قيود ولا شروط لكل مظلوم .
فقد أرسل منشورا ً إلى الأمصار يقول فيه :
" من ظلمه إمامه مظلمة فلا إذن له علي ّ "
ففتح بابه مشرعا ً للشاكين والمتظلمين .
وبذلك أنقذ الولاة أنفسهم من أنفسهم فلا يخوضوا في مظالم الناس .
لقد أحيا مبدأ الشورى والحرية عندما فهمه على حقيقته وأصله .. فكان هذا أروع جزء في حياته .
لقد ازدحمت شهورُه التسعةُ والعشرون بإباحة حرية الرأي , والتفكير , والتعبير , وحرية القناعات .
كان يؤمن أن الناس إذا زيفَتْ قناعاتها بسبب رغبة أو رهبة فإنه يستحيل معرفة آرائهم .
وما دامت الآراء الصادقة هي مادة الشورى وأداتها , فإن اختفاء هذه الآراء يعتبر وأدا ً للشورى , وإلغاء ً لمهامها .
وتأكيدا ً لهذه السياسة التي وصلت إلى قمة الوعي والرقي : كان يرد باستمرار على محرضيه الذين يوحون إليه ان يسوس ضمائر الناس بالقهر والبطش .
كان يرد دائما ً عليهم :
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين …. وما أنت عليهم بجبار ….
إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر …
ولقد وقفت العواقب بجانبه , وأثبتت صدق رأيه وذكاء تقديره .
ومع ذلك فإن هذه الرحمة والرأفة تتحول فيه إعصارا ً لتحيله أسدا ً هصورا ً في وجه باطل أو عدو .
أُسِر َ جندي مسلم من جنوده وأخذ إلى ملك الروم , فسمَل عينيه .
فما كان من الخليفة عمر إلا أن كتب لملك الروم يقول له :
" أما بعد ! فقد بلغني ما صنعت َ بأسيرك فلان , وإني أقسم بالله لئن لم ترسله إلي من فورك لأبعثن ّ إليك من الجند ما يكون أولهم عندك وآخرهم عندي "
ويعود الأسير إلى وطنه وأهله .
هكذا كان الإنسان في عهد عمر بن عبد العزيز .
كانت خلاصة حكمه كما وصفها له رجل جاء من مكان بعيد :
قال : تركت البلاد الظالم بها مقهور , والمظلوم منصور , والغني موفور , والفقير مجبور .
قال يومها عمر لمزاحم :
" والله لأن تكون البلاد كلها على ماوصف هذا الرجل , لأحب إلي ّ مما طلعت عليه الشمس "
بعد تسعة وعشرين شهرا عمل فيهم وقدم للمسلمين مالم يقدمه غيره في تسعة وعشرين عاما آن لنفس التقي العابد الورع أن تؤوب إلى بارئها .
فقط قطعتها أعباء الخلافة ومسؤولياتها .
دس له الحاقدون السم , فعاد المسافر إلى وطنه , وآب إلى داره .
مال رأسه الذي أثقلته هموم أمته إلى الوراء , ليستقر على وسادة حشوها ليف .
كان حريا ً أن يعجّل به , فأهل الخير لايلبثون مع أهل الشر إلا قليلا .
فجع الشعب بموته .
وأصبح الناس أيتاما ً بفقدهم له .
حتى عدوه اللدود امبراطور الروم أرسل كبير أساقفته وكان بالطب خبيرا ً يرجوه أن يفعل المستحيل لإنقاذ حياة الجار الطيب العادل الزاهد .
لقد اشتاقت روحه إلى الجنان :
كان آخر ما ردده من كلام :
" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا ً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين "
كلمة أخيرة :
ليس الخلود أن يتحدث التاريخ عن الخالدين
ولكن الخلود أن تسري عقائدهم روحا ً في قلوب الأجيال
وأن تعمل أخلاقهم عملها في كل عصر على مر التاريخ
:::::::::::::::::::::::::::
آسفة للإطالة . فسيرته تستحق أكثر من ذلك بكثير .
أختكم / بدور