تخطى إلى المحتوى

موعد مع الموت !! 2024.

  • بواسطة

أسند أبو فهد رأسه الى مقعد السيارة ومشاهد الصحراء القاحلة تمر أمامه بسرعة رهيبه شمس حارقة تلفح وجه الرمال من خلف زجاج النافذة …
ومكيف السيارة يداعب تجاعيد وجهه بنسمات بارده رفع أبو فهد يده بوهن وغير اتجاه موزع الهواء بعيدا عنه والتفت الى السائق الاسيوي القابع خلف المقود على يساره وتنهد أبو فهد ….
وغاص في ذكرياته مع هذا الطريق سنين من عمره مراحل حياته تفاصيل أفراحه وملامح أتراحه كلها نقشت هنا ..
عرف هذا الطريق جيدا كما عرفه الطريق شابا يافعا ينتقل من بيت أهله في الديرة الى الرياض حيث عمله ويعود الى ديرته يحثو هموم المدنية على جنبات قريته الصغيره
تذكر أبو فهد حين أتى بعروسه الى الرياض للمرة الاولى قبل 45 سنة حين كانت شابة غص الجمال بطفولتها وآثر أن يبقى صامتا ليطلق لبرائتها العنان ..
وقفت لجانبه كثير وتحملت كثيرا لم تشتكي يوما من تقصيره ولم تتكلم يوما معه بشأن عيوبه حتى عاش أبو فهد زمنا طويلا معتقدا أنه رجل خال من العيوب !!
كانت جوهره على أسمها جوهره كانت كنزا بل كانت صندوقا مليئا بالكنوز لا يملك مفتاحه سواه .
عبد الرحمن وجوهرته زفوا على هذا الطريق يوما والأحلام تزفهما الى المجهول وعادا في السنة القادمة على نفس الطريق يحملون طفلهما البكر فهد وسعاد لا تزال مضغة في رحم والدتها …
هكذا كانت حياتهم ساعات تعيد نفسها وسرعان ما متلئ البيت بالأطفال واختلطت الدموع بالبسمات …
والأمال تصارع اليأس في قلب أم فهد ولكنها تعلمت أن كل مابداخلها يخصها هي فقط
أما أبو فهد فهو الرجل الكادح طول النهار لا يرى حين يعود سوى بيت نظيف وأطفال مهذبون متفوقون لا يعلم متى صار كل هذا وكيف .
كانت تعزي نفسها وتواسي ألامها " آيه بكرى يكبرون ويعرفون … بكرى يحسون .. بكرى يتزوجون ويملون علينا البيت "
ولازال هذا الأمل ينتشل أم فهد كلما غرقت في الهموم وارتطمت بجدار الوحده !
تركت أهلها صغيرة وزجت في هذه المدينه حيث لا يعلم الجار عن جاره وودعت هناك قريناتها وبنات اعمامها واخوالها ..
يتزوج من يتزوج وتلد من تلد ويرحل من يرحل وهي هنا بالكاد تشاركهم أفراحهم وتواسي احزانهم
وتغص أحزان الغربة بين أحداقها دمعة تأبى النزول وأيمان خفي يشد على قلبها ورجل عشقته يستحق كل تلك التضحيات .
لم يكن أبو فهد يدرك كل تلك الصور التي تخالج صدر أم فهد وتداعب فكرها .
جرت الحياة سريعا وكبر العيال فهد وسعاد وأحمد وريم وهدى وراشد وهند ..
هند التي ماتت رضيعه لسبب مجهول أو لقصور في الجهاز الطبي ولكن المسألة قضاء وقدر تعلمنا أن نتقبل أقدارنا المره أكثر من تقبلنا للفرح
نعم نحن شعب جبلنا على تحمل الألم والموت عندنا أهون ما نواجه .
هذه قناعات أبو فهد كأي عربي غيره يخشى على كرامته وعزته و"شرفه " أكثر بكثير من خشيته على نفسه .
عصفورة من عصافير الرحمن وشفيعه لأهلها عند باب الجنه هكذا جعلت مفارقات الحياة موت هند الرضيعه بشرى تزف لأمها وأبيها .
كل تلك الأفكار كانت كفيلة أن تنهش الساعتان اللتان تقطعهما السيارة للوصول الى مرزعة أبو فهد .
أوقف السائق السيارة ونزل مهرولا الى البوابه الحديدية وفتحها وعاد الى السياره ليدخلها الى المزرعه
قطعت السياره ممرا طويلا تقف على جنباته نخلات أبو فهد بشموخ وقد تساقط منها الرطب وملئ الممر الطويل المؤدي الى الفيلا التي لم تكن سوى بيت عتيق أكلت الأرضة قوائمه وقضى الغبار على البقيه .
ترجل أبو فهد من السيارة يحمل على أكتافه المنحنيه أثار كل تلك السنين .. جلس أبو فهد يتأمل المكان ..
هنا كان يأتي مع أطفاله يلعبون ويتقاذفون بالرطب المتساقط يسبحون في بركة المزرعه ويتسلقون النخلات يدخلون البيت ويخرجون تلاحق الفرحة خطواتهم وتتبع الأحلام أصواتهم
كم كان سعيدا برؤيتهم هنا سأقيم حفل زفاف فهد ومن هنا سأزف سعاد لبيت زوجها …
لسعاد وفهد مكانة خاصه في قلب عبد الرحمن وزوجته مكانه يعرفها كل أب وأم رأوا فرحتهما في أول مولود حين يكسر الطفل عزة والده ويجعله ينحني ليحمله
حين تصر فتاته الصغيره أن تضع قدماها على أكتافه لتعلمه معنى الخضوع .
تزوجت سعاد ولم تكن المزرعه في قائمة المدعوين لتشاركها الفرحة وكذلك فهد حين فضل أن يقام زفافه في أكبر فنادق المدينة وأفخمها ..
حتى أم فهد لم تعد تأتي معه لقضاء بعض الأيام فهي لم تعد تقوى العمل هنا كما أنها لم تعد تقوى على البقاء بعيدا عن الحضارة !!
وظلت المزرعة خاوية يسكنها الظلام ويغرد السكون على أغصان الاحلام المتكسرة … ممرات متهالكه وأرضُ تحتضر ولكنها لاتزال في عيني أبو فهد جنته الأبهى .
كان أبو فهد يذهب كل نهاية أسبوع الى المزرعة في موعد مع الموت ولكن الموت كان دوما يخلف الميعاد ويعود أبو فهد يوم الجمعه الى بيته آسفا يرتقب الأسبوع القادم …
كان يتمنى أن يموت هناك على أرضه بل كان يعتقد تماما أنه لن يموت سوى هناك " يا الله أتم نعمتك علي واقبض روحي هناك على أرضي "
هذه دعوة أبو فهد حتى أتاه يقين ما أنه سيموت هناك بين نخلاته الأبيه لم يكن أحد من أهل داره يعلم عن ذلك الموعد مع الرفيق السري .
هناك كان أبو فهد على موعد مع الموت .
أنزل السائق من صندوق السياره أكياس تحوي المكونات الأساسية للكبسة السعودية .. أرز .. بهارات .. لحم .. دجاج … صلصة .. بالاضافة .. الى الخبز .. التمر .. والماء ..
رحل السائق بالسيارة وترك أبو فهد بين ذكرياته وتأملاته ..
دخل أبو فهد الى بيته وحمل الاغراض شيء فشيء رتبها على الارفف نظف ما استطاع من المكان خرج الى الشرفه فرش الحصير واحضر عدة الشاي
وجلس ينتظر صديق طفولته ورفيق عمره وابن عم زوجته أبو سعود …
وصل أبو سعود الى المزرعه بعد ساعه كامله قطعها مشيا على اقدامه حتى يصل من بيته في القريه الى المزرعه
جبار ذلك الرجل ابو سعود لقى من الحياة ما لا يطاق ولكنه يتقبل القضاء برضى واليأس بابتسامه
ماتت زوجته وأربع من أطفاله في حادث سيارة لم ينج منه سوى هو وسعود الذي ظل بين الحياة والموت 7 سنوات في غيبوبه لم يعرف أسبابها ولا طريقا لعلاجها
تزوج ابو سعود خلال تلك الفترة من احدى بنات عمومته تحت ضغط كبير من أهله لم يكن ابو سعود سعيدا بزواجه
ولا زال طيف زوجته ام سعود يلاحقه ويناجيه ولكنه كان يحمل من القوة والايمان مايجعله يتناسى ويمضي في حياته قدما .
حين استيقظ سعود من غيبوبته كان فاقدا لسنين طفولته يجهل كل من حوله ويجهل صورته في المرآة بعد ان صار رجل نعم صار رجل ولكنه رجل دون ذاكره دون علم دون حياة دون أي شيء
لم يملك سعود من الرجولة حينها سوى تلك الشعيرات التي غزت وجنتيه وبدأ أبو سعود مع وليده الجديد مشوار الأبوه مرورا بكل المراحل وسخر جل وقته لابنه سعود
كبر سعود سريعا تعلم سريعا ولكن أثار الحادث لا تزال تعبث بفمه فتعيقه عن النطق بشكل سليم كان يتحدث وكميه من اللعاب تتطاير بوجه محدثه !!
كان لا يسيطر على حركات جوارحه نعم كانت عيناه ويداه تتحركان بشكل لا ارادي …
اعتادت عليه القريه واعتاد عليه اهل داره ولكن تلك العيوب وقفت عائق أمام زواجه …
كان لسعود ثلاث أخوه وخمس أخوات يتبادلون على زيارته ورعايته بالاضافه الى والده وزوجة والده التي كانت تعامله بالحسنى وتتقي ربها معه ..
مازاد مصاب أبو سعود أن أثنين من أبنائه وواحده من بناته مصابون بمرض السكري كانت صدمات توجه له واحده تلو الاخرى كلما زار الطبيب وأنبأه بخبر أحد أطفاله ..
كم عانى معهم في طفولتهم كم نام ليالي مغمض عينيه وعقله صاح يفكر في مصير اطفاله وكم سهر يتذكر كيف زهق الطريق أرواح اطفاله الاربعه
ويدعو الله ان لا يرى تلك العيون اللامعة تنطفئ يكفي مارأه على ذلك الطريق…
في أحد الليالي شب حريق في منزل أبو سعود فزع على صورة زوجته المتوفاة وهي عالقة بين أكوام الحديد المحترقه في السياره وسمع صوتها تناديه خرج من الغرفه
وأذا بلسان من اللهيب يلفح وجه شبت النار في السجاد والاثاث والستائر عرف ابو سعود أن النار أسرع من اي شيء و أنه لن يستطيع أخماد الحريق ولم يكن يملك سوى أن يسابق ألسنه اللهب ويخرج أطفاله يرمي بأحدهم على قارعة الطريق ويعود يحمل الاخر وصوت زوجته أم سعود لا زال يرن بأذنيه
" الحق على العيال .. الحق على العيال "
صمم ابو سعود ليلتها أن النار لن تلتهم أحد أطفاله مرة أخرى ونقل أبنائه الثمانية وأمهم وسعود الذي كان لا يزال في غيبوبته نظر اليهم جيمعا يرفلون في ثوب العافيه
وخر ساجد لرب العالمين وغفى هناك على الطريق ورأى أم سعود تبتسم …
تركت النار اثارها على جسد ابو سعود حتى حمل وجهه ويداه سواد كسواد الليل يظن الرائي ان هذا لونه
عاش أبو سعود يحمل السواد على جسده كنيشان شرف على تلك الليله التي قضاها بين السنة اللهيب يرحل باطفاله الى بقعة أمان…
جبار هو ابو سعود بجسده وبقلبه وبعقله … كان على موعد مع الموت كذلك هناك في المزرعه يلتقي ابو فهد يتسامران ويعيدان ذكريات الطفولة وايام الشباب …
يبعد الواحد منهما الاخر عن آلامه وأحزانه وينسجان مع بعضهما البعض أجمل صور الوفاء .
وصل أبو سعود للمزرعه تعب على غير العاده جلس على الحصير رشف الشاي ببطئ والفنجان يرتجف بين يديه …
آه يا أبو فهد أشعر بألم في صدري منذ البارحه
آيه لا خلاك الموت ماخلاك الكبر .
أو خلاني ماعاد تفرق معاي الحياة تواست في نظري ومابغى من حيلي الا شيء يعيني على الطهارة والصلاة
خلد ابو سعود تلك الليله للفراش باكرا ومع اذان الفجر تيقظ أبو فهد وقصد فراش صاحبه فاذا برجل اخر تماما رجل شاب يافع أبيض بياض الثلج يغط كالطفل في نوم عميق
هز أبو فهد صاحبه وابتسم يناجي نفسه " وين ياخوك تسبقني ليه تخليني لحالي "
اختفت التجاعيد على وجهه ابو سعود ورحل الموت بشقائه وتعبه وسواده وبقي جسده ينتظر أن ينام في لحده بجانب أم سعود وأبنائه الاربعه .
بعد أن وارى ابو فهد جسد صاحبه التراب وقف ينظر لسعود الذي غصت عيناه بالدموع وامتلئ فمه باللعاب وسقط بجسده الهزيل على قبر والده يبكي وينتحب..
ضمه ابو فهد بقوة " لا تبكي يا سعود ابوك ارتاح ومايوصله منك غير الدعاء "
هكذا انهى ابو فهد رحلته ذلك الاسبوع زف صاحبه الى قبره وخلف الموت ميعاده معه مرة اخرى ..
عاد ابو فهد الى بيته في الرياض مودعا صاحبه بدموع حارقه حتى باتت له الصحراء غير الصحراء والاماكن غير الاماكن وظلت عبرة تخنق صوت ابو فهد وهو يترحم على صاحبه ويدعوا الله ان يلحق به عاجلا … حين عاد ابو فهد الى الرياض تلك الليلة راودته أحلام كثيرة …
كان يرى أبو سعود يبتسم ويدعوه لشرب القهوة … واستمرت الاحلام ترواد أبو فهد في كل ليلة و كانت صورة أبو سعود وهو يدعوه لشرب القهوة تتكرر في جميع أحلامه ….
وفي نهاية الأسبوع عزم أبو فهد كعادته الذهاب إلى مزرعته استيقظ باكرا اغتسل ولبس أجمل ثيابه كأنه خارج لملاقاة معشوقته …
نظر الى ام فهد وهي نائمة وتمتم بصوت منخفض .. مع السلامة … دخل على السائق وطلب منه مفاتيح السيارة ..
رفض السائق لأنه كان يعلم أن حالة أبو فهد لا تسمح له بقيادة السيارة وهكذا كان فهد يوصي السائق دائما لكن أبو فهد أصر كثير فما كان من السائق إلا أن سلم له المفاتيح ..
ركب أبو فهد السيارة وتحرك بها قاصدا دربا ألفه من سنين وشعور قوي داخله أن هذه المرة ستكون أخر مرة يسلك فيها هذا الطريق …
دخل أبو فهد للمزرعة… وكانت الساعه لم تتجاوز الثامنة بعد أحس أبوفهد ولأول مرة بالغربة على أرضة وبين نخلاته هناك بكى وحيدا صديق عمره أبو سعود …
قصد أحد النخلات صلى في ظلالها ركعتين … ثم جلس وأسند ظهره المتعب على جذعها .. وراح في سبات عميق !! مات أبو فهد … مات شامخ كموت النخيل ..
وعلى أرضه أخير صدق الموت وعده مع أبو فهد

بقلم … ذكرى

عضوة جديدة على صفحاتكم

اتمنى أن تعجبكم كلماتي

فلا يزال في جعبتي الكثير

قصة رائعة جداااااااااا
مشكوووووووووووره

يا لله ….

اخيتي ذكرى…

اسلوبك رائع في الكتابة

والقصة جدا رائعة

جزاكي الله خيرا

قصه رائعه مشكوره
عزيزتي كليوبترا

اشكرك على اشادتك شكرا لك

عزيزتي اشراقة الاسلام

شكرا جزيلا اتمنى ان ترتقي حروفي لمستوى الطرح على هذه الصفحات

وجزاك الله خيرا

عزيزتي عنود كيوت

شكرا على حضورك الكريم

اتمنى التواصل معكم خلال هذا المنتدى الشيق

شكرا لكم جميعا

اختكم ذكرى

راااااااااااااااااااااااااااائع كلماااااااااااااتك عزيزتي

نحن في أنتظارك

دمت بكل الحب

شكرا علىالقصة المؤثرة جدا..ننتظر المزيد…

لاكي

الله يجزاك خير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.