إنها ليلة من أواخر ليالي الخريف , تلك التي تحمل انتعاشاً بارداً لطيفاً بعد صيفٍ حار , تدثرت بغطاءٍ خفيفٍ , و خففت النور لأستمتع بالسكون وأعيش مع كلمات غسان العميقة , فلقد كان يومي حافلاً …
تناولت و عائلتي طعام الغذاء مع أمي لأنني لم أشأ أن أدعَها تمضي يوم الجمعة وحيدة , فلقد كان أبي مسافراً لحضور مؤتمرٍ طبي في مدينة البحر … اللاذقية .. و قد عكّر بعض الضيق صفو أمي لأنها لم تسافر معه , ذهبنا بعدها لعيادة والد زوجي المريض و الذي خرج لتوه من المشفى بعد عملية جراحية لا يزال يعاني من آلامها.. منظره مثيرٌ للشفقة و هو مستلقٍ في الفراش لا حول له و لا قوة و تواردت مظاهر قوته و صلابته مراراً لمخيلتي و أنا جالسةً أمام سريره..
عدنا أخيراً للمنزل و ذهب الصغار للنوم بعد المعركة المعتادة كل مساء ! ثم أنهى زوجي شريف صلاته و ذهب هو الأخر للنوم , أما أنا فلقد جفاني النوم فقررت أن أقرأ في كتابي .
تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل عندما أقلق جرس الهاتف سكون الليل … هب شريف من فراشه مسرعاً و ردّ بعصبيةٍ واضحة , أحسست بموجة رهيبةٍ من القلق تجتاز أوصالي فعمي مريضٌ جداً و اتصالٌ في وقتٍ كهذا لا يمكن أن يعني سوى شيئاً واحداً .
تسللت خلف زوجي لألتقط شيئاً من أطراف الحديث و عندما سمعته يكلم أخي بشار تنهدت مرتاحة و زال القلق و قلت لنفسي :الحمد لله عمي بخير!
أنهى شريف مكالمته و استدار نحوي ثم قال :
– لقد تعطلت سيارة والدك و هو في طريق عودته من المؤتمر في مكانِ قريب من المدينة و هو بحاجةٍ لمن يقله .
– أهو بخير .
شرع شريف بارتداءِ ملابسه ..أجاب قائلاً :
– إنه بخير و لكن سيارته بها عطلٌ ما و لم يتمكن من إيجاد وسيلةٍ تعيده للمدينة في هذا الوقت المتأخر .
– أوصِلني أولاً لبيت أهلي مع الأطفال ، أخاف البقاء وحيدةً هنا في الليل .
– المسافة قصيرة …حرام أن أزعج الصغار من نومهم ….. سأعود خلال ساعة إن شاء الله .
غادر زوجي و أقفلت الباب خلفه , ثم عدت لغرفتي و كتابي و لكني كنت قلقة …مبعثرة بين أحاسيسي المتناقضة …
لم أعد أشعر بأي رغبةٍ في القراءة , أغلقت الكتاب و أطفأت الأنوار والنوم مازال يهجرني…
خرجت إلى الشرفة الأمامية …السكون يغلفني و زهرات الفل و الياسمين تعبث مع نسمات العليل و تضفي عليها رونقاً و شذا.. استلقيت في مقعدي المريح أرقب السماء و قد صفت , و تلألأت نجمة بعيدة أسرتني بجمالها ثم تهاوت أو اختفَت !
وسرعان ما تغلبت نسمات الهواء الباردة على قلقي و خدرت أوصالي فلم أشعر إلا عندما داعبت عينيّ أشعة الشمس الوليدة .
دلفت لداخل البيت و ألقيت نظرة على الساعة .. كان الوقت قد تجاوز الخامسة بقليل , مررت بغرفة الصغار لأطمئن عليهم .
أسرعت لأصلي الفجر حاضراً ثم خطر لي أن أتصل بأمي و لكنني ترددت خوفاً من أن أزعجها من النوم و لكن أصابعي تمردت و أبت إلا أن تضرب الأرقام …. و لكنني أغلقت السماعة بسرعة عندما سمعت قرع جرس الباب , قلت لنفسي يبدو أن شريف قد نسي مفاتيح البيت , و عندما فتحت الباب فوجئت بأن شريف لم يكن الطارق و لكن كان خالي …
– ماذا هناك يا خالي ؟؟؟ هل حصل لأبي مكروه .
– لا لا يا حبيبتي لم يحصل له أي مكروه و لكنه تعرض لحادثٍ بسيط و يجب أن تكوني الآن مع والدتك و أخواتكِ .
– هل هو بخير يا خالي أرجوك قل لي الحقيقة .
– إنه بخير حبيبتي , غيري ملابسك ريثما أيقظ الطفلان و ألبسهما .
– و لكن هل من المناسب أن أخذهما معي .
– كلا سآخذهما لبيتي و سيستمتعان باللعب مع أولادي , اطمئني .
بينما كنت أبحث عن ردائي, دلف شريف للغرفة …
– هل أبي بخير .
– نعم إنه بخير .
– و لكن خالي يقول بأنه تعرض لحادث و أنه ……..
– لقد أخبركِ إذاً , أه لقد أزال عن كاهلي حملاً ثقيلاً , كنت طوال طريق عودتي أفكر كيف سأنقل لكِ خبر موته , البقاء لله !
لم يكن يضع حزام الأمان و ………….
تلاشت بقايا كلماته , بل كأنها ذابت قبل أن تخرج من فاه , طرقات قلبي حفرت صدري بألم و أحسست بمرارة تلدغ طرف لساني ….
أبكيت أم انتحبت أم تلبدت مشاعري …. لا أعرف ما حصل معي على وجه التقريب فكأن ذاكرتي جللت بغمامة سوداء مبهمة …
حين وصلت لمنزل أهلي , سمعت صوت القرآن الرقيق ينساب من مكان ما , يا الله من أين أتى كل هؤلاء البشر ..
أمي جالسة في صدر الغرفة تبكي بهدوء و هناك على السرير كنت أنت , في تلك اللحظة أطلت عليّ نافذة من الماضي مشيعة بكلماتٍ لطالما قلتها لي :
أبنيتي لا تحزني
كل الأنام إلى ذهابِ
قولي إذا ناديتني
و عجزت عن رد الجواب
زين الشباب أبو بشارٍ
لم يمتع بالشباب
كلماتك ارتطمت بثنايا فؤادي الواجف حين رأيت جثمانك …
يا لغرابة الأمر , لقد اعتدت أن تقول لي أبيات أبا نواس هذه محرفّة لتحشر بها اسمكَ ..و اعتدتُ أن أضحك كلما سمعتكَ تنطقها فكأن الموت هو من الأمور التي لا تحدث سوى للآخرين , و كأن الحياة ستجنبنا مواجهة قبحه و بشاعته .. و لكن ها أنتَ ذا أمامي جسد مسجى بهدوء و اطمئنان لوثت ثناياه دماء و كسور
جلست بالقرب منك و لكني خفت أن أرفع الغطاء عن وجهك و لكن عندما رفعوه نظرت إليك و لم أخف …
ثم تاقت نفسي للمسك و لكنني خفت ثانية , ثم رأيتهم يلمسونك فلمستك و لم أخف …
لمست وجهك , ربت على يدك ثم دفنت وجهي في صدرك , و شعرت ببرودة اقشعر لها جسدي , مررت يدي على رجلك ثم تراجعت فزعةً , فلقد لمست عظمة ناتئة و بقعة من دم …أحسست الدماء تصرخ ,أحسست الجروح تستغيث ..أما من مداوٍ أما من طبيب؟؟
وجهك الغالي شابته صفرة …و شعيرات بيضاء متناثرة بين شعرك الأسود الأجعد و الذي أراه مبعثراً لأول مرة , عيناك مغمضتان و لكن إحداهما مفتوحة فتحة صغيرة و من وراءها مقلتك ..تارة يخيل لي أنها تنظر إلي و تارة أخرى أرى بها حركة خفيفة …
ابتسامة مرسومة على شفتيك لا يمكن أن أنساها … هي نفس ابتسامتك حين كان أساك يمتزج بفرحك , كأنها تسخر من هذه الدنيا الفانية .
أبتاه هل تسمعني أبتاه هل تفهمني …. أبتاه
أبتاه .. و الصوت يرتد مصحوباً بالصدى …تحتفل فيه أهات و يرتع نحيب
غدوت و الآمال مزروعة بدربك و عدت محمولا على الأكتاف …
دنيا غدت و أنت تحتها كقفار ..أناديك بروحي فهل من مجيب
تفاصيلك الصغيرة الأخيرة طبعت حرقاً بين ثنايا ذاكرتي ..
أستعيدها دائماً طازجة كما رأيتك أخر مرة
غادرت عالمي المسكون بالأحلام ليصبح محياك حلمي الوحيد …
كنت كأي حلم سعيد , لا نشعر بفقدانه إلا عندما نستيقظ منه …
لبست أكفانك البيضاء .. و حزمت حقائبك و هممت بالرحيل …
ودعك الجميع , و وحدي لم أفعل ..
كنت أعلم أنني لن أودعك لأنك ستسكن بي .. ستكون معي في صحوتي و نومي …..بين موجات بكائي و هذياني …. حتى في أفراحي و آمالي
في تلكِ الليلة , ولدت طفلة يتيمة الأب داخلي …
اختبأت على حياءِ لأول مرة في قلبي.. عواطفي ..ذكرياتي …أحزاني و أفراحي … تلك الطفلة لا تزال قابعة في أعماق فؤادي…….
يقال إن المصيبة تولد كبيرة و تصغر بمرور الأيام
و ها هي أربعة أعوامِ مرت أو يزيد و لكن طفلتي تلك لم تنضج بعد ….
إنها حقاً ماكرة فلقد تواطأت مع قلبي و اتخذت منه مسكنا
لا تزال تملأ أعيوني حرقة كلما عبثت بمكنوناته
طفلتي اليتيمة تستمتع بإثارة شجوني …
تشرب من دموعي و تتغذى من ذكرياتي ..
فهي تكبر معي يوماً بعد يوم
رحمك الله يا أبي و أدخلك فسيح جناته ..
بسم الله الرحمن الرحيم :
" كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام "
غاليتي مـiـى
رحم الله والدك وأسكنه فسيح جناته
هي المشاعر نفسها …لكن تصاغ بأقلام مختلفة
طفلتك اليتيمة…تعيش في داخلي أيضا…
لا نملك عزيزتي سوى الدعاء لأحبابنا بالرحمة والمغفرة
وعسى ان يجمعنا الله معهم في مستقر رحمته
اللهم آمين
شكراً لكما أخواتي صدى , حمامة الجنة ..
لتشجيعي حتى أتخلى عن مشاعر و مكنوناتٍ بقيت خاصة بي مدة طويلة و لتقويم عثرات قلمي الوليد .
..^.. مـiـى ..^..
أنالله وأنا أليه راجعون
غاليتي .,. أتمنى لكي بدوام الصحه والعافيه .,. والسعاده الابديه
تغلبي على حزنكـ وعيشي حياتكـ .,. فأنا والدكـ لايريد منكـ الا الدعاء له بالمغفره
أسنكه العلي القدير فسيح جناته .,. آمين
حياتي قبل تحياتي
:
:
:
أناهيد
عزيزتي منى..
كنت قد جربت ما قد جرى لكِ..
أقفلت الأبواب أمامم وجهي..
وبنيت حول نفسي حصناً طالما حاولت أن أحبس نفسي فيه..
وكان لي ذلك..
فعشت بين أحزاني..
مهمومة بأمور اكبر مني..
لم أعد تلك الفتاة التي كانت ضحكاتها تدوي في كل مكان!
إلى أن قال لي زوجي:
وهل تظنين أن هذا الحزن يسعد والدك؟
فكانت إجابتي بـ: لا!
عندها بدأت في العيش من جديد كما كنت..
صورة والدي رحمه الله لا تفارق مخيلتي..
والأمل الذي كان يبثه في فؤادي يكبر يوماً بعد يوم..
يكفيني أنني أفعل هذا من أجل أن يكون مرتاحاً هناك..
في عالم لا أستطيع الولوج فيه بمحض إرادتي..
لكنني حتماً سألقاه يوماً (بإذن الله)..
وأسأل المولى أن يجمعك ومن تحبين في الفردوس الأعلى من الجنة
سلمتِ وسلمت يمناك غاليتي
" فراق أحبتنا " هذه العبارة هي التي يقف الجميع أمامها بصمت .. عاجزين عن الكلام !
لا نملك أمامها سوى أن نقول : حسبنا الله ونعم الوكيل .. اللهم اجمعنا بمن نحب في الفردوس الأعلى وألبسنا حلةً من صبر ..
لا حول ولا قوة الا بالله
ذكرتيني بايام مضت,,,, مضت
لكن لازالت خناجرها تدمي في القلب,,
الله يرحمه والدكِ ويتغمد روحه,,
لكِ اصدق الدعوات
حبيبتي سنوت :
مشاعرنا واحدة بالفعل … رحم الله موتانا و جمعنا بهم في الجنان …….
أختي الغالية أناهيد :
الحمد لله على نعمة الصبر فبها وحدها تكون الحياة محمولة … شكرا لكِ غاليتي على وجودك بموضوعي ….
حبيبتي الغالية صدى :
بالغعل حبيبتي , عندما نفارق من نحب بالموت .. يمكن أن يتحول هذا الألم طاقات متفجرة بناءة تحول مسار حياتنا كلها ( هذا ما حصل معي و لله الحمد ) …
صبرك الله و جمعك بأحبتك في جنات عرضها السماوات و الأرض
بارك الله بكِ غاليتي .
حبيبتي حمامة الجنة :
قد نرى موت من نحب بمنظورنا الإنساني المحدود كأنه نهاية الدنيا …
و لكن حين نفكر بمن ورائه .. نعلم أنه الخير ,,, فالله سبحانه و تعالى لا يأتي منه إلا الخير ..
لذالك كنت دائما أقول ( حين توفي والدي ) : الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه …
نوزرت غاليتي موضوعي .
غاليتي طيف :
دعواتك الغالية أحس بالفعل بها … أثابك الله كل الخير على كلماتك الصادقة .
يقال إن المصيبة تولد كبيرة و تصغر بمرور الأيام
و ها هي أربعة أعوامِ مرت أو يزيد و لكن طفلتي تلك لم تنضج بعد ….
إنها حقاً ماكرة فلقد تواطأت مع قلبي و اتخذت منه مسكنا
لا تزال تملأ أعيوني حرقة كلما عبثت بمكنوناته
طفلتي اليتيمة تستمتع بإثارة شجوني …
تشرب من دموعي و تتغذى من ذكرياتي ..
فهي تكبر معي يوماً بعد يوم
رحمك الله يا أبي و أدخلك فسيح جناته ..
بسم الله الرحمن الرحيم :
" كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام "
——————————————————————————–
صدقت عزيزتي …
مازلت يتيمه
و مازال اخر مشهد له مسجى على السرير …وهم يدخلونه القبر وحيدا محفورا في ذاكرتي
الا ان قلبي مازل يتزف دموعا حاره …ابي متوفي من 8 اشهر فقط
ماذا اقول لك …..لقد مررت على الجرح بسكين بارده
لا تحزني غاليتي …
بالفعل شعرت بألمك و أنا أسفة جداً لإثارة هذه المشاعر الحزينة عندك …
الحمد لله على كل الأحوال ..
جمعك الله بوالدك و بكل من تحبين في الجنة ..
أسفة حبيبتي مرة ثانية