بسم الله الرحمن الرحيم
في يوم شتوي غائم
كانت النسائم الباردة تدغدغ الوجوه .. وتدغدغ الآمال والاحلام .. فالناس تنتظر يوما ً دافئا ً مشمسا .
الناس بين رائح وغاد .
والكل يترقب إطلالة الشمس .
عيون إلى السماء ترنو
وقلوب إلى الدفء تهفو
أشجار تتمايل تمايل الحسناء
وأوراق تتهاوى برقة وهوادة
تصل الأرض بخفة . وتحط دون استئذان ..
فيحتويها التراب ويحتضنها بحب وحنان .
كل شيئ عادي .. رتيب . ممل .
على احد مقاعد الحديقة العامة جلس رجل .. على رأسه قبعة .
قد رمى على كتفيه معطفا دون ارتداء .
وفي يده صحيفة يقلبها بين الفينة والأخرى .
غابت الشمس يومها تطلب الراحة والدعة .
أما الريح ! فقد كانت تشعر بالملل .
تصفحت وجوه الناس فرأتها لا تعكس شيئا ً .باردة برودة الجو حولها .
صاحت متأففة متضجرة :
ماهذا الملل ؟
أين الحركة ؟
أين النشاط ؟
لم تسمع جوابا .
اغتاظت . فصرخت :
أوووه .. لا حياة .. ولا إثارة . ولا تشويق !
وانت أيتها الشمس !!
ما لي أراك ساكنة هامدة ؟ تحدقين بي ! أما رأيت ريحا ً قط ؟
صمتت الشمس تفكر:
رباه ! يا من خلقت العقول والأفهام !
ما ذا أقول لهذه المغرورة ؟
اغتاظت الريح أكثر :
بلهاء .. متوارية .. منزوية ..خجولة . معك حق ! فمن انت حتى تردين ؟
همهمت الشمس :
الآن ستعرفين من أنا !
قررت ان تخرج من دائرة الصمت :
* أيتها الريح …. أيتها الريح !
* من يناديني ؟ انا لا أرى أحدا ً .
أنا هنا في الاعلى . أنظري إلي . انا الشمس .
* آه ! رأيتك . ماذا تريدين ؟
* أتشعرين بالملل ؟ تعالي نلعب لعبة !
قطبت الريح حاجبيها :
أنا ألعب معك ؟ ما هذا الزمان ؟ ضعيف وقوي يلعبان ؟
ليكن ما تشائين . فانا حقا ً أشعر بالملل .
قالت الشمس :
هناك !! ذلك الرجل الجالس على المقعد ؟ إنه الرهان بيننا .
* كيف ؟ لم أفهم !
* الأقوى بيننا من يجعله يخلع معطفه .
دوت الحديقة تردد صدى ضحكات الريح .
* الأقوى !!! ها . ها . ها
أتراك أبله مما كنت أظن ؟
حسنا ً ! لك ذلك ! أتبدئين ؟
* كلا . ابدئي أنت !
* لن يطول اتنظارك . هي جولة . لا اكثر .
* خذي وقتك .
قامت الريح متثاقلة قالأمر لا يبدو مثيرا ً .
بطيئةً مرت على الرجل . فلم يتحرك .
* لا بأس . سأزيد العيار قليلا ً .
لفحت وجهه بقوة ,, فتطاير شعره .. وشعر بالبرودة في أطرافه .
نظر حوله .. السماء مسودة . والغيوم تجري بسرعة .
رفع يديه ؟ أمسك المعطف
ضحكت الريح : ها ها ها
ارتدى الرجل المعطف !!
عبست الريح .. عقدت حاجبيها . استشاطت غضبا
* أتتجاهلني أيها الرجل ؟ سترى من هي الريح !
جرت بأقصى قوتها . هزت الأشجار . فترنحت
وتأوهت .
فما كان من الرجل إلا ان عقد هو الآخر حاجبيه .
ومد يده فأحكم إغلاق أزرار المعطف .
طار صواب الريح وتتطاير الشرر من عينيها :
عصفت أكثر .. هزت المقعد حتى كادت تخلعه .
أمسكت قبعة الرجل فأطاحتها أرضا ً ورمت بها
بعيدا ً . الصحيفة طارت إلى اللا منظور.
كل شيئ يتحرك . يئن , يزمجر , ويصفر ,
توقفت حركة الناس . اختبؤوا في بيوتهم .
صمتت أصواتهم
لا صوت إلا صوت الريح والخوف .
وأخيرا ً . أمسك الرجل معطفه .
تنفست الريح الصعداء . الآن . الآن .
فما كان من الرجل إلا أن أحكم شد المعطف على
جسده .. وجعل رأسه يغوص فيه . أدخل يديه في
جيوبه . رفع رجليه عن الأرض . وكومهما تحته .
ودلّى معطفه فوقهما . واختبأ تماما ً داخل معطفه .
عندها أيقنت الريح ان الأمر فوق استطاعتها .
نادت كسيرة مستاءة :
* أيتها الشمس : لقد يئست !
* لماذا أيتها الريح ؟ أين قوتك ؟
* لا أدري ! كلما عصفت أكثر ! تمسك بمعطفه أكثر .
* إذن ! قد جاء دوري ؟ اجلسي وانظري !
هدأت الريح واستكانت مستسلمة مهزومة .
تثاءبت الشمس .: لقد نلت قسطاً من الراحة .
مدت يدها فأزاحت غيوما ً كانت تستلقي أمامها
فرقتها بلطف وعناية .
ارتفعت في السماء متلألئة وضّاءة .
أرسلت أشعتها الحانية إلى كل مكان .
خيوط ذهبية غمرت العيون والوجوه .
أنوار دافئة غمرت القلوب والحنايا .
أنار الكون وأشرقت الحديقة .
أطيار غردت
وعصافير طارت من أعشاشها
رؤؤس أطلت من نوافذ منازلها .
صيحات تعالت
أطفال تراكضت .
شمس حانية .. دافئة .. رقيقة .. هادئة
سطعت على ضفاف الأرواح قبل الاجسام .. فتقبلها الناس بحب ووئام .
وصلت أشعتها الحانية وجه الرجل . فداعبته برفق
مسحت على عينيه …. ولامست يديه لمسة حنان وعطف .
شعر بالحرارة تسري في بدنه
أحس نبض الحياة يجري في عروقه .
وعاد إليه الإشراق والأمل .
رفع رأسه إلى السماء .
نظر إلى الشمس نظرة طويلة .
ابتسم ابتسامة عريضة
ثم …………….. خلع
المعطف .
:::::::::::::::::::::::::
سمعت ُ القصة قديماً
والآن أكتبها بقلمي
بُدور