تخطى إلى المحتوى

ونطق القَدَر 2024.

ونطق القَدَر

اللواء الركن: محمود شيت خطاب يرحمه الله

كان متنفذاً في قرية من قرى شمالي العراق ، وكان يعيش برغدٍ في قريته الجميلة الرابضة على سفح جبلٍ عالٍ تُكلل هامته الثلوج صيفاً وشتاءً ، وكانت تلك القرية مُحاطة بالبساتين التي تمتدُ إلى أميالٍ وأميال وهي تؤتي أكلها مرتين، وكانت العيون فيها كثيرة باردة الماء حلوة المذاق .
وتزوجت سعاد ابن عمها ، وكان ذلك الرجل المتنفذ يراها عاملة في الحقل
مع زوجها ، وراودها ذات يوم عن نفسها فاستعصمت ،وقالت : إني أخاف الله رب العالمين .
ويبيت الرجل في نفسه أمراً ، ويُصمم على تنفيذه …..
كان زوجها يحصد زرعهُ أواخر أيام الربيع ، وكان عمله قد استغرق عليه يومه كله ، وكان زرعه قد بقيَ منه شطرٌ قليل ، فتحامل على نفسه وحملها فوق ما تطيق ودأب يحصد بعد حلول الظلام .
وكانت زوجه في الدار تُهيء له الطعام وكان قد أرسلها إلى الدار مساءً ليلحق بها بعد قليل ، وكانت معه النهار كله تعاونه في الحصاد وتحمل ما يحصده إلى ساحة مجاورة لمزرعته ، فأشفق عليها بعد تعب طويل وأشفقت عليه بعد جهد
جهيد .
وكانت تنتظره متلهفة للقائه ، وكان يسرع في عمله متلهفاً للقائها وكان طعامها جاهزاً فوقفت بالقرب من باب الدار ترقب طريق عودته .
وكان الرجل العاشق يترصد زوجها وراءَ صخرةٍ عاتية فلما رآه وحيداً بعد ساعة من غروب الشمس صوب بندقيته وأطلق النار عليه فأرداه قتيلاً … ثم تسلل إلى القرية مستوراً بظلام الليل البهيم .
وطال انتظار الزوجة فقصدت أهلها وأخبرتهم بأمره ، فلما ذهب إخوتها إلى المزرعة وجدوه جثةً هامدةً ، وقد نزف دمه فغاص في بركةٍ من الدماء .
وكما كان يملأ الدار انشراحا وفرحا حين كان حيا ، فقد ملأها حُزنا وتَرحا بعد أن أصبح ميتا ، واتشحت أرملته السواد ، وأصبحت أيامها أشد سوادا من ثيابها ودأبت على التطلع إلى سير مقتل زوجها ، وأهتم رجال الأمن بالحادث واهتم المحققون بالحادث أيضا ، وتضخمت الملفات ، وكَثُرَ السؤالُ والجوابُ …
وأخيراً أغلقت القضية بعد أن توجت تلك الملفات بالعبارة المألوفة : (( الجاني مجهول الهوية ولم تعرف هويته على الرغم من التحقيق الدقيق )) . وهكذا نجحت العملية ومات المريض كما يقول بعض الأطباء ، والحق أن هذه القضية بالذات كانت قضية صعبة جداً : القتيل ليس له عدو وأهله لا يشتبهون بأحد ، وحادث القتل جرى في الظلام ، والقاتل لم يترك أثراً لجريمته والجثة اكتشفت بعد ساعات من موتها ، ومكان حادث القتل بعيد عن القرية ، وكان الناس يظنون أن القاتل نجى من العقاب إلى الأبد ، ولكن الله كان له بالمرصاد ، ويقدر الله ، ويقدر الناس ، ويد الله فوق أيديهم ..
بعد شهورٍ من مقتل زوجها تنافس عليها المتنافسون يطلبون يدها وكان من بين المتنافسين عليها ذلك الرجل المتنفذ في قريتها ، وبذل الرجل المتنفذ جهداً ومالاً وسعى سعياً حثيثاً بالحسنى تارة وبالتهديد أخرى حتى استطاع التغلب على خصومه فزفت إليه وأصبح محسوداً عليها يتربص به حاسدوه الدوائر ومضت الأعوام ثقيلة الخُطا على قلب المرأة التي لم تنسَ ابن عمها زوجها الأول في يوم من الأيام .
وكان ثراء زوجها الجديد ونفوذه وما يُغدق عليها من حُبٍ ورعاية . كل ذلك لا ينسيها أيام ابن عمها بما فيها من آلام وآمال وجهد وعرق ، وكانت علاقتها بزوجها الجديد علاقة لباس وثريد ، وكانت علاقتها بزوجها الأول علاقة دم وروح وكل مال الدنيا وكل ثرائها لا يساوي لمحة من علاقة الروح بالروح والدم بالدم .
وكان حُباً من جهة واحدة مع زوجها الجديد وكان حباً من جهتين مع زوجها الراحل وكانت أيامها مع الجديد أعوام وكانت مع الأول لحظات …!!
وقصد الزوج الجديد صديقاً له في قرية مجاورة ، وأصر الصديق على إكرام ضيفه ، ومضت ساعات لإعداد الطعام حتى إذا مدت الأطعمة وأقبل عليها الحاضرون كان قد مضى الشطر الأول من الليل ، وعاد الزوج إلى قريته في الهزيع الأول من الليل ، وفي طريق عودته بين المنعطفات والوديان وسفح الجبال سمع إطلاق نار وسمع أصوات استغاثات وحشرجة محتضر .
وسقط من يده فسحب مسدسه ليدافع عن نفسه وأطلق منه بعض العيارات النارية وركن إلى حفرةٍ وراء صخرة ضخمة ينتظر انجلاء الغمة ، وتوقف صوت الرصاص وأقبل الناس من القرى المجاورة ، ومعهم رجال الأمن والشرطة ، فوجدوا الرجل فوق جثة هامدة وثيابه ملطخة بالدماء ومسدسه بيده وقاده رجال الأمن متهماً بالقتل والسلب وكانت كل القرائن تدل على أنه هو القاتل : لا أحد في المنطقة غيره ، وقد وجد في الحفرة التي وجد فيها المقتول ، وثيابه ملطخة بدماء القتيل والإطلاقات التي خرجت من مسدسه هي نوع الإطلاقات التي استقرت في الجسد حسب تقرير الطبيب العدلي !!
ولم يفده دفاعه أثناء محاكمته بأنه كان عابر سبيل وبأنه لجأ إلى الحفرة خوفاً من الرصاص المنهمر عليه وأنه أطلق النار دفاعاً عن نفسه وتخويفاً للآخرين ومن الصدف أنه استقر في حفرة القتيل نفسها ، والعجيب في الأمر أن تلك الحفرة التي لجأ إليها في هذا الحاجز كانت الحفرة نفسها التي كمن فيها لاغتيال الزوج الشهيد !!
وانطلقت المحكمة الكبرى بالحكم علية بالإعدام شنقاً حتى الموت وصدقت محكمة التمييز هذا القرار واستكملت الدعوى شكلياتها الرتيبة بعد ذلك .
وجاء يوم تنفيذ حكم الإعدام به وحضر أهله وزوجه لتوديعه الوداع الأخير ….
وسأل الرجل أن يختلي بزوجه لحظةً من الزمان فأسر إليها بشيء وانهمرت من عينيه الدموع ، على حين وقفت زوجته جامدة كالتمثال لا تتكلم ولا تنوح ..
جاء السجان ليطلب إلى أهله مغادرة السجن فتركوا الرجل إلى مصيره المحتوم . ولم تتكلم الزوجة ، وكان سكوتها أبلغ من كل كلام .
وحين جاء الرجل إلى قريته بعد تنفيذ حكم الإعدام ليوارى في التراب إلى الأبد ، وكانت زوجه هي الوحيدة من بين أهله لم تتشح بالسواد حداداً عليه… وعادت الزوجة إلى أهلها معها أولادها رافضة البقاء في دار أهله رغم الإلحاح والإغراء ..
وجاء أبوه يوماً إليها طالباً استعادة أولاد ابنه إليه فلما ألحَّ عليها همست في أذنه قائلةً : إنَّ ابنك هو قاتل زوجي الأول ! لقد قال لي حين اختلى بي في زنزانته : أرجو عفوك ، فقد قتلت زوجك الأول من أجلك ، لكي تكوني لي وحدي ، ولم أقتل الرجل الذي حُكمتُ من أجله بالموت ،

ولكن الله كان بالمرصاد ، فانتقم مني لزوجك بعد حين .

وسكت الوالد ، وسكتت الزوجة ، ونطق القدر :

بشِّر القاتل بالقتل ، بشِّره بذلك ولو بعد حين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.