يدور في أورقة المحاكم الكثير من القضايا الأسرية التي يذهب فيها أحد الزوجين أو كلاهما ليشكو من الآخر..
وقد يصل الخلاف إلى الانفصال، وقد ينتهي بالمصالحة، حسب رؤية وتقدير القاضي.. هذا ما سنعرفه من خلال سلسلة هذه الجلسات السرية بالمحكمة.
ملخص ما سبق: الزوج "أحمد" كثير العتاب، في كل شاردة وواردة.. صبرت المرأة "فاطمة" سنة واحدة، وأنجبت طفلاً جميلا، ولكن لم يتغير الزوج، حتى كادت أن تنهار نفسيا، فاحتكمت إلى القاضي، وكان هذا الحوار:
القاضي: لقد استمعت إلى شكواك يا ابنتي، فهل يمكنك الإجابة عن أسئلتي بصراحة متناهية؟
فاطمة: أكيد يا شيخ، فأنا تعبت من المداراة.
القاضي: أحيانا يا ابنتي، تكون لتصرفات الزوج المتعبة جذور وأصول قديمة لها علاقة بالتربية، فتتشكل لديه عقد معينة تظهر على صورة تصرفات غير مبررة للزوجة، وأحياناً أخرى بسبب تصرفات الزوجة التي قد لا تدركها ولا تدري عنها، فمعاناة الرجل من سلوكيات معينة تدفعه لمثل هذه التصرفات، وأحياناً أيضاً تكون الملابسات التي حدثت في ظروف الزواج سبباً لتشكيل نمط تعامل الزوج مع زوجته.
وهناك الكثير من الأسباب التي تشكل الصورة النهائية لتعامل الزوجين مع بعضهما بعضا، ففي رأيك يا ابنتي، وأنت المرأة الواعية ما سبب تصرف زوجك بهذا الأسلوب معك؟ هل هو واحد من الأسباب التي ذكرتها أم هناك أسباب أخرى؟
فاطمة: والله لا أدري يا شيخ، أعتقد أنه هو الذي يجب أن يجيب على هذا السؤال..
القاضي: ولكنني أسألك من وجهة نظرك أنت، فلربما لاحظت أمراً خاصاً به يفيدنا أكثر في التعامل مع الموضوع.
فاطمة: نعم، لقد لاحظت شيئاً، ولكنني لست واثقة من أنه هو السبب..
القاضي بتلهف: ما هو؟
فاطمة: أعتقد أن أمه تعامله بنفس هذا الأسلوب، فلقد لاحظت أنها كثيرة العتاب لأبيه، وكذلك له، فهي دائماً.. بصراحة.. نفس شخصية أحمد..
القاضي: هل تعتقدين أن هذا هو السبب الحقيقي وراء تصرفات زوجك الغريبة بالنسبة لك؟
فاطمة: أعتقد أن هذا جزء من الأسباب..
القاضي وهو يرفع درجة تركيزه لكلامها: هه، ما الجزء الثاني من الأسباب؟
فاطمة تجهش بالبكاء:
حقيقة.. حينما بدأ معي هذا الأسلوب المؤذي في التعامل لم أكن أحتمله، لأنني لم أكن معتادة على هذا في بيت أهلي، وكنت أنتقم منه بطريقتي الخاصة..
القاضي يتصنع الهدوء: وما طريقتك الخاصة في الانتقام؟
فاطمة: كنت أستطيع عمل أمور كثيرة، ولكنني اخترت أن أستفزه باستمرار ، ولا أعيره الانتباه حينما يبدأ بعتابه القاتل المزمن.. فقد كان يومنا عبارة عن استفزاز مستمر مني، وعتاب مجنون من غير تفكير منه، وأعتقد أن كلا منا يكره الآخر الآن، وليس لدينا مشكلة في خيار الطلاق..
القاضي: ولكن خيار الطلاق غير وارد من جهة زوجك.. 
وأرجو أن لا نحل أمورنا دائماً بكلمة الطلاق، فهي بغيضة عند الله تعالى ولا نتعامل معها إلا إذا استحالت جميع الحلول.. اسمعي يابنتي.. أنا مثل أبيك: إن زوجك حقاً فريسة للتربية، ولا شك أنه هو من بدأ الإساءة، ولكن لم يكن من الصحيح أن تجري الأمور إلى الأسوأ بأساليبك الاستفزازية.. كان العتاب وتدخل العقلاء من طرفك أو طرفه كفيلاً بكبح هذه العادة السيئة لديه، ولكن إذا تفاقمت الأمور فكيف يمكن حلها؟ ولكن اسمحي لي، فأنا أريد مقابلتكما الآن معاً.
أطرقت فاطمة وهي تغالب دموعها، فقام القاضي بقرع الجرس فدخل المراسل، فطلب منه أن يدخل الزوج للجلوس معها.
دخل الزوج "أحمد" وهو مخطوف اللون، فبادر زوجته قائلا:
أحمد: لماذا تصرفت هذا التصرف وأجبرتني على الحضور هنا؟
فاطمة بانفعال: اسكت، يكفيك (لماذا) كم أبغضك يا رجل..
أحمد: أتسمعها يا شيخ، هذه قليلة الأدب، والله..
القاضي: أرجوك يا أحمد، اجلس لقد كان حري بك أن تفشي السلام قبل استفتاحك بعتاب زوجتك. 
أحمد: ولكن، ألم تسمعها هذه الوقحة؟
القاضي يرفع صوته: نعم سمعتها، ولكنني سمعتك كذلك، والآن استمعا إلى من فضلكما: يا أحمد، كلنا نعاتب زوجاتنا، وكذلك زوجاتنا يعاتبننا، فليس هناك حق حصر على الزوج أو الزوجة، الكل سواء أمام الله عز وجل، ولكن إن كان العتاب بلا آداب فهنا المأزق، وليس أي مأزق.. استمع إلي يا ولدي: لا تهول الأمر محل العتاب، بحيث تجعل من الحبة قبة، ولا تصعد في الأمور، فلا تجعل من الفرع أصلا، ولا من الذنب رأساً.. وابدأ بالتلميح قبل التصريح، فإن التصريح يجرح النفوس، والنفوس متفاوتة في التحمل، ولابد أن يكون التصريح بلطف ومن دون عنف.. وأسر بعتابك يا ولدي، فما كان مقبولا منك أن تعاتبها أمامي بهذه الطريقة، واختر الوقت المناسب، فلا تعاتب عند العراك والغضب، ولكن انتظر حتى تهدأ الأمور، وتأكد من أن العتاب لا يجرح النفوس ولا يؤدي إلى ضرر أكبر، وابتعد عن الاستعلاء والتشفي والعناد.
أحمد مقاطعا: يعني أسكت عنها ولا أربيها؟
القاضي: لا يكون العتاب يا ولدي إلا في أمر ذي بال، وليس في التوافه..
أحمد مقاطعاً مرة أخرى: كل شيء تعلمه هذه المرأة ذو بال..
القاضي يقاطعه: هل تأخير الطعام لدقائق في ظروف معينة أمر ذو بال؟ هل إلباسها ولدها بدلة بلون معين أمر ذو بال؟ هل ترتيبها لأوراقك ووضعها ورقة فوق أخرى أمر ذو بال؟ أجبني يا أحمد..
أحمد يسكت..
القاضي: فماذا كنت ستفعل لو أن زوجتك فعلت أمرا بال حقيقة؟ هل يسعدك أن يكون يومك كله: لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
أحمد ثائر: أريد أن أعلمها الانضباط..
القاضي متسائلا: تصور نفسك يا أحمد وأنت في عملك، ولا يرضى عنك مسؤولك في أي شيء تقوم بعمله؟ ألن ينغص ذلك عيشتك؟ هل ستستطيع الاستمرار معه؟ هل ستؤدي واجباتك بمحبة أم بتثاقل وبغض؟ لا يمكنك يا ولدي وأنت معاتب، فإن أقدمت قال لك إن الإحجام هو الصحيح، وإن أحجمت قال لك إن الإقدام هو الصحيح.. لا يا ولدي لا ثم ألف لا..
وهنا، كان أحمد يصفع على وجهه ويستيقظ من سباته، ثم يطيل النظر إلى زوجته، ثم يقول لها بعد لحظات صمت: هل أنا أفعل بك كذلك؟! فاطمة: تسكت وتشيح بوجهها عنه.. ففهم مرادها.. 
أدرك القاضي أن الرسالة وصلت إلى قلب أحمد، فأنهى حديثه قائلا: يا ولدي الحبيب، لقد خدم أنس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال له قط أف، ولا قال لشيء فعله لم فعلته.. ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا؟
منقول من بريدي
