<center>
… تفسير سورة البقرة من آية (1- 16) وهي مدنية …
مــن آيـة { 1 – 5 }
( الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الين يؤمنون بالغيب
ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وماأنزل من قبلك
وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )
في قوله تعالى : ( الم )
حروف مقطعة في اوائل السور والاسلم فيها السكوت عن التعرض
لمعناهامع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها …
وقوله : ( ذلك الكتاب )
أي : هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقةالمشتمل على …
مالم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتاخرين من العلم العظيم والحق المبين …
فـ ( لا ريب فيه )
ولا شك بوجه من الوجوه ونفي الريب عنه يستلزم ضده …
إذ ضد الريب والشك اليقين المزيل للشك والريب …
وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح لابد ان يكون متضمنا لضده وهو الكمال …
لان النفي عدم والعدم المحض لا مدح فيه …
فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل الا باليقين قال :
( هدى للمتقين )
والهدى : ماتحصل به الهداية من الضلالة والشبه …
ومابه الهداية الى سلوك الطرق النافعة …
وقال ( هدى ) وحذف المعمول , فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ولا للشيء الفلاني …
لإرادة العموم وأنه هدى لجميع مصالح الدارين فهو مرشد للعباد …
في المسائل الاصولية والفروعيه ومبين للحق من الباطل والصحيح من الضعيف …
ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم واخراهم …
وقال في موضع آخر : ( هدى للناس )
فعمم وفي هذا الموضع وغير ( هدى للمتقين ) لانه في نفسه هدى لجميع الخالق…
فالاشقياء لم يرفعوا به راسا ولم يقبلوا هدى الله فقامت عليهم به الحجة ولم ينتفعوا به لشقائهم …
وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الاكبر لحصول الهداية وهو التقوى …
التي حقيقتها : اتخاذ مايقي سخط الله وعذابه بامتثال اوامره واجتناب نواهيه …
فاهتدوا به وانتفعوا غاية الانتفاع … قال تعالى :
( ياايها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) …
فالمتقون هم المنتفعون بالايات القرآنية والآيات الكونية …
ولأن الهداية نوعان :
هداية البيان وهداية التوفيق ….
فالمتقون حصلت لهم الهدايتان …
وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها …
ليست هداية حقيقية { تامة } …
ثم وصف المتقين بالعقائد والاعمال الباطنة والاعمال الظاهرة …
لتضمن التقوى لذلك فقال :
( الذين يؤمنون بالغيب )
حقيقة الايمان : هو التصديق التام بما اخبرت به الرسل …
المتضمن لانقياد الجوارح وليس الشأن في الايمان بالاشياء المشاهدة بالحس …
فانه لا يتميز بها المؤمن من الكافر إنما الشأن في الايمان بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده …
وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله فهذا الايمان الذي يميز به المؤمن من الكافر …
لانه تصديق مجرد لله ورسوله فالمؤمن يؤمن بكل مااخبر الله به او اخبر به رسوله …
سواء شاهده او لم يشاهده وسواء فهمه وعقله اولم يهتد اليه عقله وفهمه …
بخلاف الزنادقة المكذبين للامور الغيبية لان عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد اليها …
فكذبوا بمالم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم ومرجت احلامهم …
وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله …
ويدخل في الايمان بالغيب الايمان بجميع مااخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة …
واحوال الاخرة وحقائق اوصاف الله وكيفيتها ( ومااخبرت به الرسل من ذلك ) …
فيؤمنون بصفات الله ووجودها ويتيقنونها وان لم يفهموا كيفيتها …
ثم قال : ( ويقيمون الصلاة )
لم يقل : يفعلون الصلاة او يأتون بالصلاة …
لانه لا يكفي فيها مجرد الاتيان بصورتها الظاهرة …
فإقامة الصلاة إقامتها ظاهرا باتمام اركانها وواجباتها وشروطها …
واقامتها باطنا باقامة روحها وهو حظور القلب فيها وتدبر مايقوله ويفعله منها …
فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها : ( ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) …
وهي التي يترتب عليها الثواب فلا ثواب للانسان من صلاته الا ماعقل منها …
ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافله …
ثم قـال : ( وممارزقناهم ينفقون )
يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على الزوجات والاقارب
والمماليك ونحو ذلك والنفقات المستحبة لجميع طرق الخير …
ولم يذكر المنفق عليه لكثرة اسبابه وتنوع اهله ولان النفقة من حيث هي قربة الى الله …
وفي قوله : ( رزقناهم )
اشار الى ان هذه الاموال التي بين ايديكم ليست حاصلة بقوتكم وملككم
وانما هي رزق الله الذي خولكم وانعم به عليكم …
فكما انعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه …
باخراج بعض ماانعم به عليكم وواسوا اخوانكم المعدمين …
وكثيرا مايجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القران …
لان الصلاة متضمنة للاخلاص للمعبود والزكاة والنفقة متضمنه للاحسان على عبيده …
فعنوان سعادة العبد اخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق …
كما ان عنوان شقاوة العبد عدم هذين الامرين منه فلا اخلاص ولا احسان …
ثم قـال : ( والذين يؤمنون بما انزل اليك )
وهو القران والسنة … قال تعالى :
( و انزل الله عليك الكتاب والحكمة ) …
فالمتقون يؤمنون بجميع ماجاء به الرسل ولا يفرقون بين بعض ماانزل اليه …
فيؤمنون ببعضه ولا يؤمنون ببعضه إما بجحده او تأويله الى غير مراد الله ورسوله …
كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعه الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم …
بما حاصله عدم التصديق بمعناه وان صدقوا بلفظها فلم يؤمنوا بها ايمانا حقيقيا …
وقولــه : ( وما أنزل من قبلك )
يشمل الايمان بالكتب السابقة …
ويتضمن الايمان بالكتب و الايمان بالرسل وبما اشتملت عليه خصوصا التوراة والانجيل والزبور
وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل …
فلا يفرقون بين احد منهم …
ثم قــال : ( وبالآخرة هم يوقنون )
و " الآخرة " : اسم لما يكون بعد الموت وخصه { بالذكر} بعد العموم
1-لان الايمان باليوم الاخر احد اركان الايمان …
2-ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل …
و " اليقين " : هو العلم التام الذي ليس فيه ادنى شك الموجب للعمل …
( اولئك ) أي الموصوف بتلك الصفات الحميدة ( على هدى من رهم )
أي : على هدى عظيم لان التنكير للتعظيم …
واي هداية اعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنه للعقيدة الصحيحة والاعمال المستقيمة …
وهل الهداية " الحقيقية " الا هدايتهم وما سواها " مماخالفها " فهو ضلالة …
وأتى بـ " على " في هذا الموضع الدالة على الاستعلاء …
وفي الضلالة يأتي بـ " في " كما في قوله تعالى :
( وإنا أو إياكم لعلى هدى او في ضلال مبين ) …
لان صاحب الهدى مستعل بالهدى مرتفع به وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر …
ثم قــال تعالى : ( وأولئك هم المفلحون )
والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب …
حصر الفلاح فيهم لانه لا سبيل الى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم …
وماعدا تلك السبيل الا سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بصاحبها الى الهلاك …
فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم المعاندين للرسول …
<center/>