تسللت أشعة الشمس الدافئة إلى غرفتي عبر النافذة المواجهة لسريري.. كنت أشعر بنعاس وكسل شديدين كعادتي.. فاليوم إجازة وليس لدي ما أفعله.. فتحت عيني المرهقتين من السهر وبدأت أنظر لما حولي.. أكوام من الورق ملقاة بإهمال على مكتبي.. وملابسي المكدسة في ركن الغرفة.. مجموعتي المحببة من الدمى مبعثرة في كل مكان.. تعجبت لتلك الفوضى العارمة، فمن عادتي أن لا يغمض لي جفن إلا بعد إعادة كل شيء إلى مكانه.. اعتدلت في جلستي محاولة تذكر أحداث الليلة الماضية.. كنت قد أنهيت امتحاناتي قبل عدة أيام، وهذا يفسر تكدس الملابس.. والدمى؟! إنها ليست للعب مطلقاً!! يبدو أنها إحدى الصغيرات تسللت إلى غرفتي ولعبت بها.. كم تمنوا أن يأخذوها مني كلما زارتني إحداهنّ.. لكنها دمى عزيزة علي وأحب الاحتفاظ بها.. حسنٌ.. بقيت الأوراق المبعثرة!! ما سرها؟!.. اقتربت من منضدتي بتمهل وكسل لأرى حقيقة تلك الأوراق.. ألقيت نظرة عليها.. لا شيء مهم.. ليست سوى أوراق قديمة أردت التخلص منها.. وأخذت أجمع تلك الأوراق وأنا أقرأها سريعاً.. أسئلة امتحانات.. مذكرات لمواد سابقة.. فواتير و و و وقصتي مع الحياة!!! قصتي مع الحياة؟؟! عنوان ليس بالغريب علي.. لكن، ما سر وجوده هنا؟!
جلست على أقرب كرسي إلى جواري وبدأت أقلّب صفحاتها.. إنها أحداث رتبتها يوماً ما في موضوع خاص، وأسميتها: ( قصتي مع الحياة ).. لكنها كانت مفقودة منذ زمن وبحثت عنها في كل مكان ولم أجدها فيئست وتركت الأمر وصرفته عن ذهني.. ولكن، لماذا وجدتها اليوم؟!.. حاولت استرجاع ما كتبت في قصتي تلك وما كان فيها.. لكن ذاكرتي كانت مشوشة.. نفضت عنها غبار السنين وبدأت في قراءة أولى صفحاتها..
(على أنغام طيور الصباح الهادئة.. ونسمات الفجر العليل.. بدأ يومي الجديد.. يوم حافل بالمهام المدرسية وواجباتها.. قمت مسرعة وغسلت وجهي بذلك الماء البارد الذي أذهب النوم سريعاً عن أجفاني الناعسة.. ارتديت ملابسي المدرسية وحملت حقيبتي بانتظار سائقنا البطيء.. لطالما تأخرت عن مدرستي بسببه وتم إيقافي خارج طابور الصف.. وفوق ذلك يعنفني إن تأخرت ظهراً.. ألا يدري أنني فتاة وعلي أن أرتدي العباءة.. إنها كبيرة وتجعلني آخذ وقتاً لترتيبها!! وهكذا كل يوم.. نفس الكلام ونفس الأسباب!! إلى أن سئمت منه وتركته إلى سائق آخر أكثر صبراً وأقل كلاماً.. إيـــه.. كم أتمنى أن يكون أبي موجوداً ليوصلني كل يوم إلى أي مكان أريد.. دون خوف ودون تعنيف.. رحمك الله يا أبي الحبيب..
وانتهى يومي الدراسي كباقي الأيام.. دروس مملة.. وكلام مكرر من التاريخ والجغرافيا يعيدونه كل يوم.. لا أدري لماذا ندرس تضاريس العالم دولة دولة وما بها من رياح وعواصف.. إننا لا نعيش فيها ولن نزورها يوماً ما.. لا يهم.. عدت إلى غرفتي وأنا مرهقة.. ألقيت بجسدي المثقل على سريري أنتظر أن تغلق أجفاني.. مرت ساعة.. ساعتين.. نصف ساعة أخرى.. لا فائدة.. تذكرت ذلك السائق العجوز.. كم هو شديد الصبر.. تأخرت اليوم نصف ساعة.. ظننت انه غضب فاعتذرت منه إلا أنني تفاجأت برده:
-لا بأس يا ابنتي.. عندما تأخرتِ ذهبت لأصلي الظهر في المسجد المجاور ولم أنتظر كثيراً…
تعجبت منه.. كم هو طيب.. ليس كذلك السائق الذي قبله.. كم يذكرني هذا الرجل بأبي الحبيب.. مازلت أتذكر قصتي مع أبي الغالي.. عشت معه أياماً رائعة لا تنسى.. بدءاً من طفولتي العذبة.. إلى يوم وفاته المرير.. يا الله.. كم هي ذكريات حميمة.. وكم هو رائع أبي الحبيب..
عندما كان عمري خمس سنوات، رزقنا بطفل جديد.. إنه أخي الأصغر.. قبل أن يولد أخي.. كنت مدللة الجميع.. فأنا آخر العنقود كما يقال.. لكنني بوجود هذا الضيف أصبحت شيئاً آخر.. أصبح أخي هو من ينام إلى جوار أمي.. ما زلت أتذكر كيف أني كنت أغالب شعوري الحزين لفقدي تلك المكانة التي لم يكن أحد يشاركني فيها.. وبكيت يوماً ما في منتصف الليل.. لم يسمع أحد ذلك البكاء سوى أبي الحبيب.. واحتضنني ليهدئ من روعي، فقد ظنّ أنني كنت أحلم.. عندها، أحسست بالأمان.. ونسيت كل شيء.. لأغمض تلك الأجفان الدامعة..
ويوماً بغد يوم.. كبرنا.. وحان موعد دخولي المدرسة.. إنها المرة الأولى التي أكون فيها وحدي مع أُناس لا أعرفهم ولم أرهم يوماً ما.. كنت خائفة جداً ذلك اليوم.. ومازلت أتذكر شكلي وأنا طفلة صغيرة.. بطول لا يتعدى المتر وضفيرتين من الخلف تتدليان بدلال إلى آخر ظهري.. وجسم صغير نحيل لا يقوى على حمل تلك الأثقال من الكتب المدرسية.. وكل يوم، يرافقني أبي إلى مدرستي.. يوصلني صباحاً بعد أن يشتري لي عصير الفراولة بالحليب المحبب إلي –وما زلت أحبه إلى اليوم- حاملا حقيبتي المدرسية طوال الطريق.. وعند الظهيرة، أجده ينتظرني عند بوابة المدرسة ليعود بي إلى بيتنا..
لم أدرس في تلك المدرسة سوى سنتين.. فعندما أنهيت السنة الثانية، انتقلت إلى مدرسة أخرى بحكم انتقالنا إلى سكن جديد.. لأبدأ معها حياة جديدة..
في تلك المدرسة.. بدأت حياة جديدة وعالم جديد.. وأشخاص أراهم للمرة الأولى في حياتي.. لكنني مع الأيام بدأت أتأقلم شيئاً فشيئاً ليصبح العالم الجديد مألوفاً لدي.. كنت أعيش حياتي كباقي الأطفال.. أغدو وأروح وتفكيري منصب على اللعب وتمضيه أكبر وقت فيه.. إلى أن بدأت مرحلة حرجة من حياتي.. لم أعرها اهتماماً كبيراً في بداية الأمر.. فقد كنت أنعم بحب أبي الغالي.. إلى أن وصلت إلى سن الثالثة عشرة.. حيث كان الانقلاب الكبير في حياتي.. بين يوم وليلة رحل أبي الحبيب.. رحل أبي عن هذه الدنيا وسط ذهولي وعدم تصديقي للأمر.. ومكثت عدة أشهر في هذيان وذهول.. أسلي نفسي بذكرى أيام قضيتها مع ذلك الحبيب أبي.. شهور عديدة وأنا أنتظر عودة ذلك الفقيد من سفره.. لكنه لم يعد.. انتظرته صباح مساء.. عند كل شروق وغروب.. ولكن، يبدو أنه لا فائدة.. لم أفقد العزم.. فأبي يعيش بين جوانحي.. ينبض قلبي بحبه.. وتشتاق عيني لرؤياه..
وهكذا مرت بي الأيام والسنين.. بدأت أخرج مما أنا فيه بمساعدة من حولي..
ومرت سنين طوال بعدها.. التقيت فيها بمن أحببتها بعد ذلك وناديتها أمي.. مَن تحمل في قلبها كل معاني الأمومة السامية.. وما تزال هي أمي.. وأم رائد.. كم أحببت تلك الإنسانة.. تمكنَت من زرع الأمل في نفسي من جديد.. لن أنسى لها جميلها مدى الحياة.. فما زالت تشد من عزمي.. كلماتها تبعث الثقة في نفسي.. تشعرني أنني ما زلت بخير.. وأن الحياة حولي بخير.. كم أشتاق إلى رؤيتها.. فقد غابت عن ناظري منذ أربعة سنين.. ولا أدري متى سيكون لقاؤنا.. إيه يا أمي.. متى سيكون ذلك؟؟..
وها أنذا اليوم قد وطدت أقدامي على أولى خطوات المستقبل الذي رسمته لنفسي.. بعيداً عن أهلي ومن أحب.. أضع بصمتي الصغيرة على أوراق الأيام وكأنني أنقش على الحجر.. بدأت رحلتي وحيدة.. فلا صداقات حميمة.. ولا أقارب يمدون لي يد العون.. إلى أن جاء ذلك اليوم.. حين التقينا.. لم أهتمّ لوجوده كعادتي.. لكنه الآن أصبح………)
توقفت عن قراءة تلك الوريقات.. فقد كانت تلك آخر جملة فيهاّّ تعجبت من نفسي.. لماذا لم أكملها ذلك اليوم.. بل لماذا كانت في قائمة الأوراق المنسية!!!
تركتها جانباً وبدأت في ترتيب حجرتي.. أنهيت كل شيء خلال ساعتيين.. برق في ذهني فكرة إكمال ما كتبته من قبل.. لا أدري ماذا سأكتب فهي عن (……..).. رفيقي الجديد.. أو بالأصح، مَن سيكون رفيقي!!……. وزوجا يوما ما…
تركتها من جديد.. وبدأت أفكر في حياتي.. فمن حولي يرونها بشكل خاطئ.. ونظرة ليست كنظرتي.. حتى أمي (أم رائد).. كم تساءلت ذلك اليوم.. لم أستطع إخبارها بشيء.. فمجرد التفكير في هذا الأمر يشعرني بالألم ويغمرني بالحزن.. وكلما تخيلت، سالت أدمعي.. إنها كل ما أملكه الآن.. فهي سلوتي في وحدتي..
ترى.. هل سيدرك من حولي ما أفكر فيه وما أشعر به.. لا يهم.. ما يهمني أن تدرك ذلك أمي.. فهي لي أملي الكبير.. فهلا ساعدتني أمي؟!
ملاحظة…
كتبت هذه القصة من نسج الخيال.. ربما لها صلة بسيطة للواقع، لكن الأمر مختلف بطبيعة الحال…
صدى
ابنة الرجل
الثلاثاء/ 15 ابريل 2024
اباسال سؤال
صدى هي تكون بنت الرجل
والله من يومين كنت اقول في نفسي
اول مادخلت الموقع كثير اقرا لبنت الرجل ومن زمان وانا فاقدتها
وبغيت اسالكم بس مادري وشلون مشيت الامر
صدى = ابنة الرجل
معادلة حلوة
لكن لم استطع ان اضيف لابداعك المتألق شيئا!
كتبتِ ببساطة كما تعودت منكِ ,, ولامستِ القلوب بصراحتك المعهودة ,,
بارك الله فيكِ وننتظر مزيدك ان شاء الله.
شكرا لتشريفك اخية
لانك دايم تجبين طاري روحتك لماليزيا
نفس كلمة بنت الرجل
اتحفينا بالمزيد …
يا حبذا لو أتحفتنا بالمزيد على الدوام