ما معنى ألّا تكون عندك بطاقة هويّة ؟ ولا عقد ازدياد ؟ ولاعقد زواج ؟ ما معنى أن تعيش وتموت وأنت خارج كلّ الحسابات؟ قصّتي اليوم عن امرأة ،في السبعين من عمرها ، لها من الأولاد بنتان وولدان وأحفاذ .
لا واحد من أبنائها ولج المدرسة ، أحدهما عامل في مدينة كبيرة ، والثاني يعيش معها ، عامل مياوم في مزارع الآخرين . وبنت متزوّجة ـ حكايتها حكاية ـ وأخرى خادمة ،منذ أن وصلت العاشرة وهي تتنقل من بيت إلى آخر . شديدة الإحساس بدونيتها ، شديدة الحزن على حالها لأنّها لم تتعلّم ؛ وكثرا ما تقارن نفسها بالبهيمة لأنّها لا تعرف كثيرا مما يعرفه المتعلّمون . عن أمور الدين وأسس الصحة والنظافة والتربية مرضت الأم ووصف لها الطبيب إجراء عملية على عينيها ، ولأنّها لم تكن تملك النقود انتظرت آملة الاستفادة من حملة النور ، ـ حملة تطوعية يقوم بها أطباء لفحص العيون وإجراء عمليات مجاناـ . ذهبت الشغالة في العطلة إلى بلدها ، ومرّت الحملة ولم يستطع من كان يريد مساعدتها التواصل معها بسبب صعوبة الاتصال هاتفيا . فتطوّرت الحالة .
تشتغل فاطمة وتوفّر أجرتها للتمكن من إجراء العملية لأمها
ولأنّها أمينة ومجتهدة ،
يسّر الله لها من سيساعدها لإجراء العملية مجانا
في مستشفى جامعي ؛ فماذا حصل ؟
هان الصعب ؛ لكن أمرا يبدو بسيطا عرقل كلّ شيئ .
فما هذا الشيئ البسيط /الجبار الذي كسر أحلامها ؟
إنّه الجهل .
أم فاطمة زوّجوها بالفاتحة ،
وهي لا تتوفر على أي وثيقة تثبت هويتها .
ولدت وكبر الأولاد ومات الزّوج ؛ وهي خارج التاريخ .
لا يربطها بوطنها سوى اسمها في دفتر الحالة المدنية
الذي أنجزه ابنها لضرورة التنقل والعمل
بعد أن حرم من التعليم لظروفهم الاجتماعية ولغياب ما يثبت وجوده .
ولأنّه لم يعد يقبل أن يعيش أبناؤه ما عاشه هو وإخوانه .
لكنّه لم يستطع إنقاذ أختيه من براتن الجهل والفقر ؛
فإحداهنّ زوّجوها لمجرّد أن تنتقل من وضع إلى آخر ؛
وللتخلّص من أحد الأفواه التي تنتظر عودته لتأكل .
أمّا الثانية فلم تعرف طفولة ولا مراهقة ولا شباب ؛
لأنّها انتقلت إلى عالم الشغل وهي طفلة ؛
وانتقلت من بيت إلى آخر ؛
وخبرت الحياة بحلوها ومرّها والمرّ أقوى .
تسترق النظر إلى دفاتر وكتب الأولاد ..تتصفحها أحيانا
وتتلألا دمعة في محجريها .
تتصفح المجلّات وتسأل ، وتقول : القراية نعمة .
والحمد لله ستتعلّم . أمّا الجديد في الموضوع فهو تطوّع طبيب لمساعدتها
لكن ؛ مرّة أخرى تبرز عقدة الجهل ،
عدم التوفر على بطاقة هوية ولا حتّى عقد ولادة ولا أي ورقة ثبوتية ؛
وبالطبع لا صوت لها لأنها لا تعرف شيئا عن انتخاب ولا استفتاء …
علما أنّ هذه الوثائق ضرورية وملزمة لتدخل المستشفى
وتجري العملية ؛فما العمل ؟
فاطمة الآن في البلد ؛ ذهبت لتحضر أمّها لإجراء العملية ،
ومعها أيّ وثيقة تثبت وجودها ،
صورة مصادق عليها من صفحة دفتر الحالة المدنية حيث يوجد اسم أم الأولاد ؛
أي اختزال هذا ؟
إلى متى ؟ تعيش نساء ويمتن وهنّ سجينات الجهل والاختزال .
قصّة فاطمة مؤلمة جدّا لأنّها تعيش عذابا ؛
بين تحمل مسؤولية أم كبيرة ومريضة بل مهدّدة بفقدان بصرها
وبين بناء مستقبلها ،
وهو أمامها ضبابي جدّا ومخيف ، لا أريد خلط المواضيع ؛
لأنّ موقفها من الزواج حكاية .
سقت هذه الحكاية للتأكيد على أنّ الجهل قاتل ،
فبسببه يمكن أن يستغلّك الجميع ويستغفلوك
ممكن أن تجرّد من ممتلكاتك بتوقيع بسيط .
ممكن أن يسرق صوتك في الانتخابات .
ممكن أن تُوَرّط في جريمة لا علاقة لك بها بمجرّد بصمة .
ممكن أن تعيش وتموت وأنت لا تعرف سوى الأكل والنوم .
ممكن أن تبخّس نفسك وتقارنها بالحيوان
كما تفعل فاطمة حين تقارن نفسها بالبهائم
لأنّها لا تعرف شيئا وتندهش أمام أبسط الاختراعات .
وأبسط مناها أن تتعلّم الأبجدية لتقرأ القرآن
وتعرف أرقام الهاتف .
فكم من فاطمة وأم فاطمة تنتظر الإنقاذ؟