**تفسير سيد قطب**
هذه الآيات تشي بأنها نزلت في السنوات الأولى للهجرة ، حيث كان
اليهود ما يزالون بالمدينه ، أي قبل غزوة الأحزاب على الأقل و قبل
التنكيل ببني قريظه إن لم يكن قبل ذلك ،أيام أن كان هناك بنو
النضير و بنو قينقاع ، وأولاهما أجليت بعد أحد و الثانيه أجليت قبلها –
ففي هذه الفترة كان اليهود يقو يمون بمناوراتهم هذه وكان المنافقون
يأرزون إليهم كما تأرز الحية إلى الجحر ! و كان هؤلاء و هؤلاء
يسارعون في الكفر ، ولو قال المنافقون بأفواههم : امنا .. وكان
فعلهم هذا يحزن الرسول – صلى الله عليه و سلم – و يؤذيه .. و الله –
سبحانه -يعزي رسوله – صلى الله عليه و سلم – و سواسيه ، ، و
يهون عليه فعال القوم ، و يكشف للجماعة المسلمه حقيقة
المسارعين في الكفر من هؤلاء و هؤلاء ، و يوجه الرسول – صلى
الله عليه و سلم – إلى المنهج الذي يسلكه معهم حين يأتون إليه
متحاكمين ، يعد ما يكشف له عما تامروا عليه قبل أن يأتوا إليه وما بيتوه :
( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : امنا ، بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم ، و من الذين هادوا .. سماعون للكذب ، سماعون لقوم اخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ، و إن لم تؤتوه فاحذروا…… )
روى أن هذه الآيه نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم – تختلف
الروايات في تحديدها – منها الزنا و منها السرق .. و هى من جرائم
الحدود في التوراة ، و لكن القوم كانوا قد اصطلحوا على غيرها ،
لأنهم لم يريدوا أن يطبقوها على الشرفاء فيهم في بادأ الأمر . ثم
تهاونوا فيها بالقياس إلى الجميع ، وأهلوا محلها عقوبات أخرى من
عقوبات التعازير .. فلما و قعت منهم هذه الجرائم في عهد الرسول –
صلى الله عليه و سلم – تامروا على أن يستفتوه فيها .. فإذا أنتى
لهم بالعقوبات ما عندهم في التوراة لم يأخذوا بحكمه .. فدسو
بعضهم يستفتيه .. ومن هنا حكاية قولهم : ( إن أوتيتم هذا فخذوه ، و أن لم تؤتوه فاحذروا )
و هكذا بلغ منهم العبث ، و بلغ منهم الاستهتار ، و بلغ منهم الالتواء
أيضاً في التعامل مع الله سبحانه و تعالى – و التعامل مع رسول الله –
صلى الله عليه و سلم – هذا المبلغ .. و هى صورة تمثل أهل كل
كتاب حين يطول عليهم الأمد ، بتقسو قلوبهم ، و تبرد فيها حرارة
العقيده ، و تنطفئ شعلتها و يصبح التفصي من هذه العقيده و
شرائعها و تكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل ، !!!!!
الله – سبحانه و تعالى – يقول لرسوله في شأن هؤلاء المسارعين
بالكفر ، وفي شأن هؤلاء المتامرين المبيتين لهذا الألاعيب : لا تحزنك
الذين يسارعون في الكفر . فهم يسلكون سبيل الفتنة و هم و اقعون
فيها ، و ليس لك من الأمر شيئ ، و ما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنة و قد سلكوا طريقها و لجوا فيها :
( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً )وسيجزيهم بالخزي في الدنيا و العذاب العطيم في الآخرة :
( لهم في الدنيا خزي ، و لهم في الآخرة عذاب عظيم )
فلا عليك منهم ، ولا يحزنك كفرهم ، ولا تحفل بأمرهم . فهو أمر
مقضي فيه .. ثم يمضي في بيان حال القوم ، و ما انتهوا إليه من
فساد في الخلق و السلوك ، قبل أن يبين لرسول الله – صلى الله عليه و سلم – كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين :
**تفسير ابن كثير **
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن
طاعة الله ورسوله ، المقدمين اراءهم و أهواءهم على شرائع الله عز
و جل ( من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) أي أظهروا
الايمان بألسنتهم ، و قلوبهم خراب خاويه منه ، هؤلاء هم المنافقون
( ومن الذين هادوا ) أعداء الاسلام وأهله ، وهؤلاء كلهم ( سماعون
للكذب ) أي مستجيبون له ، منفعلون عنه ( سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك ) أي يستجيبون لأقوام اخرين لا يأتون مجلسك يا محمد ، و
قيل المراد أنهم يستمعون الكلام و ينهونه إلى قوم اخرين ممن لا
يحضر عندك من أعدائك ( يحرفون الكلم من بعد مواضعه )أي يتأولونه
على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه ، و هم يعلمون ،
( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه و أن لم تؤتوه باخذروا ) قيل : نزلت
في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً ، و قالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى
محمد ، فإن حكم بالديه فاقبلوه ، و إن حكم بالقصاص فلا تستمعوا
منه ، و الصحيع أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا و كانوا قد بدلوا
كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوهو
اصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، و التحميم و الاركاب
على حمارين مقلوبين ، فلما و قعت تلك الكائنه بعد الهجرة قالةا فيما
بينهم : تعاليا حتى نتحاكم إليه فإن حكم بالجلد و التحميم فخذوا
عنه واعلوه حجه بينكم و بين الله ، و يكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، و إن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
و قد و ردت الأحاديث في ذلك فقال مالك ، عن نافع عن عبد الله بن
عمر رضي الله عنهما : أن اليهود جاؤو إلى رسول الله – صلى الله
عليه و سلم – فذكر لهأن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول
الله – صلى الله عليه و سلم ( ما تجدون في التوارة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم و يجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن
فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على ايه
الرجم ، فقرأ ما قبلها و ما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع
يدك فرفع يده ، فإذا اية الرجم ، فقال : صدق محمد فيها اية الرجم ،
فأمر بهما رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فرجما ، فرأيت الرجل
يحني على المرأه يقيها الحجارة ، خرجه ،فهذا في لفظ البخاري
،وفي لفظ له : فقال لليهودي ( ما تصنعون بهما ؟ ) قالوا : بسخم
وجوههما و نخزيهما ، قال ( فأتوا بتوراته فاتلوها إن كنتم صادقين )
فجاءوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور : اقرأ فقرأ حتى انتى إلى
موضع منها ، فوضع يده عليها فقال : ارفع يدك فرفع ، فإذا ايه الرجم
تلوح ، قال : يا محمد إن فيها ايه الرجم و لكنا نتكاتمه بيننا ، فأمر بهما فرجما .
قال الأمام احمد : حدثنا أبو معاويه ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن
مرة ، عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله – صلى الله عليه و
سلم – يهودي محمم مجلود ، فدعاهم ، فقال ( اهكذا تجدون حد
الزنى في كتابكم ؟ ) فقالوا نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال
( انشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون جد الزنى
في كتابكم ؟ فقال : لا و الله ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ،
نجد حد الزنى في كتابنا الرجم ، و لكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا
أخذنا الشريف تركناه ، و إذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقالنا :
تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف و الوضيع ، فاجتمعنا
على التحميم و الجلد ، فقال النبي – صلى الله عليه و سلم -( اللهم
إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) قال به فرجم ، قال : فأنزل الله عز
و جل ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر )
إلى قوله تعالى ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ) أي يقولون : ائتو
محمداً فإن أفتاكم بالتحميم و الجلد فخذوه ، و إن أفتاكم بالرجم فاحذروا ،
هذا و الله اعلم .